منهج المسلم في التعامل مع الابتلاءات والأوبئة

الرسول الخاتِم هو محمد أبو القاسم صلى الله عليه وسلم
نوفمبر 3, 2021
خصائص النبي محمّدٍ المصطفى صلى الله عليه وسلم وميزاته البارزة في العالم
ديسمبر 4, 2021
الرسول الخاتِم هو محمد أبو القاسم صلى الله عليه وسلم
نوفمبر 3, 2021
خصائص النبي محمّدٍ المصطفى صلى الله عليه وسلم وميزاته البارزة في العالم
ديسمبر 4, 2021

الدعوة الإسلامية :

منهج المسلم في التعامل مع الابتلاءات والأوبئة

بقلم : الدكتور سعيد امختاري *

لا تسلم الحياة الدنيا من الابتلاءات والاختبارات ، ولن يجد المؤمن – خاصةً – راحةً تامةً في هذه الحياة ، فهي دار امتحان وابتلاء ، ولله تعالى حكم بالغة في كل ما يحدث في هذا الكون ، وهذا من طباع الأيام التي يعيشها المرء ، قال الشاعر :

ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

وقال آخر :

طبعت على كدر وأنت تريدها      صفوا من الأقذاء والأكدار

وإذا ترك الإنسان هملاً في هذه الحياة ، يواجه الابتلاءات والاختبارات لوحده ، فإنه حتماً سينهي به الحال إلى الانحراف في الفهم والعمل ، لأن العقل الإنساني مهما علا وتطور ، فإنه يبقى ضعيفاً لا يهتدي إلى كل المصالح المرجوة ، أو المفاسد المخوفة المحذورة . فيصل الإنسان إلى حالة من الفوضى والرعب ، والخوف ، والفتن المتلاحقة ، وحينئذ تظهر عليه الأمراض النفسية ، ويلجأ إلى العنف والانحراف ، أو إلى الانطواء والانزواء إلى حد الانتحار ، أو تتوارد عليه الشكوك فينتهي به الأمر إلى خلل كبير في الدين والاعتقاد ، والمعصوم من البشر من عصمه الله تعالى .

ولا يمكن للعبد حصر أنواع الابتلاءات التي يبتلي الله تعالى بها عباده ، غير أن الشرع والعقل السليم دلا دلالةً واضحةً على أن الأوبئة والأمراض من تلك الابتلاءات التي يختبر ويمتحن الله تعالى بها خلقه من البشر .

العقيدة الإسلامية حصن حصين :

والعقيدة الإسلامية أقوى منهج في التعامل مع الأوبئة على   الإطلاق ، وما يعرفه العالم اليوم من أساليب التعامل مع الأوبئة ، يبين عظمة العقيدة الإسلامية في توضيح الرؤية التي غمضت على كثير من الناس .

منذ خلق الله تعالى هذا العالم والإنسان ، لم يترك هذا الخلق عبثاً ولا سدىً ، والله تعالى يقول : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) [ المؤمنون : 115 ] ، ويقول تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] ، والله عز وجل لم يترك هذا الخلق يسير كما يشاء ، بل كما يشاء الله تعالى الخالق البارئ ، فقال عز وجل : ( أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى )       [ القيامة : 36 ] .

لا يتحرك شيئ في هذا الكون ، ولا تتغير دقيقة ولا ثانية من الزمن ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر ، إلا بتدبير الله تعالى الذي قال : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) [ يونس :    31 ] . وقال سبحانه : ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ )      [ الرحمن : 29 ] .

والمؤمن موقن تمام اليقين أن هذا الملك لله تعالى ، يعز فيه من يشاء ، ويذل فيه من يشاء ، ويؤتيه من يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، فقال جل وعلا: ( قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ آل عمران : 26 ] .

والله تعالى لا يخفى عليه ما يحدث في ملك هو سبحانه خالقه ، فقال تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) [ الأنعام : 59 ] ، بل إن كل حركة وسكنة في هذا الكون مهما دقت أو جلت ، تدل على وحدانية الله تعالى وحكمه .

قال الشاعر :

فواعجبا كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كـــل تــحريكـــــــــة  ذو تسكـينة أبدا شاهــــد

وفي كل شـــــيــــئ له آيـــــــــة  تــــدل عــــلـــى أنه الواحــد

فلا تخفى على الله تعالى الأمراض الظاهرة للعيان ، كما لا تخفى عليه الأمراض الخفية وما يسمى اليوم بالفيروسات ، فالله تعالى يعلم السر وأخفى وهو على كل شيئ قدير ، فكما يحاسب على الذرة ، ويجازي عليها ، فكذلك يبتلي بها ، وبأقل منها ، وبأكثر منها ، ويختبر من يشاء سبحانه وتعالى ، وتلك عقيدة المؤمن بربه .

المؤمن في الأوبئة يزداد إيمانا :

إن المؤمن الحق بالله تعالى ، إذا رأى بلاءً من الله نازلاً ؛ سواءً كان عاماً أم خاصاً ، فإنه يزداد إيماناً وتعلقاً بالله تعالى ، مستسلماً لقوته تعالى وقدرته ، خائفاً من عذابه وعقابه ، طامعاً في رحمته   وعافيته ، معترفاً بخطئه وتقصيره ، مقبلاً على الله بالتوبة والندم والاستغفار ، منطرحاً خاشعاً بين يدي الله تعالى ، سائلاً ربه كشف الغمة عنه وعن الأمة ، معتبراً هذه الأوبئة وسائل ينبه الله تعالى بها عباده لعلهم يتضرعون ، ويرجعون ، ويتوبون . قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ الأنعام : 42 – 43 ] ، فالمسلم المستسلم لربه ، يلجأ إلى التضرع عند نزول الأوبئة ، وأما غير المؤمن فلا يزداد إلا قسوةً وتمرداً ، وهذا دأبهم حتى عند كشف الضر والوباء ، قال تعالى : ( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) [ المؤمنون : 75 – 77 ] . بل إن هؤلاء كل ما يأتيهم من الله تعالى لا يزيدهم إلا طغياناً وعصياناً ، قال تعالى : ( وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) [ الإسراء : 82 ] .

فالمؤمن الحق يواجه هذه الأوبئة بالصبر والاحتساب ، والعمل بالأسباب ، وغيره يصارع ويغالب ، حتى لقد طغت في أيامنا عبارات خرجت ببعض الناس عن جادة الصواب ، من قبيل : محاربة فيروس كورونا ، أو الانتصار على فيروس كورونا ، وكلها ألفاظ لا تليق بالمسلم الذي يعلم أن الذي يكشف البلوى ويشفي من المرض هو الله  تعالى ، قال الله جل وعلا : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) [ الشعراء : 80 ] .

ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله حينما تحدث عن أسباب صبر المؤمن على البلاء في نص أود نقله على طوله قال فيه : ” والصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة :

أحدها : شهود جزائها وثوابها .

الثاني : شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها .

الثالث : شهود القدر السابق الجاري بها ، وأنها مقدرة في أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها ، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً .

الرابع : شهوده حق الله عليه في تلك البلوى ، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة ، أو الصبر والرضا على أحد القولين ، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى ، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه .

الخامس : شهود ترتبها عليه بذنبه ، كما قال الله تعالى : ( وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ ) [ الشورى : 30 ] ، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة ، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذى هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة . قال على بن أبى طالب : ما نزل بلاءٌ إلا بذنب ، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة .

السادس : أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه ، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه ، فلينزل إلى مقام الصبر عليها ، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق .

السابع : أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به ، فليصبر على تجرعه ، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً .

الثامن : أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه ، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره . قال الله تعالى : ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 216 ] .

وقال الله تعالى : (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )         [ النساء : 19 ] ، وفي مثل هذا القائل :

لعلّ عتبك محمود عواقبه  وربما صحت الأجسام بالعلل

التاسع : أن يعلم أن المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله ، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه ، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا ؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له ، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة ، وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها ، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب ، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماً عديدةً .

وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة ، وتشجيع القلب في تلك الساعة . والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا ، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات ، وعن الآخر بالحرمان والخذلان ، لأن ذلك تقدير العزيز العليم ، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم .

العاشر : أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء ، والنعمة والبلاء ، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال ، وأما عبد السراء والعافية الذى يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته .

فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة . وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين ، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية [1] .

إن هذه الأسباب التي ذكرها الإمام ابن القيم ، تشكل منهجاً عظيماً قيماً ، مستوحىً من العقيدة الإسلامية ، يسترشد ويهتدي به المؤمنون بربهم ، الراضون بحكمه ، وقضائه وقدره ، ولكن حرم منه الكافرون ، الذين يتكبرون في الأرض على الله وعلى دينه وعباده ، فلم يجنوا هذه الثمرات الطيبة من الابتلاءات والأوبئة ، كما يجنيها المسلمون الموحدون لله تعالى .

رؤية حول وباء هذا العام :

شهد العالم هذا العام وباءً مثيراً ، يسمى فيروس كورونا ، كوفيد 19 ، وهو منذ الوهلة الأولى وباء عالمي مقلق لجميع الدول والهيئات والمواطنين ، وليس غريباً ولا عجباً أن تهتز النفس الإنسانية لهذا الحدث الكبير ، فهو أمر نفسي إنساني طبيعي ، غير أن من الناس من تعامل معه تعاملاً إسلامياً شرعياً ، فأقبل على الله تعالى تائباً مستغفراً مستجدياً رحمة الله ، بالدعاء والتبتل والصيام والقيام ، لعل الله تعالى يكشف الضر والسوء ، وموازاة مع ذلك اتخذ الأسباب الشرعية الدنيوية اللازمة ، والتي تكفلت بها الجهات الوصية المسؤولة ، مثل وزارات الصحة ، فاستجاب المواطنون لأوامر الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي والبحث عن الدواء ، فكان هذا الفريق من الناس – من زاوية الرؤية الشرعية – أقوم منهجاً وأسلم أسلوباً في التعامل مع هذه الجائحة .

وفريق ثان من الناس سخروا من سلوك طريق التعبد والتوبة والإنابة إلى الله ، مدعين أن ذلك لا ينفع في كشف الغمة ، وعلاج الناس شيئاً ، وإنما الكلمة الأولى والأخيرة ، للمختبرات ، والأطباء ،  واللقاحات ، وما عدا ذلك فلا حاجة إليه ، وهذا الفريق من الناس وطريقتهم في التفكير ، يعد مدعاة إلى الرحمة بهم والشفقة عليهم ، ولو نظروا جيداً لوجدوا أن العلاج المادي لم يتحقق بعد ولم يحسم الحسم التام ، في الوقت الذي بقوا فيه بعيدين عن الله والتقرب إليه والانطراح بين يديه سبحانه وتعالى ، وتفويض الأمر إليه ، وهو عين ما يريده الله من عبادة عندما يبتليهم ، ولكن هذا الفريق من الناس عميت عليهم الحكمة من الابتلاء والاختبار ، والله تعالى يهدي عباده إلى سواء   السبيل .

وما أشبه هذا التفكير الخطير ، بتفكير ابن نوح عليه السلام ، حينما حذره أبوه النبي من الكفر والكافرين ، وما سوف يحيق بالكفار من عذاب الله وعقوبته ، فترك ابنه كل ذلك وأعرض عنه ، وتمسك بالأسباب المادية فقط ، مدعياً أنها كفيلة بإنقاذه من الهلاك ، فظن أن الجبال وحدها كافية لكي تنجيه من الغرق ، قال تعالى : ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) [ هود :42 – 43 ] .

إن التمسك بالأسباب المادية بعيداً عن الله جل وعلا ، لن ينفع البشرية في شيئ ، بل على العالم أن يعي أن الابتلاءات المحلية والعالمية ، من أفضل الفرص والمناسبات التي تصحح علاقة البشرية بخالق الكون ، الذي هو الله جل في علاه ، وأنه حتى تلك الأسباب المادية التي يسعى الإنسان نحو إيجادها لن تجدي نفعاً إلا بحول الله تعالى وقدرته وعظمته ، كما لم تنفع الجبال العالية ابن نوح عليه السلام ، وعلى العكس من ذلك فإن أبسط الأسباب المادية كفيلة بإنقاذ البشرية المتعلقة بالله تعالى ، كما أنقذت العصا – وهي من الأسباب المادية – موسى عليه السلام وقومه من فرعون وقومه وجبروته ، قال تعالى : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) [ الشعراء :61 – 65 ] .

لقد آن للبشرية أن تعود إلى الله تعالى ، فذاك هو السبيل الوحيد إلى إنقاذ هذا الكون من الكوارث التي تتهدده ، وعلى الأمة الإسلامية أن تسجل حضورها في هذا المشهد المخيف ، وأن تصحح تمسكها بحبل الله المتين ، وأن تدعو البشرية إلى السير على هذا النهج الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل دلالة البشرية كلها على الرحمة التي خص الله بها العالمين يوم بعث نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام فقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [ الأنبياء : 107 ] .

* الناظور ، المملكة المغربية .

[1] طريق الهجرتين وباب السعادتين ، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية ( المتوفى : 751هـ ) ، دار السلفية ، القاهرة ، مصر ، الطبعة : الثانية ، 1394هـ ، ص : 277 .