استراتيجية ……… وإخفاق
سبتمبر 12, 2022ثقافتنا وتحديات العصر
نوفمبر 5, 2022صور وأوضاع :
معسكران في العالم الإسلامي
محمد فرمان الندوي
ومن كل شيئ خلقنا زوجين :
ما زال العالم منقسماً منذ قديم الزمان في فرقتين مختلفتين : حق وباطل ، وصحيح وخاطئ ، وطيب وخبيث ، ولا استغراب في ذلك ، فإن هذا النظام الكوني الذي نعيش فيه خُلق مزدوجاً ، فليس هناك ذَكر ، إلا ومعه أنثى ، وقس على ذلك الأبيض والأسود ، والشرق والغرب ، والشمال والجنوب ، قال تعالى : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات : 49 ) ، إن تاريخ النوع البشري يشهد أن الشيطان قد أتى بشيئ عجيب لم يوجد من قبل ، وهو عصيان الله تعالى ، وعدم السجود لآدم عليه السلام ، فأخرجه الله من الجنة مذءوماً مدحوراً ، وقد أنظره الله تعالى بطلب منه إلى يوم يبعثون ، فابتدأ من هنا صراع بين الحق والباطل .
جرى تاريخ المصلحين والمفسدين من هذا المنطلق ، فكان في أتباع كل نبي من الأنبياء والرسل مصلحون ومفسدون ، كان قابيل في زمن آدم عليه السلام ، وهو الذي قتل هابيل ، وكان كنعان في زمن نوح عليه السلام ، وهو الذي عصى الله تعالى ، فأغرقه الله في طوفان نوح مع العصاة المجرمين ، وكان في زمن إبراهيم نمرود الذي ادعى بالألوهية الكاذبة ، وكان في زمن موسى عليه السلام فرعون وقارون وهامان الذين غرَّهم ملكهم ومالهم وجاههم ، فأهلكهم الله تعالى شر إهلاك ، وكان في زمن عيسى عليه السلام اليهود الذين رفعوا قضيتهم إلى المحكمة الرومية ، فصدر منها قرار لإعدامه ، لكن الله تعالى رفعه إلى السماء ، والتبس عليهم ، وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو لهب وأبو جهل وأمية بن خلف وبعض رؤساء اليهود ، الذين لقوا مصرعهم في أسوء حال ، وكل ذلك يرجع إلى أن الله تعالى قال : ( فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ ) ( الرعد : 17 ) .
عدوان متناقضان :
هؤلاء الأعداء والمفسدون كانوا علناً وجهاراً يصدون الناس عن سبيل الله تعالى ، ويعوقون مد الإسلام ، ويقيمون في سبيله حواجز ومعوقات ، فإن ما أبدوا من عواطف نارية ، ونوايا عدائية كان قليلاً من العداء الذي يختفي في صدورهم ، ويغلي غليان الماء ، ويجيش جيش المرجل ، وقد اختاروا لذلك أساليب ماكرةً ، وطرقاً معسولةً ، فمن هنا كان للعدو قسمان : عدو يعيش بين يديك ، وأنت تراه ، وتسمع منه ، وهو ممتلئ غيظاً وحقداً ، وعدو أنت لا تحسبه أنه عدو ، لكنه يعاديك ويخالفك ، ويستهدف أساس الإسلام ، ويهجم على الإيمان والعقيدة ، ويبذر بذور الشكوك والشبهات في العقول الناشئة ، فهذا العدو أشد خطراً وأسرع إبادةً من العدو الأول ، وكان في العصر الأول نماذج لهذين النوعين من العدو : العدو الظاهر ، العدو المختفي عن أعين الناس ، وقد سمى القرآن النوع الثاني منه المنافقين ، فهم يندسون في مجالس المسلمين ، ويثيرون بينهم عداوات وحزازات ، كما يلقون في قلوب المخلصين منهم الشك والريب ، فكما كانت فعلتهم شنيعةً ، كذلك جعل الله لهم عقوبةً في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا فإن لهم خزياً وندامةً وحسرةً لا تنقطع ، وأما في الآخرة فكما يقول القرآن الكريم : ( إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ) ( النساء : 145 ) ، والدرك الأسفل هي الهاوية .
معسكران في العالم الإسلامي :
كان كلا النوعين من العداء في كل زمن من الأزمان ، لكن النوع الثاني قد ظهر في الآونة الأخيرة في صورة لماعة ، واختار له صوراً قشيبةً وألواناً مزركشةً انخدع بها الناس رجالاً ونساءً ، وأطفالاً وشباباً ، وهو يُعرف بالغزو الفكري ، فكان هناك غزوان على العالم الإسلامي : غزو عسكري وغزو فكري ، إن الغزو العسكري لم ينته الآن ، وتوجد هناك معسكرات ومخيمات يلتجئ إليها الناس ، ويركنون إليها وقت الحاجة ، كان قبل عقود من السنين معسكران اثنان قويان : معسكر روسيا ، وهو يُعرف بالاتحاد السوفياتي ، ومعسكر أمريكا ، وهو يُعرف بالولايات المتحدة الأمريكية ، وكلاهما كانا يحكمان العالم ، وانقسمت الدول إليهما ، ولكن سرعان ما تفكك النظام السوفياتي ، وتبعثرت وحدته وتجمعه ، واستقلت الدول التي كانت تحت سيطرتها ، وانكمش معسكر روسيا ، وانحصر في دوائر ضيقة ، لكن هذا المعسكر يملك من أدوات الحرب والإبادة رغم انفكاكه وتشتته ، ما لو استخدمت لكان العالم على فوهة بركان ، وقد جرَّبت روسيا منذ ستة شهور بعض هذه المعدات الحربية ، فاختل نظام أوكرانيا ، وتأثر به العالم بأجمعه ، أما المعسكر الأمريكي فإنه قد اتسع نطاقه بعد انحطاط المعسكر الروسي ، وإنه قد ابتكر فكرةً جديدةً وهي تسمى العولمة ، وهي ظاهرة عالمية تجعل العالم قريةً إلكترونيةً واحدةً تترابط أجزاؤها ، وذلك من تبادل المنتجات والمعلومات والتكنولوجيا والوظائف ، ولها مجالات متعددة ، منها العولمة الثقافية والعولمة الثقافية والعولمة السياسية والعولمة الإعلامية ، وهذا المعسكر أكثر تأثيراً وأشمل نفوذاً من المعسكر الروسي ، لكن يتحداه بعض القوى في العالم ، وهو يواجه عراقل ومعوقات في سبيل تنفيد مشاريعها العولمية .
صراع بين الحق والباطل :
وقد اختار هذا المعسكر قديماً مع الغزو العسكري وسائل الغزو الفكري ، وذلك منذ انهزامه في الحروب الصليبية التي دامت من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن الثالث عشر الميلادي ، فنشأت أفكار ونظرات مثل المنهج الاستنباطي لديكارت ، والمنهج التجريبي لفرانسيس بيكن ، والمنهج الوضعي لكومت ، ونظرية التطور والارتقاء للإصلاح لدارون ، ونظرية الإلحاد لكارل ماركس ، ونظرية المكيافيلي التي تقول : الغايات تبرِّر الوسائل ، ونظرية الحرية التي انتحلها روسو وغيره ، ثم نشأت حركات ومذاهب ، دعمت الغزو الفكري ، وقامت بنشرها على مستوى عالمي ، ومن هذه النظريات الماسونية والاستشراق ، والتغريب ، وحركات التنصير ، والديمقراطية ، والاشتراكية ، والقومية والوطنية والاستعمار ووسائل التعليم والإعلام وغيرها من الأفكار الهدامة التي تغزو العالم الإسلامي بسمومها الفتاكة وأوضارها المهلكة .
على الرغم من هذه المخططات المسيئة إلى الإسلام لم يتنفس العلماء المسلمون الصعداء ، ولم يكونوا مكتوفي الأيدي ، ومعقودي الألسنة ، فبذلوا مجهودات بالغةً ، للحد من هذه المحاولات ، ذلك لأنهم عرفوا رجال أوربا ، كيف تعلموا في مدارس المسلمين في الأندلس ، واقتبسوا منها كل ما كانوا يحتاجون إليه من علوم وفنون ، فقامت لمقاومتها جمعيات ومنظمات ومدارس إسلامية نشرت الفكر الإسلامي الصحيح على الصعيد العالمي ، وقامت دور النشر والمكتبات العلمية التي اهتمت بطبع كتب ومؤلفات كشفت عن الوجه الكالح للغرب ، وأزاحت الستار عن حضارة أوربا وتاريخها المظلم ، أمثال مصطفى السباعي ، ومالك بن نبي ، ومحمد المبارك ، ومحمد البهي ، والشيخ المودودي ، والشيخ السيد أبو الحسن الندوي ، ومن عجيب قدرة الله تعالى أنه قد شهد شاهد من أهلها ، بحيث قيض الله رموزاً وأعلاماً من المجتمع الأوربي كانوا على ديانات يهودية ونصرانية ، ثم اعتنقوا بالإسلام ، فشرحوا الفكر الإسلامي أصدق شرح ، وألفوا كتباً ، دحضوا فيها الأفكار الغربية وكشفوا زيفها ، ودافعوا عن الإسلام ، أمثال محمد أسد ، ومريم جميلة ، وموريس بكائي ، وجارودي ومراد هوفمان وغيرهم .
ليمحص الله الذين آمنوا ، ويمحق الكافرين :
هذه إشارة خاطفة للصراع العسكري والفكري بين الحق والباطل ، وهو ما زال قائماً منذ رفض إبليس سجود آدم عليه السلام ، ولا يزال إلى يوم القيامة ، وهو صراع يُمتحن فيه إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين ، فالسعيد من وفقه الله تعالى للخوض في هذا الصراع وخروجه منه سالماً بإيمانه وعقيدته ، والشقي من باع دينه بعرض من الدنيا ، ولم يسلم إيمانه وعقيدته ، قال الله تعالى : ( أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ ) ( العنكبوت : 2 – 3 ) ، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج ، قالوا : وما الهرج يا رسول الله ! قال : القتل القتل ( رواه مسلم ) .