قضية تعليل الأحكام عند الأصوليين والمتكلمين
يناير 6, 2021قواعد في حل قضايا معاصرة بشأن الصيام
مارس 31, 2021الفقه الإسلامي :
مبادئ السلم في الشريعة الإسلامية ومقاصده !
الدكتور مصطفى البعزاوي *
معلوم عند علماء فقه المقاصد أن مقصود الشرع من الخلق خمسة : أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم ، وزاد على هذه الخمسة الطاهر بن عاشور : حفظ الحرية وأن الغاية من الرسالة الرحمة بالخلق الإنس والدواب والحجر والشجر .
كما أن المقاصد تعين المثل العليا وتحقيقها ، ومن المثل العليا العدل والمساواة والتسامح والتعاون والتعارف ، وأن الأصل في الإسلام السلام وتأمين الناس على أرواحهم وأموالهم [1] .
ومن هنا فإن للسلام أهمية كبيرة في حياتنا لأن عدم وجوده يعني انتشار الحروب والخراب والدمار ، وكل واحد من بني آدم يحتاج للسلام والأمان من أجل إقامة شعائره الدينية بحرية وإتقان ، فكيف يؤثر السلم على الفرد خاصة وعلى المجتمع ككل عامة ؟
السلم وأثره على الفرد :
لا يمكن إهمال الدور الذي يحتله كل من السلام والتصالح والرحمة في الحياة البومية ، فقد خلق الإنسان ليعيش في سلام وأمان واطمئنان ، ولم يخلق ليقتل ويباد . ويمكن تلخيص أهمية السلام في حياة الفرد بالنقاط الآتية :
السلم يحول الرديئ إلى حسن :
فالجنس البشري يمتلك صفةً فريدةً من نوعها وهي تحويل السالب إلى موجب ، وهذه الصفة لا يمكن أن تتحقق إلا بالاستقرار النفسي الذي يحققه السلام ، فدماغ الإنسان كنز للقوة اللامتناهية ، فإذا فقد طمأنينة النفس وقت الأزمات والحروب فإنه لن يستفيد من قدراته العقلية بطريقة مجدية ، حيث إن الحروب والدمار عقبة في طريق التطور البشري لأنها توقف مسبباته من طمأنينة وسكينة واستقرار . فحين يتمكن الإنسان من المحافظة على السلام في كل الأوقات فإن كثيراً من الإمكانيات تتفتح أمامه ، وهذا ما يحدث عند تحويل السالب إلى موجب .
السلم يحمي الإنسان من المرض :
فانعدام السلم والأمن يتسبب بعدد من الاضطرابات والأمراض النفسية للأفراد ، وقد تجر هذه الأمراض النفسية أمراضاً جسمانيةً فتتفشى بين كثير من الأفراد .
السلم أكبر وسيلة لتحقيق أمن الفرد :
فالأمن يعد من أهم مقومات حياة الفرد وضرورة أساسية لكل جهد بشري ؛ فهو يمثل قرين الإنسان وشقيق حياته ، والفيء الذي لا يمكن للبشر العيش إلا في ظله . ومن الجدير بالذكر أن وجود الأمن يحقق الهدف من خلافة الإنسان في الأرض ، فهو يسمح للفرد بتوظيف ملكاته وإطلاق مهاراته ، وقدراته ، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة ، ومعطيات الحياة لعمارة الأرض ، كما أن شعور الإنسان بالأمن يسمح له بالاطمئنان على نفسه ومعاشه وأرزاقه ، وبذلك سيحقق الأمن الراسخ مصالح الأفراد [2] .
فإن من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان – بعد نعمة الدين والإسلام – نعمة الأمن والاستقرار .
لذلك جعل حاجة الإنسان للأمن والاطمئنان كحاجته إلى الطعام والشراب والعافية للأبدان ، كيف لا وقد جاء الأمن في القرآن والسنة النبوية مقروناً بالطعام الذي لا حياة للإنسان ولا بقاء له بدونه ؟! وقد امتن الله به على عباده وأمرهم أن يشكروا هذه النعم بإخلاص العبادة له فقال تعالى : ” فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ . ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ” [3] .
المحور الأول : السلم وأثره على المجتمع :
دلت نصوص متعددة على أهمية السلم الاجتماعي وأشاد الإسلام بحسن الخلق كوسيلة للحفاظ على السلم والأمن في حياة المسلم وفي تعامله مع الآخرين ومنها ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ” [4] .
إن الدين الإسلامي يعتبر السلم الاجتماعي فريضةً واجبةً وجوباً شرعياً وليس حقاً فقط ، إنه فريضة عينية على الفرد تجاه مجتمعه ، وفريضة عينية كذلك على الدولة تجاه مواطنيها .
بل يصنف علماء الشرع ” السلم الاجتماعي ” كضرورة من ضرورات ” العمران الأخوي والإنساني ” ، استجابةً للنداء القرآني : ” يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ” [5].
ولذلك فالمنطق القرآني يدعو صراحةً إلى السلم الاجتماعي كمدخل للأمن العام باعتباره محدداً لاستقرار البلاد وسعة أرزاق العباد ، وحافزاً للإنتاج والإبداع والابتكار .
فإن إبراهيم الخليل – عليه السلام – فطن وتنبه لأهمية السلم الاجتماعي في دعائه الحضاري ، كما يحكي لنا القرآن ذلك : ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ” .
فالفلسفة القرآنية للسلم الاجتماعي تتأسس على قواعد لحماية الإنسان في معاملاته وحياته وممتلكاته وسمعته ، وتحرره من كل ما يرهبه فكراً ووجداناً ، جاء في الحديث النبوي الشريف : ” المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره . التقوى ههنا ( وأشار إلى صدره الشريف ) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ” [6] .
كما أن الدين الإسلامي يحمي الإنسان من الاحتقار والسخرية والإهانة والإشاعة والتجسس ، ويعالج منبع الأحكام المسبقة بتحريم ” سوء الظن ” والنهي عن مثيرات الكراهية في المجتمع قال تعالى : ” يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ . يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” [7] .
كل هذه الضمانات والتأمينات التي يكفل بها الإسلام عوامل السلم الاجتماعي لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبني بلداً آمناً دون أن يعيش أفراده أمناً داخلياً وسلماً اجتماعياً يمشي بين الناس .
كما أن العدل هو من يثمر السلم الاجتماعي لأن المجتمع المضطرب والظالم لأهله ، المستضعف لولدانه ونسائه هو مستنقع للفساد والاستبداد ، لا مكان فيه للتنافس الشريف وللمواطنة الحقة ولا وجود فيه للتماسك بين أفراده .
ومن هنا أرى أن السلم أُتْرُجَّةُ العدل ، ريحه طيب وطعمه طيب ، والفوضى حنظلة الظلم ، طعمها مر وريحها خبيث .
فالعدالة هي أول مسلك لبناء السلم الاجتماعي ، ولهذا كان المسؤول الأول في الأمة هو : ” أول السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله : إمام علال ” [8] .
يروي لنا التاريخ نموذجاً راقياً لهذه العدالة ، ومثالاً منقطع النظير حسدته إرادة الحاكم المسؤول عن ضمان السلم الاجتماعي يحكى أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ماراً بجوار بيوت المسلمين ليلاً ، متفقداً أحوال الناس ، فسمع ضجةً بأحد المنازل فاقترب من الباب ليستمع ، ثم تسور الجدار ونزل منه فوجد رجلاً وامرأةً في حالة سكر وحميمية .
تقول الرواية : إن الخليفة عمر قال للرجل : يا عدو الله أكنت ترى أن الله يسترك وأنت في معصية ؟ فقال الرجل – الذي يعرف جيداً نظام دولة الحق والقانون العمري – : يا أمير المؤمنين أنا عصيت الله في واحدة ، وأنت عصيته في ثلاث ( كذا ) . الله يقول : ” وَلاَ تَجَسَّسُواْ ” [9] وأنت صعدت الجدار ونزلت منه والله يقول : ” لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ” [10] وأنت لم تفعل ذلك ” [11] .
وهكذا لم يجد الحاكم العادل الفاروق أي مسوغ لإلقاء القبض عليه لأن الإجراءات القانونية كانت مشوبةً بالعيوب ، فكان الاتهام باطلاً فعمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو الوقاف على الشرع – يعلم أن إطلاق اليد بغير موجب قانوني على حقوق الناس من شأنه أن يحدث الفوضى في النظام العام نتيجةً لهذا الظلم الاجتماعي .
فالمتمعن في هذا الحدث سيصل إلى أن العدالة الاجتماعية تطمئن لها القلوب وتستريح لها النفوس ، ويقوم بها وعليها السلم الاجتماعي في أبهى تجلياتها الإيمانية قال تعالى : ” ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ” [12] .
وكذلك من ضمانات السلم الاجتماعي أيضاً العيش الكريم والتوزيع العادل للثروة انطلاقاً من مبدأ : ” كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ ” [13] .
كما أن هذا التماسك السلمي في المجتمع كان أولى الأولويات في بداية تكوين جماعة المسلمين بالمدينة .
تقول كتب السير : إن الصحابة رضي الله عنهم ضاقوا ذرعاً بأبي بن سلول ، زعيم حركة المنافقين الذين كان يحضر الصلوات مع المسلمين في المسجد ، ويغشى مجالسهم ويمدح نبيهم ، وفي نفس الوقت يخطط مع قبائل يهودية محيطة بالمدينة بتنسيق مع جبهة قريش من أجل قلب موازين القوى وتجفيف منابع الإسلام والقضاء عليه .
وفي أحد المناسبات طلب بعض من هؤلاء الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم السماح لهم بقتل أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة ، ولكن الرسول الكريم الذي كان على علم بنوايا ابن سلول وتحركاته ، قال للصحابة : ” أتريدون أن تتحدث القبائل أن محمداً يقتل أصحابه ” [14] ، منبهاً إياهم للدعاية الإعلامية التي يمكن أن تهز السلم الأهلي بالمدينة المنورة وقتها جراء إعدام أبي بن سلول ، خاصةً وأن هذا الأخير له رهط داخلي يسانده ودعم خارجي يؤازره . فهنا اقتضت الحكمة النبوية أن يكون للسلم الاجتماعي الأولوية في الدافع الأرضي ، لأن اغتيال أكبر حجم سياسي في تلك المرحلة يعني فقدان الثقة عند المسلمين ذوي القرابة من ابن سلول في المحيط النبوي ، مما قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية بين الأوس والخزرج وطرد المهاجرين من المدينة ثم انهيار الدولة الفتية .
فإن المتأمل أيضاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد أنها قد أعطت موضوع السلم الاجتماعي الاهتمام الكبير لكونه غاية ومقصد شرعي معتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية . وقد تضافرت في ذلك مجموعة من النصوص على اعتباره ، قال صلى الله عليه وسلم : ” من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده . عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” [15] ( معافى في جسده ) أي صحيحاً بدنه [16] . وهذا الحديث يبين أهمية الأمن في حياة المسلم لكونه نعمةً عظيمةً من بها الخالق سبحانه فيجب المحافظة عليها ، فمن أصبح آمناً في نفسه من تربص الأعداء وكل من يروع أمن المسلمين ، وبصحة جيدة وعنده ما يكفيه من طعام فقد جمعت له الدنيا بخيراتها ، وهذه النعم لا بد من توافرها في المجتمع الإسلامي حتى ينعم بالاستقرار ويتحقق فيه السلم الاجتماعي [17] .
ومن كل ما تطرقنا إليه استخلص أن السلم هو الأصل في العلاقات بين الأشخاص والمجتمعات الإنسانية والدول وهو تشريع إلهي يحاكي الفطرة السليمة للإنسان لأن الأصل في الحياة هو السلام والبحث عن أسباب الأمن والاستقرار والرخاء ، والبعد عن كل ما يؤدي للخراب والحروب والدمار وتدمير القوى وتبديد الخيرات .
* كلية الآداب والعلوم الانسانية، وجدة/ المغرب،dr.bouazzaoui@ump.ac.ma
[1] القواعد الكبرى للتعايش السلمي من خلال القواعد الكلية ، لعبد العزيز العوضي ، ص 11 .
[2] الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام ، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ، ص 2 – 3 .
[3] سورة قريش ، الآية 3 – 4 .
[4] أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .
[5] سورة البقرة ، الآية 208 .
[6] صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، رقم الحديث 2564 .
[7] سورة الحجرات ، الآية 11 – 12 .
[8] صحيح البخاري ، كتاب الزكاة ، رقم الحديث 1423 .
[9] سورة الحجرات ، الآية 12 .
[10] سورة النور ، الآية 27 .
[11] عبقرية عمر ، لعباس محمود العقاد ، ص 137 و 138 .
[12] سورة الأنعام ، الآية 82 .
[13] سورة الحشر ، الآية 7 .
[14] السيرة النبوية ، لابن هشام ، الجزء 3 ، ص 200 .
[15] الأدب المفرد للبخاري ، باب من أصبح آمناً في سربه .
[16] فيض القدير ، للمناوي ، الجزء 6 ، ص 68 .
[17] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للمبارك الفوري ، ج 7 ، ص 9 .