البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الفتح والحجرات )
مايو 3, 2021البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي ق والذاريات )
يونيو 2, 2021التوجيه الإسلامي :
لا بد من أولي بقية ينهون عن
الفساد في الأرض في كل زمان
الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ، محمد وآله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين .
أما بعد ! فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) [1] .
بلاغة كلمة ” أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ” :
سادتي وإخواني ! هذه آية من سورة ” هود ” كلما تلوتها اقشعر جلدي وثارت في المشاعر ، إن الآية في أسلوب قرآني مؤثر مرقق ، لا أجد تعبيراً يعني بحق هذه الآية ، يقول الله تبارك وتعالى : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ) ، إن كلمة ” أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ” كلمة لا يفي بها تعبير ولا شرح ولا تفسير ، يعني لماذا لم يكن حين انتشر الفساد في قطعة من الأرض وفي العالم – كما كان الشأن في القرن السادس المسيحي ، في الجاهلية العالمية التي طبقت الآفاق ( ولا تصوير أدق من تصوير القرآن ( ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ٱلَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [2] – أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ ؟
وهذا أسلوب القرآن يحيل على الماضي ، ولكنه يثير في المعاصرين لنزوله المباشرين لتلاوته ، الشعور بالمسئولية في الحاضر ، فإن القرآن هو الكتاب الخالد الذي لا تبلى جدته ، هو الكتاب الذي يعاصر الأحداث ويعاصر الأمم والأجيال ، ولا يساير الزمن فحسب ، بل يسبق الزمان ويقود البشرية ، فيرجع بنا إلى الماضي لنرجع إلى الحاضر والمستقبل [3] ، فكأنه يقول لماذا لا يكون في الجيل المعاصر لنزول القرآن ، والأجيال المخاطبة بالقرآن في كل زمان ومكان أولو بقية ؟ و ” أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ” كلمة لو ألف كتاب ضخم في شرح هذه الكلمة ” أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ” ولماذا يوصفون بأولى بقية ، وما هو الفرق بينهم وبين سائر الناس ، لقصر القلم ، وعجز اللسان ، وانتهى الكتاب .
البشرية وتعرضها للتدمير والإفساد :
إن البشرية ، أيها السادة ! ما زالت ولا تزال هدفاً لعوامل التدمير والإفساد ، منها عوامل داخلية باطنية ، من الشهوانية ، والأنانية ، وعبادة النفس ، وحب اللذات ، ومن قصور النظر ومن الانصراف إلى الدنيا والخضوع للمادة والقوة ، ولعوامل الشذوذ والانحراف ، ومنها عوامل خارجية ، من فساد البيئة والمجتمع ، وسوء التعليم والتربية ، وانحراف القوانين والنظم ، والإنسان يعيش في الواقع ، لا يعيش في الأحلام والأماني ، ولا يعيش في الفلسفات والتصورات ، يسعى على قدميه ، ويتنفس في الهواء ، فإن كان الهواء فاسداً تنفس الفاسد ، وإن كان الهواء عفناً تنفس العفونة ، وإن كان الهواء صالحاً نقياً ، تنفس النقي الصالم ، فلا يستغرب أن ينتشر الفساد الخلقي والفساد الاجتماعي انتشاراً عاماً إذا توافرت أسباب قاهرة لإفساد مجتمع خاص ، هذا وقع آلافاً من المرات ، وسيقع مراراً إذا كان في الوقت متسع ، وللدنيا أجل ممدود .
ولكن المعول على وجود طبائع صالحة ، وضمائر حية ، وعقول نيرة ، وعقائد جازمة راسخة ، ودعوات قوية مؤثرة ، والعمدة على خلفاء الأنبياء عليهم السلام ، وعلى حملة الرسالة ومشاعل النور ، ليس من الغريب أن يمرض الإنسان ، وليس شيئاً مروعاً مؤيساً ، الغريب المروع المفزع هو فقدان الطبيب ، وهو الذي حذرت منه الديانات السماوية ، وحذر منه الأنبياء – وسيد الرسل صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفة خاصة – وهو أن يفقد الأطباء ، ويفقد التألم النفسي بالفساد ، ويفقد من يواجهه وجهاً لوجه ، ويقف في تياره كالسد المنيع والطود الشامخ الذي لا يتزلزل ، ينتشر الفساد ولا يجد مقاومةً ، ينتشر الفساد ولا يجد تحدياً ، ينتشر الفساد ولا يجد منكراً أو مستنكراً ، هذا هو البلاء ، هذا الذي عرض الركب البشري للنار أو الدمار ، والانتحار والانهيار ، وساد الفساد على المجتمع الإنساني كله ، وهو الذي يصوره القرآن بقوله المعجز البليغ : ( ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ ) [4] .
فالشيئ المثير للتأمل والقلق ، هو عدم وجود الأطباء الناصحين ، المتألمين المستنكرين لهذه الأوضاع الفاسدة ، الذين لا يطيب لهم طعام ولا شراب ولا نوم في هذا الوضع ، ويتعكر عليهم صفو الحياة ، فالشيئ الأساسي الرئيسي هو وجود أولي بقية ، عندهم أثارة من شعور ، وبقية من غيرة إنسانية ، ومن حياة الضمير ومن الوعي الصحيح الديني ، بقية من التألم والاهتمام بمصير الإنسانية أو الاهتمام على الأقل بمصير المجتمع الذي يعيشون فيه ، وهؤلاء أولو بقية ما زالوا في كل فترة حالكة ، يبرز وجههم في فساد المجتمع ويقومون ، يتحدون الفساد ويصرخون به ، ويخاطرون بمستقبلهم في سبيل الدعوة والإصلاح ، كما يقول القرآن عن سيدنا صالح عليه السلام : ( قَالُواْ يٰصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) [5] ، فكثير من المرجويين الذين كان لهم الغد المضمون والمستقبل المشرق ، كانوا يخاطرون بمستقبلهم وبإمكانياتهم ، ويجازفون بحياتهم ويخاطرون بأهلهم ، ويتحدون الباطل ويقفون في وجه الفساد ، ويقولون : لا نرضى بهذا الوضع أبداً ، قد كان هؤلاء أولي بقية في بعض الأحيان أفراداً يعدون على الأصابع ، وقد كان هؤلاء جماعة أو أمة في الزمن الذي عمَّ فيه الفساد وتفاقم الشر ، بحيث خرج إصلاح الحال من دائرة إمكان أفراد ، مهما أوتوا من المواهب ، ومهما أوتوا من الذكاء ، ومن النفوذ على النفوس ، وامتلاك ناصية البيان واللسان ، فقد كان الفساد أوسع وأعظم من أن يقف في وجهه أفراد أفذاذ من الناس ، هنالك أرادت مشيئة الله تعالى أن تنهض أمة .
البعثة المحمدية بعثة مزدوجة :
وهذه قضية القرن السادس المسيحي الزمن الذي سبق الإسلام ، كان الفساد أوسع من أن يقوم له أفراد ، ولو كانوا عماليق في الفكر ، عماليق في قوة الإرادة وفي الشجاعة وفي الإخلاص ، ولكن لم يكن هذا يدخل في نطاقهم ، هنالك أراد الله أن تقوم أمة ، ولذلك قرن الله سبحانه وتعالى بعثة آخر الرسل ، وسيدهم وخاتمهم ببعثة أمة بأسرها ، كانت بعثته صلى الله عليه وآله وسلم بعثةً فرديةً تتجلى في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو النبي الذي ختم به الله تبارك وتعالى الرسالات والنبوات ، فلا نبي بعده ، قرن هذه البعثة ببعثة أمة ، لأن المهمة ضخمة جداً ، وهي الأمة الإسلامية ، والقرآن استخدم تعبيراً يدل على أن هذه الأمة التي رافقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته ، وفي دعوته ، وفي سلوكه ، وفي حمل رسالته ، هذه الأمة لم تكن أمةً من الصدف ، ولا كالحشائش الطفيلية التي تنبت في الحقول غير مقصودة ، إنما هو نبت إلهي ، نبت رباني مقصود ، أراد الله أن تقوم هذه الأمة بأسرها كحاملة الرسالة ، فاستخدم لها القرآن تعبيراً يختلف عن تعبير الأمم السابقة ، قال : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [6] . هذا الشعور الذي كان يحمله الصحابة رضي الله عنهم حتى الذين لم يكونوا على مستوى رفيع جداً من الثقافة والتربية النبوية ، كأن هذا الشعور قد انتشر في أفراد هذه الأمة على اختلاف مستوياتهم .
لما كان الفساد مخيماً على العالم الإنساني كله في القرن السادس المسيحي ، وكان الظلام حالكاً قاتلاً ليس قاتماً ، قاتلاً للضمائر ، قاتلاً للنفوس ، قاتلاً للعقول ، كان إصلاح الأوضاع خارجاً من إمكان أفراد ، مهما بلغوا من قوة الإرادة ، ومهما بلغوا من الذكاء ، وامتلاك الوسائل والأسباب ، هنالك بعث الله أمةً بأسرها لتحارب هذا الفساد المنتشر حول هذه الأمة وحول هذه الجزيرة .
صفات امتاز بها أفراد هذه الأمة :
ولكن كيف كان ذلك ؟ إنما كان ذلك بصفات امتاز بها أفراد هذه الأمة في الأمم ، منها قوة الإيمان وعمقه في نفوسهم وتغلغله في أحشائهم ، وكتب السيرة والتاريخ طافحة بأمثلته ، فقد كان مدى إيمان الصحابة رضي الله عنهم بمواعيد الله تعالى ، وبمواعيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فوق ما يتصوره الإنسان ، ثم حسن الخلق واستقامة السيرة ، ثم بساطة المعيشة والتقشف في الحياة ، والبعد من البذخ والترف اللذين ابتلعا الأمة الرومانية والأمة الفارسية ، ونخرتهما كما ينخر السوس العود ، الترف المدمر ، الفاتك بالكفايات ، الفاتك بالطبيعة البشرية .
والذي أخشاه على الأمة العربية ، والذي أخشاه على المجتمع العربي الإسلامي الكريم ، هو أن تكون مثالاً أو تكون نموذجاً لتلك المدنية المصطنعة ، المدنية التي حادت بهم عن كل مكرمة وعن كل بطولة .
لما أراد الله بالأمة العربية أن تكون ( أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأَرْضِ ) اصطفاها الله تبارك وتعالى وجعلها أمةً متقشفةً ، قوية الخلق ، كريمة السيرة ، حية الضمير ، تحمل قلباً متألماً متوجعاً للإنسانية ، وخلق في نفسها من الرحمة للبشرية ما لا يبلغها قياس ، ترق نفوسهم للبشرية ، وتدمع عيونهم على حاضر البشرية ومستقبلها ، وينسون أولادهم وأهلهم وأنفسهم في سبيل إخراج البشرية من هذا المستنقع المتعفن الذي كانت تتردى فيه ، خلقهم من جديد ، كأنهم ولدوا في الإسلام ولادةً جديدةً ، لا يشبهون حياتهم الجاهلية في شيئ ، كأنهم نبتوا من الأرض أو نزلوا من السماء ، إنسان غير إنسان ، وبشر غير بشر ، يصف الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم ، فيقول : ” أبر الناس قلوباً ، وأعمقهم علماً ، وأقلهم تكلفاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإعزاز دينه ” ، ولما استفسر قيصر الروم – الإمبراطور هرقل – الفلول المنهزمة من الجيش الروماني الداحر للفرس في الأمس القريب ، وسأل قادتها لماذا تنهزمون كل يوم ومعكم الجيوش الجرارة التي دوخت إيران بالأمس ، ما السر في ذلك ؟ لماذا تنحسرون بهذه السرعة ، من هم هؤلاء ؟ أهم من الجن ؟ أم من العفاريت ؟ والله صفهم لي ، فقال أحد قادة الرومان ، هل تسمح لي يا صاحب الجلالة بالوصف الصحيح ؟ قال : نعم ، قال : هم ” فرسان بالنهار رهبان بالليل ، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربوا حتى يأتوا عليه ، فقال : لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين ” [7] .
فاختار الله الأمة العربية ، وأفاض عليها لباساً جديداً من السيرة البشرية ، ومن الأخلاق الإنسانية ، بفضل القرآن ، وبفضل التربية النبوية ، فكانت هذه الأمة شامة بين الأمم ، منارة نور في بحر الظلمات . إذا كانوا أصحاب يسار وسعة في الرزق كانوا متقشفين ، وإذا كانوا تجاراً كانوا أمناء صادقين ، وإذا كانوا حكاماً أو قضاةً كانوا عادلين ، وإذا كانوا عملةً أو خدمةً كانوا ناصحين مجتهدين ، وإذا كانوا رؤساء كانوا متسامحين راحمين ، وإذا كانوا في الماضي لا يفكرون إلا في نفوسهم وعيالهم ، أصبحوا يفكرون في الإنسانية كلها ، وإذا كانوا في الجاهلية ينامون الليل كالأموات ، أصبحوا يحيون لياليهم بالذكر والتلاوة ، وإذا كانوا يجمعون الأموال لأنفسهم سابقاً ، عادوا يبذلون الأموال لغيرهم ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، فما تمكن العرب من فتح العالم – كما يقول كبار مؤرخي أوربا أنهم فتحوا نصف العالم في نصف قرن ، وهذه معجزة تاريخية – وما استطاعوا ذلك إلا بفضل سيرتهم الخاصة ونمط حياتهم والمزايا التي كانوا يمتازون بها ، والسمة التي كانوا يتسمون بها .
يا إخواني ! يقول الله تبارك وتعالى : ولو كان كلام البشر لقلت يقول متحسراً متفجعاً ، ولكن جل الله عن ذلك ، جل عن التفجع والتوجع ، ولكن يجب علينا أن نقرأ هذه الآية متفجعين ومتوجعين ، وهذا دورنا في التدبر في القرآن ، القرآن نزل وحفظ ، وهو لا يختلف في أي زمان ومكان ، ولكن يجب علينا أن نستشعر في أعماق نفوسنا بالروح التي تسيطر على هذه الآية ، فنقرأ متفجعين متوجعين ، متحسرين متألمين ، قول الله تبارك وتعالى : ( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ) . تأملوا في قوله تعالى : ( وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ) هذا كان شأن الأمم في كل زمان ، فقد اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين . فقد تهالكوا على أدوات الترف والبذخ وتنافسوا فيها ، واقتبسوها واستوردوها من الخارج ومن الشعوب السابقة فيها ، المخترعة لها ، ليس لها خيار ولا ابتكار ، ولا وقوف عند حد واستقرار .
المسلمون هم أولو بقية في هذا الزمان :
إن ضمير النوع البشري المعاصر أيها السادة ! يصرخ بأعلى صوته شاكياً بلسان الحال ، ( لو لا كان من الأمة الإسلامية في هذا الزمان أولو بقية ينهون عن الفساد ) ، والله لو قام أحد على قمة جبل وتكلم على مذياع عالمي يسمعه كل واحد في كل قطعة من الأرض ، قال : فلو لا كان من الأمة الإسلامية العربية ، فلو لا كان من الجزيرة العربية التي طلعت منها شمس الإسلام ، والتي أكرمها الله بالقرآن أكرمها الله بالإيمان ، أكرمها الله بالمواهب التي خصها بها ، فلو لا كان في الأمة الإسلامية العربية أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، الفساد موجود ، ولكن الواقفين في وجهه ، المتحدين له ، المحاربين له ، وعلى الأقل المستنكرين له ، غير موجودين ، الداء موجود ، والطبيب مفقود ، وكما يقول الشاعر :
ما يصلح الملح إذا الملح فسد ؟
فالمسلمون ملح الأرض إذا فقد الملح ملوحته ، من يعيد إليه الملوحة ؟
إن القرآن لا يزال ينبهنا على هذه الآية ، ويجب علينا أن ننتبه ، وأن تقشعر جلودنا ، إن صوت الضمير الإنساني المعاصر يقول : ” فلو لا كان في الأمة الإسلامية ، هذه المنتشرة في أرجاء الأرض ، هذه التي قد ملأت الآفاق ، والتي تملك الحكومات ، وتملك رؤوس الأموال ، وتملك خيرات الأرض ، وتملك الطاقة البشرية ، وتملك وريد جسم الصناعة والحضارة ، لو لا كان من الأمة الإسلامية العربية أولو بقية ينهون عن الفساد ؟!
أنا أومن بأزمة واحدة ، أزمة عدم وجود القدوة الحسنة ، القدوة الصالحة على مستوى الشعوب والأمم ، ليس على مستوى الأفراد ، الحمد لله عندنا أفراد ، ولكن مصير الأمم لا يتغير بالأفراد ، مصير الأمم يحتاج في تحويله إلى مجهود جماعي ، وإذا بقي هذا الفراغ طويلاً فإنه ليس خطراً على الأمم التي امتحنت به والتي تمثله ، بل هي كارثة العالم كله ، فتنهار هذه المدنية ، وتنهار هذه النظم التي تقوم الآن ، ويطوي الله هذا البساط ، فلا بد أن تنهض هذه الأمة ، لا بد أن توطن نفسها على ملأ هذا الفراغ بقدر الإمكان .
أمة البطولة تحدث انقلاباً في المجتمع :
ولكن ما قامت أيها السادة ! أمة بحركة إصلاحية ، ثورية بناءة ، إلا حين كانت مدنيتها صالحةً ، وحين كانت حياتها بسيطةً ، حين كانت تتصف بشيئ من البطولة ، وبشيئ من روح المخاطرة والمحازفة ، وأما الأمم المترهلة ، الشعوب الرخية الناعمة ، الرخوة الرقيقة ، الشعوب التي قد أخلدت إلى الأرض ، وأخلدت إلى الشهوات ، فإنها لا تستطيع أن تحدث انقلاباً ، هذا الذي أخافه على المجتمع الإسلامي بصفة عامة ، وعلى المجتمع العربي حين أخاطبه وجهاً لوجه بصفة خاصة ، علينا أن نفكر في ذلك جدياً ، ونفكر مع الإنسانية ، ولا نفكر في إطارنا المحدود ، المنزلي أو المحلي ، أو البلدي ، أو الشعبي ، نفكر في مصير البشرية كأنه مصيرنا ، ونربط مصيرنا بمصير البشرية ، وفي الحقيقة مصيرنا مربوط بمصير البشرية ، لا يمكن أن تبقى أمة على حالها وعلى وضعها إذا كان العالم حوله يموج بفتن ، يموج باضطرابات ، يموج بصراع نفسي ، فلا بد لنا أن نفكر في مصير الإنسانية ، نؤمن بأن مصير الإنسانية مرتبط بمصيرنا ، ومصيرنا يرتبط بمصيرها ، الرسول عليه السلام ضرب مثلاً بليغاً لذلك بسفينة ، ولم أجد مثلاً أبلغ منه في أدب الدعوة وفي كلام أثر عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فقال عليه الصلاة والسلام : ” مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ” [8] .
نحن على سفينة البشرية ، والسفينة البشرية مضطربة مائجة ، فيجب علينا أن نفكر في إيصالها إلى بر السلام ، وليس بر السلام إلا الإسلام الحقيقي الكامل ، البعيد عن النفاق ، البعيد عن كل ما كانت الجاهلية تتسم به ، الدافق بالحياة والقوة الحامل للرسالة والرحمة للإنسانية ، المالك للمثل العليا والنماذج الصالحة ، والقدوة الحسنة الفاضلة ، أفراداً ومجتمعات ، وشعوباً وبلاداً ، ونظماً وحكومات ، وبالله التوفيق .
[1] سورة هود ، آية 116 .
[2] سورة الروم ، آية 41 .
[3] والقرآن مملوء بشواهده وأمثاله .
[4] سورة الروم ، آية 41 .
[5] سورة هود ، آية 62 .
[6] سورة آل عمران ، آية 110 .
[7] البداية والنهاية ، ج 7 ، ص 10 .
[8] رواه البخاري .