دقة القرآن وروعته في اختيار مفرداته
أكتوبر 12, 2021دور خريجي دار العلوم لندوة العلماء في اللسانيات العربية ( الحلقة الأولى )
أكتوبر 12, 2021دراسات وأبحاث :
فلسفة الذاتية ومعرفة الذات في شعر إقبال
الباحث شكيل أحمد دار *
كان الدكتور العلامة محمد إقبال شاعراً كبيراً ، ومصنفاً شهيراً وفيلسوفاً عظيماً وداعياً إلى إحياء الإسلام في القرن الماضي ، لا يحده زمان ولا مكان ، ولا ينسب إلى قطر دون قطر ، فإنه وإن اشتهر بشعره بالفارسية والأردية ، ولكن حصلت له السمعة العظيمة والشهرة الواسعة بفلسفته عن الحياة التي سماها بـ ” خودي ” أو الذاتية ، وكانت هذه الفلسفة هي محور أفكاره ونظرياته ، لقد أكثر العلامة من استخدام لفظة ” خودي ” ( الذاتية ) في شعره ، واهتم بفلسفتها اهتماماً ، واستعمل هذه اللفظة بمعنى جديد ، وإذا نظرنا إلى معناها اللغوي وجدناها في الأصل فارسية وتستعمل في معنى الكبر والخيلاء والزهو والأنانية والعناد والتمرد والشحّ والاستبداد ، ولكنه ما استعملها في معناها العادي والرائج في الفارسية والأردية ، بل يعني بها عرفان النفس والذات ومعرفة المواهب الخافية في داخل الإنسان ، والشعور بالغيرة والحمية والإباءة وحفظها من الفشل والهزيمة ، كذلك استعملها في معنى الجرأة والاعتراف بأن الحركة والتصرف والقوة ، كل ذلك يؤدي إلى معنى الحياة . والذاتية تحيا من تخليق الآمال وإنشاء الأهداف ، وهي تستحكم وتتدعم بحب ما تؤمل وبمسعاها إليه والإقبال عليه بغير خوف وهيبة ، ويريد إقبال أن يعرف الإنسان دنياه الداخلية ، وعليه أن يستخرج كل ما في فطرته من مواهب واستعدادات ، لأنه لا يمكن الإنسان أن يبدل أفكاره وتخيلاته إلى العزائم ، والعزائم إلى الأعمال والمآثر المجيدة إلا بعد معرفة الذات وتنمية النفس ، ويرى العلامة أن ” خودي ” ( الذاتية ) هي حفظ النفس من الهزيمة وحفظ الإباء من الاستسلام وحفظ الشكيمة من الانحطاط ، وكذلك هي الإيمان بأن الحياة هي الحركة وليست الجمود ، وأنها جوهر الكون وأساس نظامه وسر الحياة في هذا الكون ، وحفظ ” خودي ” هو حفظ الحياة وزوال ” خودي ” هو زوال الحياة . وأساس هذه الفلسفة هو معرفة الذات ومعرفة الرب ، وكلاهما عند إقبال ضروري لا يستغني البعض من الآخر ، ويستند معرفة الربّ على معرفة الذات ، وتتوقف عليها يقول :
اگر خواہی خدارا فاش بينى خودی را فاش تر دیدن بیاموز
( لو وددت أن تعرف ربك و تبصره واضحاً جلياً ، فعليك أن تعرف نفسك وتبصرها أوضح وأكثر من ذلك ) [1] .
ويرى العلامة أن ” خودي ” هي إنشاء الحياة الذاتية بغير الاستناد على الآخرين ، فعلى الإنسان أن يعتمد على نفسه ويظهر ذاته في قوله وفعله ويحذر التقليد والاعتماد على غيره ، ويشعر أنها هي بداية الحياة ووسطها ونهايتها ، ولا شك فإن تقدم الفرد وانحطاطه وتطور الملة وضعفها كل ذلك ينحصر على تطور الذاتية وانحطاطها ، فحفظها ومتانتها هو حفظ الحياة ومتانتها ، وهي العامل الوحيد والدافع الحقيقي من الأزل إلى الأبد في هذا الكون لا تحصى أعمالها ومآثرها ، ولا تعد انتصاراتها ، ولا رفعتها وشموخها بلا حدود ، وأبعادها وآفاقها دون مدى ، والإنسان يحصل بها على الثقة بالنفس ، ويمكن أن يقوم بالأمور العظيمة والشاقة باليسر والسهولة . يقول :
” ما هو موج النَفس ؟ هو السيف ، وما هي ” خودي ” ( الذاتية ) هي حدّ هذا السيف .
ما هي ” خودي ” ؟ هي سر الحياة المكتوم ، وما هي ” خودي ” ؟ هي يقظة الكون وتنبهه .
فالأزل وراءها ، والأبد تجاهها ، وليس هناك حد لا خلفها ولا أمامها .
مسكن ” خودي ” هو في قلبك ، كما يكون الفلك أو السماء في إنسان العين ” ( أي كما يمكن لإنسان العين الذي هو صغير جداً أن يبصر السماء أو الفلك الذي هو أعظم الخلائق وأكبرها ، كذلك يمكن كلمة ” خودي ” التي هي أعظم الثروات وأثمنها في هذا العالم أن تسكن في قلب الإنسان الصغير ) [2] .
كذلك هو يرى أن اليقين والتوكل والعمل المستمر والعشق والفقر والغيرة والإباء والحمية والصدق والجرأة هي الصفات التي تتقوى بها الذاتية وتتدعم ، وأما الطريقة التي يجب على الإنسان أن يسلكها ليربي ذاتيته ويرفعها إلى المستوى العالي المطلوب ، فقد بين لها العلامة عدة مراحل ، وأهمها الطاعة والتغلب على النفس وضبطها بأمر من اللّه تعالى . أما الطاعة فهي تضم تأدية الفرائض والواجبات والقيام بها وتأييد الشريعة الإلهية قولاً وعملاً ، وأما ضبط النفس والتغلب عليها فهي تعني كبح جماح النفس والتغلب على الشهوات والهوى ، وأما الخضوع أمام أوامر اللّه تعالى فهي أعلى المقاصد وأرفعها من المقاصد الإنسانية .
ويظن إقبال أن جميع الأشياء في هذا الكون هي على قدر رفيع من معرفة ذاتها وهي منهمكة في إظهارها ومكبة على تنميتها إلا الإنسان ، فإنه قد نسي نفسه وذاتيته ، وبدأ يصبح مجهولاً في نفسه . فكان غاية حياة إقبال المنشودة ومقصد شعره الحقيقي أن يعرّف الإنسان ذاتيته ليستطيع أن يظهرها فيثبت حياته ويبقى كيانه ، وهو يعتبر أن الحياة ، دون التشوق إلى إظهار الذاتية والرغبة فيه ، موت ، وكل من الخلائق وخاصة أشرفها ( الإنسان ) يحتاج في وجوده وبقائه إلى أن يشتغل دائماً ببناء الذاتية وتنميتها ، لقد أحسن العلامة بيانه في ديوانه ” بال جبريل ” ” جناح جبريل ” ، يقول ما معناه ومفهومه :
” كل شيئ منهمك في إظهار ذاته والكشف عنها ، وكل ذرة تشهد بكبريائها وعظمتها .
الحياة بغير التشوق إلى الكشف عن الذات موت ، والصفات الإلهية هي مختفية في تعمير الذاتية وتنميتها .
فمثقال خردل هو مثل جبل من قوته وشدته ، والجبل مثقال خردل من أجل ضعفه ووهنه ” [3] .
يعتبر العلامة أن صفة ” خودي ” أساس حياة الإنسان الكامل ، وهذه الصفة هي أثمن ثروات الإنسان وأضخمها ، ويجب عليه أن يغرق في ذاتيته ويبذل جهوده حتى يمكن له ليجلي مواهبه المخفية ومؤهلاته المضمرة ، وكذلك عليه أن يكون أبياً طول حياته ، ولا يغفل أبداً في أي حال من الأحوال عن نفسه وعن مقصد حياته ، لا ينسى نفسه ولا ينسى ربه أبداً ، وهو يرى أن الإنسان حينما أحسن معرفة الذاتية يمكنه أن يغير القضاء ، ولكنْ هناك شرط مهم وهو أن يحسن إسلامه ويصدق في قوله ووعده عن دينه ، ويستوفي ما يقتضيه منه . يقول : ما معناه :
” كيف أسأل أولي الألباب وأصحاب العقول ما هي بدايتي وأنا دائماً أفكر في ما هي نهايتي وعاقبتي .
يا عبد الله ! ارفع نفسك إلى ذلك المستوى حتى يسألك الله قبل القضاء فيك يا عبدي ما هو رضاك ومرامك ” [4] .
ومن عرف الذاتية انكشفت أمامه حقائق الحياة كلها وأسرارها جميعاً ، فيعلم أنه – من حيث كونه عبد الله ومن حيث البشر – حاكم وضابط على جميع عناصر الكون ، ولا يخطر بباله أبداً أنه خاضع أو تابع لها ، وهو يعلم أن هذا الكون له وليس بالعكس ، وغايته أن يسخر جميع القوات التي توجد في الكون ، ولا أن يصبح مسخراً لها، ويعرف أنه عبد الله وتابع له وخاضع أمامه ، وأما قوى العالم كلها فهي تابعة لربه تعالى وخاضعة أمامه ، وإذا خضع إنسان أمام متجانس له أو أمام شيئ أو قوة أخرى ، أو اتخذه إلهاً أو اعتقده متصفاً بصفة خاصة بالله ، فهو يحط نفسه من شأنه الأصلي وأسقط نفسه ، وهذا يعني أنه ما فهم معنى التوحيد ولم يعرف حقيقة الذاتية ، وملخص القول : إن ” خودي ” ( الذاتية ) هي معرفة الذات وعرفان النفس والعمق في اليقين والرسوخ في الإيمان ، وهي الجرأة والحماسة والشجاعة والعزم والاستقلال وقوة تسخير الكون وكشف أسرار التوحيد . يقول :
” يمكن القضاء على طلسم الكون هذا وسحره بمعرفة الذاتية ، وهذا هو التوحيد الذي ما فهمه إلا قليل من الناس ” [5] .
غاية ” خودي ” المنشودة ومقصدها الحقيقي هو التوحيد أي معرفة الرب تعالى والزهد في حطام الدنيا والرغبة إلى الله الواحد ، والرضا به إلهاً ورباً وحاكماً وملكاً ، والكفر بما سواه ، وأن لا يخضع الإنسان إلا أمام الله ، وهذه هي الذاتية ، وهي عند إقبال مثل السيف الذي يكسر الآلهة كلها ويتغنى بكلمة ” لا إله إلا الله ” يقول :
” سر الذاتية الحقيقي هو مكتوم في الكلمة الطيبة ” لا إله إلا الله ” ، و ” الذاتية ” هي سيف وحدّه الكلمة الطيبة ” لا إله إلا الله ” [6] .
ومن أدرك كنه ذاتيته فجميع قوات الكون تبدأ تتسخر أمامه ، وهي تستحكم وتتقوى بطاعة الله ، وتضعف وتضؤل بمعصيته ، ومن يصبح عبد الدنيا فلا علاقة بينه وبين الذي هو أبي وغيور ، والذي هو يحسب أشياء العالم كلها تابعةً ومسخرةً له ، والذي هو مثل السيف الصارم المسلول يقطع دابر الباطل والطاغوت . يقول :
” وعبد الله المؤمن الذي استيقظ فيه الشعور بمعرفة الذاتية ، فهو صارم صقيل مثل السيف ، لا علاقة بينك وبين عبد الله الحقيقي ، فإنك عبد الآفاق وإنه صاحب الآفاق ” [7] .
ومن لا يعرف منزلة حقيقة ” خودي ” ومرتبتها فهو في الواقع مفلس وبائس وإن كان ملكاً وحاكماً ، ومن يعرف مكانتها ومرتبتها فهو ملك الملوك وإمبراطور حقاً وإن كان مفلساً وفقيراً ، والمسلم يحفظ عرضه ويصون حرمته ويذود شرفه ويحمي مجده بالذاتية ، ومن يزهد في الدنيا وما فيها فهو في الواقع ملك ، ولا يحصل على هذه المنزلة إلا من كان على درجة عالية من معرفة الذات . يقول :
” لقد بلغني نسيم الصباح هذه الرسالة أن عارفي الذاتية لهم مكانة الملوك ، فحياتك أيها الإنسان من أجلها وعرضك وشرفك من أجلها ، فإذا بقيت فيك الذاتية فلك الملَكية وإلا فالخزي ” [8] .
غاية المسلم الحقيقي الحصول على رضا الله ، وعليه أن يفني حياته في الحصول عليه ، وأحسن طريقة للحصول عليه هي العمل بالدين وبذل الجهد في سبيل إظهاره على العالم ، وأما الذاتية فهي أن يجعل هذا المقصد غذاءً للروح ولا يشبع أبداً بهذا الغذاء ، فهذا سر الحياة وهذا غايتها ، وعندما يصوغ الإنسان نفسه حسبما تقتضيه الذاتية تحصل له الحياة الحقيقية . يقول :
” أيها الإنسان الغافل ! اغرق في ذاتيتك واعرفها فإنها هي سر الحياة ، واخرج من قيد المساء والصباح ( الزمان ) وكن خالداً مخلداً ” [9] .
المؤمن لا يجعل مجرد الحصول على الرزق نصب عينه ، لأن غايته هي أرفع وأعلى منه ، هو يصبر على الآلام ويتحمل المشاق في طاعة الله ، يبذل الجهود في سبيل إعلاء كلمة الله ، ويحاول أن تكون سيرته شفافةً وأخلاقه تقيةً سليمةً عن كل عيب ، وإن كان يعيش عيشةً مرةً ضيقةً لكن لا يريد أن يحصل على الرزق بطريقة تمنعه من قوله الحق عند الآخرين وتبقي عقبة في كونه من القوامين بالقسط شهداء لله ، والرزق الذي يمنع المؤمن عن كلمة الحق ويعمل حاجزاً بينه وبين نموه الروحاني واحتلاله على المنازل الرفيعة الطيبة ، فهو لا يطلب مثل هذا الرزق أبداً ، بل الموت أحب إليه من ذلك الرزق . يقول :
” أيها الطائر اللاهوتي ! اعلم أن الموت خير من الرزق الذي يكون مانعاً من الطيران ” [10] .
المؤمن لا يتمنى مناصب ووظائف ورتباً ، ولو حصلت له فهو يستخدمها في تطوير الملة والوطن ، ولكن لتحقيق هذا الغرض لا يختار الوسائل والطرق التي هي متعارضة ومتنافية مع قواعد الدين ومباديه مثل الخيانة والمكر والخداع والغش والغدر ، حتى هو لا يقبل مملكةً ودولةً على شراء الذاتية وإبرام صفقتها بإزائها ، هو يريق الدم ويحرقه وينشئ دنياه بنفسه ، ويجعل ذاتيته أرفع وأعلى . يقول :
” من لا يتمنى من الناس السيادة ، ولكن ما قيمة تلك السيادة التي تسبب موت الذاتية ” [11] .
كان العلامة محمد إقبال يقلق شديداً من سقوط الخلافة في الأمة المسلمة ويتألم من سيطرة المستعمرين الأعداء واستيلائهم على وطنه ، وكان يرى ذلك من أكبر الأزمات وأشد النكبات للمسلمين ، ولكن مع هذا كله كان يرى التسول للسلطة والتضرع إلى الناس لإقامة الخلافة عاراً شديداً للأمة وللمسلمين ، لأنه يعتبر أن السيادة والخلافة والحكومة لا تحصل بالتسول والتضرع بل تحصل بالقوة والطاقة والفاعلية ، حتى هو يشعر أن قوة الإمارة والسيطرة والنفوذ التي تحصل للمسلمين بدون إراقة دمائهم وتضحية نفوسهم فهي عار لهم شديد . ويقول :
الملك الذي لا نشتريه بدمائنا فهو عار للمسلمين [12] .
* الجامعة الإسلامية للعلوم والتقنية ، كشمير .
[1] كليات إقبال ( فارسى ) ، محمد إقبال ، ( ارمغان حجاز ، فارسى ) ص : ١١٠٦ .
[2] كليات إقبال ( بال جبريل ) ، محمد إقبال ، ص 455 – 456 .
[3] المرجع السابق ، ص ٣٨٣ .
[4] المرجع السابق ، ص ٣٨٤ .
[5] المرجع السابق ، ص ٣٥٩ .
[6] كليات إقبال ( ضرب كليم ) ، محمد إقبال ، ص ٥٢٧ .
[7] المرجع السابق ، ص 588 .
[8] كليات إقبال ( بال جبريل ) ، محمد إقبال ، ص ٣٧٧ .
[9] كليات إقبال ( بانك درا ) ، محمد إقبال ، ص 304 .
[10] كليات إقبال ( بال جبريل ) ، محمد إقبال ، ص ٣٨٥ .
[11] المرجع السابق ، ص ٣٧٩ .
[12] كليات إقبال ( بانك درا ) ، محمد إقبال ، ص ٢٨١ .