فلسفة ” الحياة والموت ” في الشعر العربي القديم

من أبعاد التواصل في الآداب العالمية :
يناير 9, 2023
حركة تحرير المرأة في مصر : دراسة عامة
يناير 9, 2023
من أبعاد التواصل في الآداب العالمية :
يناير 9, 2023
حركة تحرير المرأة في مصر : دراسة عامة
يناير 9, 2023

دراسات وأبحاث :

فلسفة ” الحياة والموت ” في الشعر العربي القديم

الدكتور عبد الحي الحسني الندوي *

الحياة والموت هما شقيقتان ، وكلما ذكرت إحداهما تتبادر إلى الذهن أخرى ، ومهما طالت الحياة فنهايتها الموت المحتوم ، فالحياة والموت كل منهما نقيض للآخر .

والموت لا يفرق بين الناس : الغني والفقير ، وبين المالك والمملوك وبين الملك والرعية . ولكن الإنسان عامةً حريص على الحياة أشد الحرص لا يكاد يقبل أن الموت يتقرب إليه بل هو بين قدميه ، وهو يعرف تماماً أن الموت أمر حتمي لا بد منه أن يقع على الإنسان ، فقد ذُكرت الحياة والموت في الشعر العربي كثيراً ، وقد ذكرهما كثير من الشعراء .

وقد بين شاعر جاهلي أن الدنيا مبنية على الفناء لا على البقاء ، فكيف يفرح الإنسان بما نال في حياته إذ أنه لا يخلد عنده ولا هو ، وهو المسجاح بن سباع الضبي :

لقد طوفت في الآفاق حتى  بليت وقد أنى لي لو أبيد

وأفـــــنانــــي ولا يـــفنى نهار  ولــيـل كلما يمضي يعود

وشــــهــــر مستهل بعد شهر  وحــول بـــعده حول جديد

ومفقود عــزيز لــفقد تأتـي  مـــنــــيـــتــه ومــأمـول وليد

ومفهوم هذه الأبيات أن الموت آتٍ للإنسان مهما طالت حياته فإنه في رحلة قصيرة يجول في آفاق الحياة ويتمتع بها إلى أن يحين موعد قدره .

وخطب الشاعر تأبط شرا من امرأة من بني عبس وهي أيضاً كانت راغبةً فيه حتى وعدته أن تتزوجه فلما جاءها وجدها قد رغبت عنه وأظهرت كراهتها له فقال لها : ما غيّرك ؟ فقالت : ” والله ! إن الحسب لكريم ولكن قومي قالوا : ما تصنعين برجل يُقتل عند أحد اليومين وتبقين بلا زوج ؟ ” فانصرف عنها وهو يقول :

وقالوا لـــهـــا لا تــنكحيهِ فإنهُ   لأوَّلِ نَـصْلٍ أَنْ يُلاَقِيَ مَجْمَعا

فَلَمْ تَرَ مِنْ رَأْيٍ فَتِيلاً وَحَاذَرَتْ   تأيُّمها من لابسِ الَّليلِ أروَعا

وقال أيضاً :

وَكُنْتُ أَظُنُّ المَوْتَ في الحَــيّ أَوْ أُرَى  ألـــــــذَّ وأُكـــــــرى أو أمـــــوتَ مــــقـنـَّعا

ولــــستُ أبـــيــتُ الدَّهرَ إلاّ على فتى   أســــلِّــــبـــــهُ أو أُذعـــــرُ الــسربَ أجمَعـَا

وَإنّي وإن عُــــمِّـــــرْتُ أَعْــــــلَــــمُ أَنَّـــنِـي   سَـــــأَلْـــــقَــى سِـنَانَ الْمَوْتِ يَبْرُقُ أَصْلَعَا

وَمَنْ يَــــــفـــــرَّ بِالأعْــــــدَاءِ لا بُـــدَّ أنَّــهُ   سَيَلْقَى بِهِمْ مَنْ مَصْرَعِ الْمَوْتِ مَصْرَعَا

تدل هذه الأبيات على شجاعة الشاعر لمواجهة الموت وعدم الخوف منه إذ أنه سيلقى أجله ومصرعه إذا دنا الموعد المعلوم بالموعد المحتوم وتبرز سنان الموت له بارقة فلا يختار لنفسه ما يجلب له العار .

ومنها قول قَطَري بـن الفجاءة مخاطباً لنفسه ، وكان رجلاً ذا شجاعة ومشغالاً بكثير من الحروب والوقائع ، وكان قوي النفس لا يهاب الموت ولا يكره الوقوع فيه ويقول قصيدة يذكر فيها أن الموت هو مصير الإنسان في نهايته . ومهما أعطي له من طول العمر وحياة منعمة ممتعة فإن مصيره هو الموت والهلاك وسبيل الموت غاية كل حي :

أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَــعاعاً مِنَ الأَبــــطالِ وَيـــحَكِ لَن تُراعي

فَإِنَّـــكِ لَـــــو سَــأَلتِ بَــقاءَ يَومٍ عَلى الأَجَلِ الَّــذي لَكِ لَم تُطاعي

فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً فَما نَــــيـــلُ الــخُلودِ بِــــمُـــستَطاعِ

وَلا ثَــــوبُ الــــبَــقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ فَيُطوى عَن أَخـــي الـخَنعِ اليـراعُ

سَبيلُ المَوتِ غايَـــةُ كُلِّ حَيٍّ فَــــداعِــيَهُ لأَهـــــلِ الأَرضِ داعـي

وَمَن لا يُعتَبَط يَـــسأَم وَيَهرَم  وَتُـــــســـــلِــــمهُ المنونُ إِلى اِنقِطاعِ

وَمــا لِــلمَرءِ خَـــيرٌ في حَـــيــاةٍ  إِذا ما عُــــدَّ مِــــن سَــقَـــطِ المتاعِ

يذكر قَطَري بـن الفجاءة في هذه الأبيات أن الأجل والموت يأتي حتى من غير علة تصيب الإنسان وتؤدي بها إلى مصيره فإنه يهرم ويستسلم إلى الموت وما يعتريه من تكاليف الهرم . فهو يتحدث إلى نفسه ويقول لها بحكمة عظيمة : إن الموت حتم على الإنسان وليس لأي إنسان خلود في حياته إلا بعمله وما يتركه من أمور تفيد الناس من بعده وما يتركه من تراث ومن سمعة .

والموت لا يأتي فقط في المعركة بسبب القتل ، بل هو يأتي الإنسان بشكل الهرم وكبر السن والأمراض المهلكة . ويحدث الشاعر لنفسه بأن هذه الحياة لا خير فيها إذا لم يعد الإنسان عنصراً مهماً فيها وفي مجتمعه .

فليس هناك خلود في هذه الحياة فالشاعر بفلسفته البسيطة يصور الموت ويربطه بالشجاعة والإقدام ويدفع إلى تخليد النفس بالذكر الجميل الحسن . فالإنسان عند مماته لا يترك سوى الذكر الحسن والسمعة الطيبة والعمل الصالح وإذا مات انقطع عن الدنيا بأعماله وسلب منه كل ما يملك من حطام الدنيا ولا يأخذ معه شيئاً وتموت معه كل متاع الدنيا التي كان يعيش فيها .

وبصدد هذا يذكر الشاعر الصلتان العبدي قائلاً :

أشاب الصغير وأفنى الكبير  كر الــــغــــداة ومــر الـعشي

إذا لـــــيـــــلة هـــــرمـــــت يــومها أتى بــعد ذلك يـــــوم فـــــتـــي

نـــــروح ونــــغــــدو لـــــحـاجـاتنا وحاجة من عاش لا تنقضـي

ويـــــسلـــبه الــــمــــوت أثـــوابــه ويـــمـــنعه الـموت ما يشتهـي

تــــــمـــــوت مـــــع المرء حاجاته وتــــبـــقـــى له حاجة ما بقي

وهناك شاعرة مخضرمة متفلسفة هي حرقة بنت النعمانِ بن المنذر تبين في أبياتها عن تقلب الدنيا وعدم ثباتها على حالة واحدة فتقول :

بينا نسوس الناسَ والأمرُ أمرُنَا إذا نـحنُ فيهمْ سوقةٌ نتنصَّفُ

فَـأفّ لـــــدنْـيــــا لا يَدُومُ نــعيمُها تـــــقــــلــبُ تـاراتٍ بنا وتصرفُ

وحرقة بنت النعمان تتحدث عن حالها وتصف بعد ذلك كيف كانت عيشتها وهي بنت الأمراء وكيف كان زمام الأمور بيدها وكيف آلت حياتها إلى أن تصبح عكس ما كانت عليه في السابق وتتحدث عن تلك الدنيا التي لا يدوم ولا يبقى لأحد شيئ من نعيمها .

وقد ذكر شاعر آخر عدم دوام نعيم الدنيا ويجب أن يعرف حاله في النهاية أي إن لكل شيئ نهاية وكل إنسان لا بد وأن تزول حياته ويصبح من الأموات فهذا ما قاله الشاعر يزيد بن الحكم الثقفي :

وتخــــرَّب الــــدنيا فلا بـــؤس يــــدوم ولا نعيم

كل امرئ ستئيم منـ ـه العِرس أو منها يئيم

ما علمُ ذي ولــد أيَـــثـْ ـــكَلُه أم الولد اليتيم

يتحدث الشاعر عن فناء الدنيا وتقلبها وزوال نعيمها ويتحدث أن كل امرئ منه سوف يفقد كل ما يجد في حياته من البنين والأموال والأمتعة والأهل والأخلاء ، فأما الزوج يفقد زوجته فيصبح أيماً ، وأما الزوجة فتفقد زوجها فتصبح أيماً أيضاً ، وكذلك لا يعرف الوالد أيموت فييتم الولد أم أن الوالد يفقد ابنه .

والشاعر قد وضح مسألة الحياة والموت وأن الدنيا مبنية للفناء لا للبقاء وللخراب لا للعمارة فكيف يفرح الإنسان في حياته لمتاع يزول منه سريعاً أو هو يزول عنه ميتاً . فيذكر الشاعر أبو النشناش قائلاً :

إذا المرء لم يــســـرح سواماً ولم يرح  سواماً ولم تـــــعـــــطـــف عليه أقاربه

فــــــللــــمـــوت خــــيرٌ للفتى من قعوده  عديـــــمـــــاً ومـــن مولىً تـدب عقاربه

ولَـــمْ أَرَ مِـــثْــلَ الْــهَـــمِّ ضَاجَعَهُ الْفَتَى  ولا كَسَوَادِ الــــــلَّـــــيْــلِ أَخْفَقَ طَالِبُهْ

فَعِش مُعْدِمًا أَوْ مُـــت كَرِيمًا فَإِنَّنِي  أَرَى الموْتَ لا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ هَارِبُهْ

وَلَوْ كَانَ شَيْـــئٌ نَــاجِــــيــاً مِنْ مَنِيَّـــةٍ  لَـــــكَــــانَ أَثِــــيرٌ يَوْمَ جَاءَتْ كَتَائِبُهْ

يقول : إما أن يعيش الإنسان عيشةً عديمةً أو يموت موتةً كريمةً فالأولى له أن يموت إذا لم يستطع أن يعيش عيشةً كريمةً ، فإن الموت آت يوماً لا محالة ولا سبيل للفرار منه مهما سعى ، فالموت خير للمرء من أن يعيش عديماً .

ويذكر شاعر آخر من بني أسد يرثي أخاً له ، مرض في غربة بعيداً عن أهله فسأله أن يهرب من موضعه إلى البيت ولكنه مات في الطريق ، قائلاً :

أبـــعدت من يومك الفرار فــما جاورت حيث انتهى بك القدر

لوكان ينجي من الردَى حذر نــــجاك مما أصابك الحـــــــذر

يرحـــمــــك الله مـــن أخـي ثقة لم يــــك في صـــفـــو ودّه كدر

فــــهـــكذا يذهب الزمان ويفـ ــنى الــعلم منه ويـــدرس الأثـــر

وهناك أبيات أخرى لشاعر آخر ، تجسد الموت وقسوته على الناس فيقول الشاعر عبد الله بن ثعلبة الحنفي :

لــــكــــل أناس مــــقــــبــر بفنائهـم فهم ينقصون والقبور تزيد

وما أن ترى دارا لحي قد أقـفرت  وقـــبــــر لمـيتة بالفناء جديد

فـــهـم جيرة الأحياء أما مــــحـــلهم  فدان وأمـــا الـملتقى فبعيد

وهذا دليل على أن الإنسان فانٍ ، وأن هناك فراقاً بين الأحبة والأخلاء . فبماذا يعتصم الإنسان من الفناء ؟ فهو أمر مقدر من الله سبحانه وتعالى وبيده الأمر كله ومهما تعددت الأسباب فإن الموت هو واحد وهو فراق الأحبة والأهل والانقطاع عن الدنيا .

وإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجري المقادير فقد ضمّن الشاعر الغطمّس الضّبي هذا المعنى في قوله :

إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني  أرى الأرض تــبـقى والأخلاء تذهب

أخِــلاّيَ لـو غير الحمام أصابكم  عتبت ولكن ما على الدهر معتَب

فقد صرف الشاعر شكواه إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن الله هو الذي أجرى المقادير من فناء الأصدقاء وبقاء الأرض ، والموت ليس له طريق للعتب فإنه قدر محتوم ونهاية ومقدرة ، وليس للإنسان أن يفر منه مهما طال بقاؤه في الدنيا .

الخاتمة :

إن الشعراء العرب مع بقائهم في حياة ساذجة بدوية عامة بعيدةٍ عن الحركات والأفكار الفلسفية ، كانوا أكبر فلاسفة في العالم من ناحية فهم حقيقة الحياة الإنسانية في الدنيا فلم يعْي أحد منهم أن يصف الحياة الدنيوية وحقيقتها وعدم خلود الإنسان في الأرض . فهذا ما يدل عليه الأبيات المذكورة أعلاه من فلسفة الشعراء العرب في أمر الحياة والموت في الأرض . وهي أروع ما ذكر في سذاجة الحياة في العالم وتشجع أجبن خلق الله في الأرض . فيطلب من كل إنسان يجري وراء المال والماديات ويجلب كل ما يكتسب من أمتعة الدنيا إلى حضانته كأنما يعيش في الدنيا لآلاف أعوام بلا موت . فليعتبر كل شخص بحياة كل من مات على عيانه فيعيش لرضا الله في داخل الأرض .


* الأستاذ المساعد ، كلية الدراسات العربية والإسلامية ، جامعة عبد الرحمن الهلالية ، تشناي ، تاملنادو ، الهند  Email: hainadwi@gmail.com