نظرة على المجتهدين الذين اعترف العلماء لهم بالإمامة
أكتوبر 12, 2021البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور المجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون )
نوفمبر 2, 2021التوجيه الإسلامي :
فضل البعثة المحمدية على الإنسانية
للعلامة الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى
( الحلقة الثانية الأخيرة )
واسمحوا لي أيها السادة ! أن أنقل هنا بعض شهادات ذات قيمة لما كان للدعوة الإسلامية والفتح الإسلامي من تأثير ثوري في القارة الهندية التي كانت مهد الحضارة والفلسفة والعلوم الرياضية في عهد من العهود ، ثم أمعنت في الوثنية والمثالوجية الهندية والنظام الطبقي الجائر والتزمت ، فكان تأثير الإسلام في هذا الجزء من العالم الشديد التمسك بما عنده من عقائد ونظم وتقاليد دليلاً على قوة تأثير الإسلام والحيوية الكامنة في ضميره .
يقول الباحث الهندي المعروف (K. M. Panikkar ) وهو يتحدث عن تأثير عقيدة التوحيد الإسلامية في عقلية الشعب الهندي ، ودياناته :
” من الواضح المقرر أن تأثير الإسلام في الديانة الهندوكية كان عميقاً في هذا العهد ( الإسلامي ) إن فكرة عبادة الله في الهنادك ، مدينة للإسلام ، إن قادة الفكرة والدين في هذا العصر ، وإن سموا آلهتهم بأسماء شتى ، قد دعوا إلى عبادة الله ، وصرحوا بأن الإله واحد، وهو يستحق العبادة ، ومنه تطلب النجاة والسعادة ، وقد ظهر هذا التأثير في الديانات والدعوات التي ظهرت في الهند في العهد الإسلامي كديانة ( Bhagti ) ، ودعوة ” كبير داس ” [1] و [2] .
ويقول جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند سابقاً :
” إن دخول الغزاة الذين جاؤا من شمال غرب الهند ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند ، إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي ، إنه قد أظهر انقسام الطبقات واللمس المنبوذ وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند ، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها ويعيشون فيها ، أثرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً ، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية ” [3] .
ويقول إين . سي . مهتا (N.C. Mehta I.C.S ) في كتابه ( Indian Civilization and Islam ) ( الحضارۃ الهندية والإسلام ) :
” إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نور قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية في عصر مالت فيه المدنيات القديمة إلى الانحطاط والتدلي . وأصبحت الغايات الفاضلة معتقدات فكرية ، لقد كانت فتوح الإسلام في عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة ، شأنه في الأقطار الأخرى ، لقد كان من سوء الحظ أن ظل تاريخ الإسلام في هذا القطر مرتبطاً بالحكومة فبقيت حقيقة الإسلام في حجاب ، وبقيت هباته وأياديه الجميلة مختفيةً عن الأنظار ” .
وهنا نقتطف قطعةً في كتابنا ” السيرة النبوية ” :
” الحقيقة التي لا مراء فيها أن هذا الدور الذي نعيشه ، وما يليه من الأدوار التاريخية القادمة ، كلها في حساب البعثة المحمدية ، ودعوته العامة الخالدة ، وجهوده المشكورة المثمرة ، لأنه رفع – أولاً – هذا السيف المصلت على رقاب الإنسانية الذي كاد يقضي عليه ، ثم أغناها بمنح غالية ومعطيات خالدة ، وهدايا طريفة جديدة ، بعث فيها الحيوية والنشاط ، والهمة والطموح والعزة والكرامة ، والهدف الصحيح ، والغاية النبيلة ، واستهل – بفضل هذه المنح والمعطيات – عهد جديد من السمو الإنساني ، والثقافة والمدنية ، والربانية والإخلاص ، وإنشاء الإنسان وتكوينه الخلقي والاجتماعي ” [4] .
أيها السادة ! بعد ما شرحناه من عطاء الإسلام الحضاري وما أتحف به الحضارة الإنسانية من منح ومواهب ، وما حققه من نجاح وانتصار في إنقاذ الحضارة البشرية من الانهيار والانتحار ، ومكنها من التقدم والازدهار ، لا بد من تقرير حقيقة تاريخية خالدة وهو أن عمل التأثير في الحضارة الإنسانية واستعراضها بعد آونة وأخرى من جديد ، وتطعيمها بالقديم الصالح والجديد النافع ، والحيلولة بينها وبين عناصر التدمير والإبادة والاتجاهات المفسدة الهدامة يجب أن يدوم ويستمر .
وذلك لسببين : السبب الأول أن الأمم خاضعة لعوامل جديدة من الإصلاح والإفساد ، والحياة متحركة متطورة لا تعرف الوقوف والركود ، فلا بد من مراقبتها حيناً بعد حين وسد حاجاتها المتجددة ، وقد جدت دعوات وفلسفات مفسدة هدامة في العهد الأخير الذي انسحبت فيه الأمة الإسلامية مع الأسف ، من ميدان قيادة البشرية وانطوت على نفسها .
والسبب الثاني أن الأمة الإسلامية هي أمة الرسالة الأخيرة وأمة الخلود ، وأمل البشرية ، فلا بد أن تظل حاملةً لرسالتها ، قائمةً بدورها في قيادة الركب البشري والوصاية على العالم ، والحسبة على العقائد والأخلاق وعلاقة الإنسان بالإنسان ، والأمة بالأمة ، والأمم لا تعيش بالتاريخ ولا بما مثلته من دور في الزمن الماضي ، وما حققته من نجاح وانتصار في عهد سابق ، إنما تعيش الأمم بالجهاد المتواصل ، والنشاط الدائم ، والشعور بالمسئولية المستمر ، والمخاطرة بالنفس والنفيس في كل زمان ، والجدة والابتكار ، وإنتاج المفيد الجديد ، والصالح المزيد ، فإذا انطوت على نفسها ، وتنازلت عن منصبها ، طويت من سجل التاريخ وتناساها الزمان ، فيجب أن تنهض الأمة الإسلامية من جديد بمسئوليتها الدعوية الحضارية ، التوجيهية القيادية ، مرةً ثانيةً .
وحقيقة علمية تاريخية أخرى ، وهي أن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تقوم بدور التأثير في الحضارة الإنسانية وتوجيهها ، إذا كانت متطفلةً على مائدة الحضارات الأجنبية ، تغرف من بحرها وتغوص في موجتها إلى الآذان ، إنها لا تستطيع أن تسترعي انتباهاً فضلاً أن تحمل الشعوب الأخرى على تقليدها ، إلا إذا كانت مؤمنةً عميقة الإيمان بأن حضارتها مستقلة ذات شخصية خاصة ، ربانية سماوية ، صالحة لكل زمان ومكان ، قائمة على أسس متينة ، مستفادة من الكتاب والسنة ، منبثقة من الهدايات الربانية والتعاليم النبوية ، للطهارة والعفة فيها تصور خاص ، فليست الطهارة فيها مرادفة لكلمة ” النظافة ” وليست العفة فيها يكفي فيها الابتعاد من الجنايات الخلقية فحسب ، بل هي أوسع معنىً وأكثر شمولاً واحتواءً ، وأن حياتها لا تنسجم مع الحضارة الغربية التي نشأت واختمرت تحت ضغط عوامل تاريخية خاصة ، وفي بيئة كانت تتحكم فيها المادية ويسود عليها – في فترات كثيرة وطويلة – العداء للدين ، والثورة على الأخلاق والقيم ، وكما يقول أحد خبراء هذه الحضارة وتاريخها ( الدكتور العلامة محمد إقبال ) بإيجاز : ” إن روح هذه المدنية ( الغربية ) ما عادت عفيفةً طاهرةً ” [5] .
واعتقد أنه من الميسور جداً الجمع بين التسهيلات المدنية والاستفادة بالآلات والمخترعات ، وما وصل إليه العلم الحديث ، وبين ما تمتاز به الحضارة الإسلامية من جمال وبساطة وجدية وعناية بالطهارة والنظافة والابتعاد عن الإسراف والتبذير ، والإغراق في المظاهر الخارجية ، إذا وفقت الحكومات والمجتمعات الإسلامية للتخطيط المدني المستقل ، البعيد عن التقليد الأعمى ، والارتجالية ومركب النقص ، وإذا توفر عندها الذكاء ، والأصالة والإيمان ، بفضل التعاليم الإسلامية والحضارة الإسلامية التي تنبثق عنها وتقوم عليها ، والاعتداد بشخصيتها .
وفي الأخير حيث أنا واقف في بلد إسلامي عربي أخاطب سادتي وإخواني العرب ! أختم هذا الحديث بقطعة من قصيدة خاطب بها شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال الأمة العربية ، لتعرف مكانتها في العالم ودورها من بين أدوار الشعوب والأمم [6] .
” إن نفس ذلك الأمي [7] الريان ، نقل صحراء العرب القاحلة إلى روح وريحان ، إن الحرية نشأت في أحضانه ، وإن حاضر الشعوب ليس إلا وليد أمسه ، إن الجسد البشري كان بلا قلب وروح ، فأعطاه القلب والروح ، وكشف اللثام عن جمال وجهه ، إنه حطم كل صنم قديم ، وأفاض الحياة على كل غصن ذاو من أغصان العلوم والمدنية ، وأنجب أبطالاً وقادةً مؤمنين ، أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل ، فتارةً يدوى الأذان في ساحة الحرب ، وتارةً تتحلى الآذان بقراءة ” الصفات ” [8] بين صليل السيوف وصهيل الخيول ، إن سيف البطل المغوار كصلاح الدين الأيوبي ، ونظرة الزاهد الأواب كأبي يزيد البسطامي ، مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة ” .
وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
[1] شاعر متصوف ينتقد المجتمع الهندي ويدعو إلى الإصلاح ، اختلف الناس في ديانته .
[2] A Survey of Indian History, P. 132
[3] Discovery of India – P. 335 – 526
[4] السيرة النبوية ، ص 399 و 400 ، الطبعة الثانية .
[5] ليراجع للتفصيل فصل ” أهمية الحضارة الإسلامية والحاجة إليها ” في كتابنا ” العقيدة والعبادة والسلوك ” ، ص 198 – 199 .
[6] تقرأ القصيدة بكاملها في كتابنا ” روائع إقبال ” ، ص 112 – 113 .
[7] يعني بذلك النبي الأمي محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[8] يشير إلى سورة ” الصافات ” في القرآن الكريم ، بعد الحمد والصلاة !