هل تستعيد روسيا مكانتها السالفة ؟
يونيو 3, 2022إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ
أغسطس 28, 2022صور و أوضاع :
صياغة الأذهان أولى وأهم من صياغة القرارات
محمد فرمان الندوي
يولد الإنسان مرتين :
سيرة الإنسان وسلوكه تنشأ من عاملين رئيسين : البيئة التي يجدها الإنسان في بيته من الوالد والوالدة والإخوة والأخوات ، فهم يشكِّلون ذهنه ويصوغون فكره ونظرته إلى الحياة ، يولد الولد خالي الذهن وفارغ الوفاض ، فإما يملؤه أهله بالإيمان والحنان ، أو بالكفر والعصيان ، والعامل الثاني لتشكيل السيرة هي المدرسة التي يتعلم فيها الطفل ، فيقلِّد كل ما رآه أو سمعه من الآخرين ، وينسجم مع كل ما يوافق هواه وطبيعته ، فإنه يجعل الأستاذ مثالاً وقدوةً ، فيتأثر بمؤهلاته وصفاته ، وينطبع منها ، وقديماً قال العرب : ” يولد الإنسان مرتين : مرةً حينما تلده أمه ، ومرةً حينما يعلِّمه أستاذه ” . وقال الإمام الغزالي : ” غذاء القلب العلم والحكمة ، وبهما حياته ، كما أن غذاء الجسد الطعام ، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ” . ( إحياء علوم الدين : ج 1/ 30 ) .
فالتعليم أداة فعالة لصياغة الأذهان ، وهو حجر الزاوية في بناء الإنسان ، والعمود الفقري الذي يقوم عليه الجسم الإنساني ، وقد اعتبر ه المعنيون بالتعليم بغذاء العقل الإنساني ودوائه ، فهو يقضي على أدواء الجهل والخرافة ، ويملؤ الإنسان قوةً وحماساً ، وكلما اختار الإنسان التعليم ، والتزم به كان مفعماً بروح الموضوعية والشعور بالمسئولية ، أما الإسلام فكان في دعائمه التعليم والتربية ، وأول إنسان خلق على هذه الأرض كان فضله وكرامته بالعلم والمعرفة ، وقام كل نبي بعملية الإصلاح والتوجيه في ضوء وحيه الذي أوحاه الله تعالى إليه ، وأخيراً بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بعثته بالعلم والمعرفة ، وتعليم الإنسان ما لم يعلم ، وكان منهجه صلى الله عليه وسلم للتعليم يدور حول تلاوة الكتاب ، وتعليمه وتعليم الحكمة ، وتزكية النفس .
ظل هذا التعليم مصدر إشعاع روحي ومادي للأمة الإسلامية ، وكان من أهم أسباب نهضة المسلمين ، فبالعلم صار المسلمون أرقى الأمم والشعوب على مر التاريخ ، وقد تركوا الأمم المتمدنة الماضية وراءهم في كل شيئ ، حتى امتدت دوائر حكمهم إلى مناطق شاسعة من القارات الأخرى ، وقد عبَّر عن سعة هذه المساحة الأرضية الخليفة العباسي مخاطباً قطعة من السحاب : ” أمطري حيث شئت ، فسيأتيني خراجك ” . وكانت أوربا في هذه العهود في غفلة من النوم ، وقد مرت بأوربا ثلاثة أدوار : من القرون المظلمة والقرون الوسطى وعهد النهضة ، وكانت في عهديها الأولين بعيدةً عن العلم والمعرفة ، لا تحمل علماً ومعرفةً ، ولا تملك حضارةً ولا مدنيةً ، ثم سيطرت عليها الكنيسة ، وهي التي فرَّقت بين الدين والدنيا ، وكانت مؤسسةً على الرهبانية ، فعاقبت كل من مال و ركن إلى العلم والمعرفة ، لكن سرعان ما انكسر هذا الطلسم ، وكان هذا العهد بالنسبة إلى المسلمين عهد الإسلام الزاهر ، الذي بلغ فيه التعليم الإسلامي ذروته ، فنشأ فيه العلماء والمحدثون والفقهاء ، والشعراء وعلماء الطب وعلماء الطبيعة ، والمهندسون الإسلاميون ، والنبغاء في كل علم وفن ، فاقتبست أوربا من أرض الأندلس هذه القبسة العلمية ، وبنى عليها حياتها العلمية ، وما زالت تتطور وتتقدم حتى نالت هذا الازدهار المدهش المحيِّر للعقول والألباب ، لكن يا لسوء حظ أوربا أنها أخذت القشور ، وتركت اللباب ، بحيث أخذت ظاهر العلوم ، وتركت باطن العلوم وهي التقوى والخشية لله تعالى ، ففي الظاهر توجد هناك مدنية وحضارة ، ورونق وبهرجة ، وإن كانت هذه المدنية تركن اليوم إلى السقوط ، ولكنها عاشت في ماضيها في ظلمة وسواد حالك وقتل وتشريد ، وظلم واعتداء ، وغارة على الإنسانية وفتك ببني آدم ، ظاهره فيه الرحمة ، وباطنه من قبله العذاب .
دعاة التغريب في العالم الإسلامي :
رأى العالم الإسلامي هذه البهرجة الظاهرة لأوربا فسُحر بها ، وأعجب بها رجاله ، وبدأوا يرحلون إلى أوربا في بداية القرن العشرين الميلادي ، فنهلوا من مناهلها ، ودرسوا فلسفاتها المادية ، وقد رجعوا إلى أوطانهم ، وقد تغيرت اتجاهاتهم ونظراتهم ، فجعلوا ينظرون إلى كل شيئ بنظرة الغرب ، وبدأوا يدعون أهل الشرق إلى التقليد الأعمى للغرب وتلمذته ، وقد سبقت إلى ذلك مصر الكنانة ، فرحلت بعثات ووفود في زمن محمد علي الخديوي ، وكان أول من رحل إلى أوربا هو رفاعة بك الطهطاوي ورفاقه ، ثم طه حسين وأصدقاؤه ، يقول طه حسين في إحدى كتاباته السخيفة : ” إن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق ، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين ” ( مستقبل الثقافة في مصر : 32 ) ، ومن تبعات التعليم الغربي على العالم العربي أنه قد نشأ فيه دعاة التجديد أو التغريب ، فهم يعرفون بمتنوري الفكر والذهن ، وتوجد أمثلته كثيرةً في العالم العربي بوجه خاص ، فإن هؤلاء الدعاة كانوا عملاء للغرب ، وسماسرته ، ومن بينهم مصطفى كمال الذي ذهب بتركيا المؤمنة المجاهدة الحاكمة على ثلاث قارات إلى زمن طويل إلى تركيا الغربية الملحدة ، فقد تغنى مصطفى كمال بالتغريب ، ودعا إلى محو كل أثر من آثار الإسلام من أرضها ، وتجاوب مع كل نداء غربي ، فذاب هذا الرجل العميل كالشمعة نحو اللادينية ، وفقد وجوده .
لكن أنجب شبه القارة الهندية في العهد الأخير شخصيتين بارزتين من أسرة مسلمة ، تعلمت كلتاهما في أتون الحضارة الغربية ، واكتوتا بنار نظام التعليم الغربي ، لكنهما خرجتا من بحر التعليم الغربي سالمتين ، بل جاءتا بدرر ولآلي ، إنهما لم تنصهرا في بوتقة أوربا ، كما انصهر آلاف من معاصريهما في العالم العربي ، إحداهما الدكتور محمد إقبال خريج كمبردج ( توفي 1938م ) الذي قال في إحدى قصائده : إن نظام التعليم الغربي مؤامرة على الدين والخلق والمروءة، وهو يقول : يشهد الله أني كنت في ذلك مقلداً لإبراهيم ، فقد خضت في هذه النار واثقاً بنفسي ، وخرجت منها سليماً محتفظاً بشخصيتي ، وأخراهما الشيخ محمد علي جوهر خريج أكسفورد ( توفي 1930م ) الذي لم يكن عالماً دينياً ، بل كان مثقفاً بالثقافة العصرية ، درس في كلية لنكن بأكسفورد ، لكن حماسته الإيمانية وعاطفته الجياشة نحو إحياء مجد الإسلام لم تفترا ولم تضعفا ، وظل مجاهداً ثائراً على نظام الكفر والشرك ، فأنشأ حركة الخلافة العثمانية في الهند ، وخاض في كفاح الهند ، ودوى صوته الحماسي المجلجل في المؤتمر المستدير بلندن ، وقد فاضت روحه إلى بارئها ، ونقل إلى جثمانه إلى أرض القدس ، غفر الله له .
أربعة عناصر لصياغة الأذهان :
كان التعليم في كل زمان مكوناً من أربعة عناصر : الأساتذة ، والطلبة ، والمناهج التعليمية ، ونظام التعليم ، فالأساتذة هم المربون والمعلمون للطلبة ، والطلبة هم الدارسون للعلوم والفنون ، والمناهج التعليمية هي الكتب والموضوعات التي تختص بأي مرحلة من المراحل ، ثم الهيئة الحاكمة التي ترتب هذه النظم على أحسن صورة ، فصلاح هذه العناصر روح هذا التعليم ، وإذا فسد أو فقد جزء من هذه العناصر جاءت النتيجة خلاف ما يُرجى ، فلا بد من إيجاد هذه العناصر في أتم صورة ، إن التعليم كان في قديم الزمان شرفاً عظيماً ، ومفخرةً جليلةً ، إذا تعلم شخص شيئاً ، أو تخصص في فن من الفنون يُشار إليه بالبنان ، ويُدعى إلى الحفلات والجلسات ، ويقوم له الناس مبجلين محترمين ، وتُفرش لاستقباله الأوراد والرياحين ، لكن تغير الآن المقياس ، وبدأ الناس يتعلمون العلم لكسب الاقتصاد وتحسين الميزانية ، وقد استوردت هذه الفكرة من أوربا التي لا تؤمن إلا بالبطن والمعدة ، ولا تفكر إلا حول ذلك ، سرى هذا السرطان الغربي في كل جزء من أجزاء العالمين العربي والإسلامي ، فقلب تيار الحياة .
لكل تعليم روح وضمير ، فالتعليم الإسلامي له روح وضمير ، وهو يصنع الإنسان إنساناً كاملاً يعيش للآخرين ، ويؤثرهم على نفسه ، وللتعليم الغربي روح وضمير ، ولا تخفى آثاره على كل من له بصر وبصيرة ، قال تعالى : ( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( البقرة : 221 ) .