رسالة الإنسانية للشرق والغرب

البلاغة الدلالية لكلمات القـرآن
مارس 31, 2021
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الفتح والحجرات )
مايو 3, 2021
البلاغة الدلالية لكلمات القـرآن
مارس 31, 2021
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سورتي الفتح والحجرات )
مايو 3, 2021

التوجيه الإسلامي :

رسالة الإنسانية للشرق والغرب

سماحة الشيخ الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى

{ محاضرة ألقيت في نادي الاتحاد لجامعة لندن في 23 من جمادى الأولى سنة 1383هـ ، 11 من أكتوبر عام 1963م في حفلة حضرتها نخبة من طلبة الجامعة والمشتغلين بالبحث والدراسة في لندن }

 

 

” قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي . وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي . يَفْقَهُواْ قَوْلِي ” .

جناية المصطلحات على الإنسانية :

سادتي وسيداتي !

لقد أُثر عن الشاعر الإنجليزي الكبير روديارد كيبلينغ             ( Rudyard Kipling ) أنه قال : ” الشرق شرق ، والغرب غرب ، ولا يلتقيان ” .

إن هذه الكلمة وإن صدرت عن أديب مات في فجر القرن العشرين ، ولكنها فكرة تغلغلت في أحشاء الشرق والغرب قديماً ، وتأصلت جذورها في أدبهما وفلسفتهما ، وقد تسبق الأفكار والمشاعر ، وتلعب دورها في المجتمع وميوله وعواطفه ، فيأتي أديب كبير ، هو لسان حال المجتمع ، فيعبر عنه في أسلوب أدبي قوي ، أو شعر بليغ رنان ، فيرسلها مثلاً سائراً ويجعلها كلمةً باقيةً في أعقابه ، ويرجعون إليها في جميع الأدوار ويتغنون بها في جميع الأمصار .

لا أعرف فكرةً أو كلمةً أدبيةً جنت على مصلحة الإنسانية ووحدتها ، ومناهج فكرها مثل ما جنت هذه الفكرة – فكرة توزيع الأسرة الإنسانية الواحدة بين الفصيلة الشرقية والفصيلة الغربية – ومثل ما جنت هذه الكلمة التي تتراءى كلمة وادعة بريئة ، أو حقيقة علمية تاريخية ، فقد اعتاد الناس في الشرق والغرب ، أن ينظروا إلى الشرق والغرب دائماً كمعسكرين معاديين متنافسين لا يلتقيان أبداً ،كضرتين متخاصمتين لا تجتمعان أبداً ، فإن التقتا فعلى صعيد الحرب والقتال ، وإن اجتمعتا فلتذكر كل واحدة منها مثالب الأخرى وتتبع عوراتها وتشفي نفسها .

هكذا ظل الشرق والغرب قروناً طويلةً ، أيها السادة !

لا يعرف أحدهما الآخر إلا معرفةً ضئيلةً سطحيةً ، تعتمد على مواضع الضعف والنقص ، أكثر مما تعتمد على مواضع القوة والجمال ، ويعامل كل واحد منها الآخر بشك أو حذر ، وباحتقار وكراهة .

أول تعارف بين الشرق والغرب :

وكان أول تعارف الغرب بالشرق من قريب في الحروب الصليبية ، وكانت الفكرة التي تسيطر على الزاحفين إلى الشرق في هذه الحروب ، والروح التي كانوا يحملونها والروايات التي سمعوها وصدقوها عن المسلمين وعقائدهم وأخلاقهم والتي دفعتهم بحماسة إلى ساحة القتال لإنقاذ الأرض المقدسة من براثن الوحوش الوثنيين – كما قيل لهم – والجو المظلم الرهيب الذي يسود دائماً على ميدان القتال ، كل ذلك كان لا يسمح بفهم المنافس المناضل وتقدير محاسنه ومواهبه ودراسة عقيدته وخلقه ، والتبادل الحر الكريم ، في المنافع والمصالح ، إلا أن الحروب الصليبية – كما هو مقرر في تاريخ الحضارة – لم تخل من الفائدة ، وقد قصرت بفضلها الفجوة الواسعة بين الأمتين ، وبين القارتين ، إن لم تستطع بطبيعة الحال أن تملأها .

وكان أول تعارف الشرق بالغرب من قريب ، يوم مد الغرب يده القوية الحديدية – بدافع المصالح الاقتصادية والسياسية – إلى الشرق وبسط نفوذه وسلطانه على أقطاره ، واحداً بعد آخر في القرن التاسع عشر وزحف إليه بحضارته وصناعته ، وعلومه وثقافته ، وأساليب حكمه ، وبخيره وشره ، وأصابت الشرق المتخلف في العلوم العصرية ، والصناعة الحربية أولاً دهشة الفتح التي منعته فترة طويلة عن فهم الغرب الفهم العميق ، والإفادة مما برع فيه وتفوق ، ومما كان يفيد الإنسانية في سيرها ، ومنعه كذلك – وأرجو عدم المؤاخذة – ما حمله الغرب معه من ثمرات الحضارة المادية وهي في أوج قوتها وزهوها ، ومما لا تخلو عنه حضارة ضعف فيها سلطان الدين ، ومنعه كذلك – وأرجو عدم المؤاخذة مرةً ثانيةً – ما اتسم به الحكام الأوربيون من الشعور الزائد بالسيادة وكرم العنصر ، وما كان يصدر منهم أحياناً كثيرةً مما لا يتفق مع مبدأ احترام الإنسانية وروح للديمقراطية ، التي عُرفوا بها ودافعوا عنها في  بلادهم دفاعاً مجيداً ، والمفتوح الذي كان سيد البلاد بالأمس رقيق الشعور مرهف الحس دائماً .

خواء روحي في الشرق والغرب :

ثم أصيب الشرق الضعيف بالاستسلام والرضوخ للغرب الفاتح القوي والخضوع الزائد لقيمه ومفاهيمه ، والتقديس لمظاهر مدنيته وأساليب حياته ، والتقليد الذي أفقده شخصيته وكرامته ، والسير في ركاب الغرب ، والاعتماد عليه في جميع مرافق الحياة ، والعيش على هامش الأمم وفي مؤخر القافلة ، وقد منع ذلك الغرب من أن ينظر إلى الشرق نظرة احترام ومساواة ، فضلاً عن أن  ينظر إليه نظرة إكبار وإجلال ، ويتوقع منه توجيهاً وإرشاداً ، أو ينتظر منه إنتاجاً جديداً وابتكاراً ، وكاد الشرق يذوب في الغرب وينصهر فيه .

وأخيراً طغت على الأمم الشرقية فكرة القومية التي لجأت إليها الأمم الغربية كبديل عن الجامعة المسيحية التي كانت تربطها بها الكنيسة الرومانية في القرون الوسطى ، وعن العاطفة الدينية التي كانت تثير الحماس فيها ، وقد منعت هذه الفكرة الأمم الشرقية التي كانت تحمل الرسالات السماوية في زمن من الأزمان – عن أن تمد يد المساعدة من جديد إلى الغرب ، كما مدّتها في الزمن الماضي ، وكان أمر الأمة الإسلامية في ذلك أعجب ، فقد كانت لا تزال أمة الرسالة السماوية ، أمة أخرجت للناس للهداية والدعوة إلى الخير ، فقد تشاغلت  – بفعل هذه الفكرة الضيقة – بنفسها ومصالحها القومية ، وانحصرت في دائرة ضيقة من حدود جغرافية أو لغوية أو عنصرية ، وهكذا نضب   – أو كاد ينضب – المنبع الثري السخي ، الكريم القديم الذي كان مصدر الإشعاع العالمي في كل دور من أدوار التاريخ .

وجاء دور الاستشراق والمستشرقين في الغرب ، وكان الأمل قوياً في أن يكونوا قنطرةً بين الشرق والغرب ، وأنهم سيملؤون هذه الفجوة الواسعة الظالمة بين الأسرتين الشقيقتين ، ويرفعون الجفوة التي أنشأها الجهل والبعد بين أعضائها ، وينقلون أفضل ما عند الشرق من تعاليم النبوة ومبادئ الأخلاق ، وسير الأنبياء والشخصيات الدينية ، وما أنتجته من ثروة باهرة ، وتشريع مدهش ، وتراث رائع ، وقد قاموا فعلاً بدور عظيم في إحياء الكتب الإسلامية المطمورة التي لم تر الشمس والنور من قرون ، وفي تصحيحها ومقابلتها بالأصول ثم في نشرها ، وألفوا كتباً لا يستهان بقيمتها العلمية ، ولا يستطيع أحد رزق ذرة من الإنصاف وحب العلم أن ينكر روحهم العلمية ، وتحملهم للمشاق، وتفانيهم في مهمتهم ، ودقة نظرهم ، وأسلوبهم العلمي ، ولكن الشرقيين وخصوصاً كثيراً من المسلمين يشعرون بأن كثيراً منهم كانوا مدفوعين بالروح الدينية أكثر من الروح العلمية ، وكان المحبون للعلم والحقيقة ينتظرون منهم تجرداً عن العواطف والرواسب أكثر ، وشغفاً بالحقيقة وارتياداً للحق ، وجرأةً في الاعتراف به أعظم ، وعلى كل ، فقد تقاصر الاستشراق على فضله الكبير ومآثره الكثيرة عن أن يملأ هذا الفراغ ، ويقدم إلى الغرب        – الذي كثر فيه الباحثون عن الحقيقة والمتبرمون من المدنية العادية الجافة في العصر الأخير – صورة صحيحة وضاءة مشرقة للأديان الشرقية عموماً ، والدين الإسلامي بصفة خاصة ، الذي يعتبره المسلمون الرسالة السماوية الأخيرة الخالدة ، التي بلغت فيها تعاليم النبوة وتوجيهات السماء طورها الأخير النهائي ، والتي توافق طبيعة هذا العصر ، ولا تسير بالمدنية إلى الوراء كما يظهر في بعض الديانات ، بل إلى الأمام ، وتجردها من الإفراط والتفريط ومن الجمود والتطرف ، وتسكبها بقوتها وحيويتها العجيبة سبكاً جديداً يلائم حاجات المجتمع الجديد .

ومهما كانت الأسباب والعوامل ، ومهما كانت صالحةً للمناقشة والبحث العلمي ، فقد ظل الشرق بعيداً عن الغرب مستقلاً بنفسه  ورسالته ، لا يلتقيان إلا تحت نقع الشبهات والظنون ، والإحن والأحقاد ، لا يلتقيان لصالح الإنسانية المشترك ، ولبناء المدنية المثلى ، ولا يتبادلان ما يختصان به من مواهب إلهية وعلوم مكتسبة ، واستعدادات فطرية ، وما أنتجاه وأبدعاه على مر الدهور والأعصار ، من علم وفلسفة ، وأدب وحكمة ، إلا نادراً وفي دائرة محدودة .

الأنبياء وبناء الإنسانية :

ظل الشرق يعمل في مجاله الطبيعي ، ويدافع في فطرته التي اختمرت مع الدين ، وتوقظها النبوة الكريمة حيناً بعد حين ، وتغذيها الدعوات الدينية والشخصيات الروحية القوية باتصال واستمرار ، وكان موضوعه ” الإنسان ” ، وكان موضوعه هذا الإنسان أكثر مما حول الإنسان ، وتحت قدمه وفوق رأسه ، عني به الشرق بإخلاص وجد ، وجاهد فيه جهاداً كبيراً ووهب له جميع مواهبه ، وصبَّ في هذا الموضوع ذكاءه وعبقريته ، وقوة إرادته ، عني باكتشاف أسراره التي لا نهاية    لها ، وسبر غوره الذي لا قرارة له ، وإشعال مواهبه وإثارة قواه التي لا تعدلها قوة في هذه الأرض ، وتنظيم ميوله واتجاهاته ، وتهذيب أخلاقه التي لا صلاح للبشرية بغير صلاحها .

جاء الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وجاء في آخرهم النبي العربي الأمي صلى الله عليه وسلم ، فعُني بهذا الإنسان وتربيته وإثارة كنوزه ودفائنه ، وفتح فيه عين البصيرة التي يدرك بها خالقه ورب الكون الواسع العجيب ، ويستمد بها النور والحياة ، والعلم ، والحب ، والثقة ، والعزم ، والطمأنينة ، والرصا، ويعرف بها مصدر الحياة والقوة والتنظيم في هذا الكون ، فيعثر بذلك على المركز الذي ير بط به الوحدات المبعثرة في هذا العالم ، فيتراءى له هذا الكون وحدة لا تبعثر فيها ، ولا تناقض ، ولا فوضى فيها ولا تنافس ، ولا توجد فيه مناطق مستقلة متناكرة متحاربة ، إنما هي مملكة منظمة واحدة ، تديرها إدارة   قاهرة ، رحيمة واحدة ، ” أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ ” ، ” رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً ” يتخلص بذلك عن جميع أقسام الوثنية والثنوية ، وعن الأوهام والخرافات ، وسلطان الأساطير والروايات ، والتقاليد والعادات ، ويترفّع عن الخضوع لغير فاطر الكون ومدبره ، حجراً كان ، أو شجراً ، بحراً كان أو نهراً ، شمساً كانت أو قمراً ، ملكاً كان أو بشراً ، أنثى كانت أو ذكراً ، ” رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ” .

وفتح فيه النافذة التي نظر منها إلى نفسه وجنسه ، فوجده خليفة الله في هذا العالم ، نفخ فيه من روحه ، وجعله موضع سره ، ومستودع أمانته ، خلقه في أحسن تقويم ، وخصَّه بأفضل تكريم ، وخلع عليه لباس النيابة والوصاية ، وألبسه تاج الكرامة والإمامة ، وخلق له ما في الأرض جميعاً ، وخلقه لنفسه ، وأسجد له ملائكته فحرّم عليه بذلك السجود والخضوع لأي كائن مخلوق ” لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ” ،  ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ” .

ونظر منها إلى بني نوعه ، نظر منها إلى الأسرة البشرية المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها ، فوجدها أسرةً موحدةً كنفس واحدة تلتقي على أب واحد ، وأم واحدة ، يعتبرها – في ضوء تعاليم النبوة – عيال    الله ، ويعتقد أن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ، ووجدها تحمل روحاً ونفساً وشعوراً ، يألم كل عضو منها كما يألم الآخر ، ووجد أن التمييز بين أعضاء هذه الأسرة على أساس اللون أو الوطن ، أو الشعب ، أو   الفقر ، أو النسب ، تراث جاهلي ، وقد سمع هذا النبي الكريم مرةً يقول لربه في ظلام الليل خالياً : ” أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ” ، وأخرى يقول في ضوء النهار وأمام الجمع الحاشد : ” يا أيها الناس ! كلكم من آدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ” . ” يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ” .

عُني الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – في عصورهم ومناطق دعوتهم ، وعُني النبي العربي الأمي صلى الله عليه وسلم في آخرهم بتربية هذا الإنسان وتحريك مواهبه واستعداداته التي لم تبلغ الفلسفة أو علم النفس أو الاكتشافات الحديثة بعدُ إلى نهايتها وقرارتها ، ثم عُني بتنظيمها وتوجيهها إلى صالح نفسه وصالح الإنسانية ، وأثار فيه رغبةً غريبةً ، ونهامةً عجيبةً لإرضاء الرب والتقرب إليه ببذل النفس والنفيس ، والتفاني في حبه وطاعته ، وفي محبة خلقه وخدمتهم ، وإزالة المكروه عنهم وما يضرهم في الدنيا والآخرة ، وإيثارهم على نفسه ، ومحاسبة النفس الدقيقة ، ودقائق الإخلاص والأخلاق ، الدقائق التي لا يبلغ إليها ذكاء الأذكياء ، ولا يدرك كنهها علم العلماء ، والتي هي أدق من المعاني الشعرية ، والأخيلة البديعة في آدابنا ، ولا تُرى بأدق مكبرة ، ولا تُصور بأحدث آلة ، ووصل في غزارة الحب ، وقوة العاطفة ، ورقة   الشعور ، ودقة الإحساس ، وشفافية الروح ، ونُبل الأخلاق وكرامة النفس ، والتجرد عن الأنانية ، والزهد في زخارف الدنيا على المقدرة ، وسمو الفكر ، وعلو الهمة ، وشدة الشوق إلى لقاء الرب ، وفي علم الذات والصفات الدقيقة العميقة ، ما لا يتصوره إنسان ، إلا إذا عاش مدةً في سيرهم وأخبارهم ، ونزل أعماقهم وأغوارهم ، فكان ” الإنسان ” مأثرة النبوة الكبرى والحقل الذي تعهدوه وبذروا فيه البذور الكريمة فأتى بأكبر حاصل وأفضل زرع .

إن الأنبياء في الشرق ، أيها السادة ! لم يعنوا باكتشاف القوى المودعة في هذا الكون ، وتسخيرها واستخدامها كثيراً، ولا باختراع الآلات والوسائل عنايةً كبيرةً ، وإنما كان جل عنايتهم تربية الإنسان وإيجاد الإرادة الخيرة والدوافع الفاضلة فيه ، وتحديد الغايات الصالحة   له ، والثروة الطبيعية أو الصناعية كما تعلمون خاضعة دائماً لإرادة الإنسان واتجاهه وغاياته ، فلما وجدت في الإنسان الإرادة الخيرة ، والدافع القوي الفاضل ، وعرف الإنسان الغاية الصالحة التي يجب أن يسعى لها استطاع أن يعمل بثروته المحدودة المتواضعة وبالآلات والمرافق المعدودة الضعيفة – التي وصلت إليها المدنية والعلم في عصره –  أعمالاً عظيمةً لم تتوصل إليها المدنية إلى هذا العصر ، وخدم بها الإنسانية وبني نوعه خدمةً لم يوفق لها كثير ممن ملكوا ثروةً ضخمةً من الآلات والوسائل ، ذلك لأنه إذا وجدت الإرادة القوية المخلصة الجادة ، اكتشفت المجهول وأبدعت الوسائل ، وتغلبت على الصعوبات ، وشقت طريقها في صخور الجبال وأحشاء البحار ، وإذا فقدت ضاعت الوسائل ، وتعطلت الآلات ، وهبطت جهود المكتشفين والصناع . إن الجوع اللاذع والظمأ القاتل وحنان الأم ، ولوعة الحب ، وشدة الشوق لم تكن في عصر من العصور في حاجة إلى علم كبير وآلات كثيرة ، ولقد عرفت في كل مكان ، وفي كل زمان كيف تقضي حاجاتها ، وكيف تصل إلى غايتها .

وقد أوجد الأنبياء بقوة شخصيتهم وتأثير تربيتهم رغبةً في  الإنسان يشعر معها بأنه مدفوع إلى تحقيقها ، كما يشعر الجائع ، والظمآن ، والأم الحنون ، والمحب العاني ، فاكتشف الطرق الموصلة إليه والوسائل الضامنة له ، وكانت كافيةً في عصره الذي يعيش فيه ، وهكذا أيها السادة ! وُجدت المدنية الفاضلة التي تمتع فيها الإنسان بأكبر قسط من الراحة والسلام ، والعزة والكرامة ، وكانت مدنيةً محدودةً بسيطةً ، لا تعقد فيها ولا غموض ، قابلة للتوسع والتقدم في المستقبل على أساس صالح سليم .

دور الغرب وعنايته بالوسائل والأسباب :

وجاء دور نشاط الغرب وإنتاجه ونهضته ، وقد ضعفت صلته بالدين والأخلاق لسوء تمثيل من تزعمها واحتكرها من العلماء ورجال الدين زمناً طويلاً ، ولضعف هذه الصلة العميقة ولضغط الحاجات الاقتصادية والعوامل السياسية ، ولعنف ” التنازع للبقاء ” في هذه الرقعة المحدودة الأوربية اتجهت عناية الغرب – بدل الإنسان – إلى بيئة الإنسان ومحيطه ، وبدل النفس والقلب ، إلى آفاق الطبيعة الغنية بالقوى   والأسرار ، وإلى المعادن والمناجم ، وعلوم الكيمياء والفيزياء ، والرياضة والهندسة ، والصناعة ، والميكانيكا ، وقد جرت سنة الله أن يؤتى كل إنسان ما طلبه ، وسعى له ، ويسخره له ويمده فيه ، والقرآن يقول : ” كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ” ، ويقول : ” وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ . ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ ” ، فصار الغرب يقطع أشواطاً واسعةً في علوم الكون والطبيعة والفنون الرياضية والهندسية ، ويكتشف سحراً بعد سحر ، ويصل إلى فتح بعد فتح ، حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحديث مما لم يكن الإنسان – مهما أوتي من الذكاء في القرون الماضية – يحلم به أو يتخيل ، ومما لا يحتاج إلى الشرح وضرب الأمثال في هذا المكان الذي يعتبر بحق زعيماً من زعماء العلم الحديث والمدنية الغربية ، وعاصمةً من عواصمها الرئيسية ، وهذه الجامعة الموقرة التي أتشرف بالكلام فيها قد ساهمت مع شقيقاتها في تكوين هذا العالم ، وتوسيعه وتهيئة الأسباب لهذه الفتوح المدهشة في مجال الطبيعة والصناعة ، فلا حاجة إلى الإطالة في هذا الموضوع .

لقد تهيأت هذه الأسباب وهذه الوسائل ، وكانت نعمةً من الله لا يستهان بقيمتها وفضلها ، وتضخمت وتكدست ، وكانت لغاية واحدة مأة وسيلة وآلة ، وكل فيها الغناء الكبير ، والقوة الهائلة ، والسرعة المدهشة، وكانت أقل منها كافلة لسعادة البشرية وهنائها ورخائها وإقامة السلام العالمي ونشر الحب والوحدة ، والتعارف والتعاون بين فروع هذه الأسرة المنتشرة في العالم ، ورفع الحواجز بينها وإزالة السدود    دونها ، يستطيع الإنسان اليوم أن يمد يد المساعدة والبر والمواساة إلى أقصى رجل في العالم ، ويسمع دقات قلبه وخلجات نفسه ويرى وجهه ويسمع كلامه ، ويمنع الظلم – إذا أراد – وينصر المظلوم ، ويجير الجائع في صحراء أفريقية ، ويغيث الملهوف في أقصى الصين ، وقد زال كل مانع كان سببه جهل الإنسان وضعفه ، والذي كان يتعلل به القدماء الضعفاء ، وحدثت كل آلة يحقق بها الإنسان إرادته ، ويصل بها إلى غايته في أقرب وأقل جهد ، فلا عذر لطالب خير ، ومحب إنسانية ، ومؤيد سلام ولا عذر لفرد ولا لمجتمع ، ولا لحكومة .

الوسائل كثيرة في الغرب ، لكن الأمن مفقود :

لقد كانت هذه الوسائل كافلةً بأن تحول هذه الدنيا المليئة بالأكدار والأخطار ، المثخنة بالجراح إلى جنة أرضية ، لا نصب فيها ولا لغوب ولا خوف فيها ولا حزن ، ولا حرب فيها ولا عداوة ، ولا فرق فيها ولا مرض ، ولكن هل تحقق ذلك ، وهل زال الخوف والقلق ، وهل انتهى الفقر والبؤس ، وانقرض الظلم والهمجية ، وهل ساد السلام والإخاء ، وهل انتشرت الثقة بين أفراد الأسرة الإنسانية ، وهل زال شبح الحروب المخيف ، ومات عفريتها الراعن ؟ إنني لست في حاجة إلى أن أقف وأنتظر جوابكم ، فإن هذه المدنية الهائلة قد شهدت حربين طاحنتين مدمرتين عالميتين ، وساهمت في نتائجها وويلاتها ، ونحن كلنا نعيش في عصر اللذة وهولها ، وقد ملأ المفكرون والكتاب في هذا البلد المكتبة الحديثة بالكتب التي تصور انحراف هذه المدنية وشقاء أهلها بها ويندبون فيها التفسخ الخلقي ، وتحلل الروابط ، وتفكك الأسر ، وانتشار القلق والاضطراب ، وتسلط الخوف والذعر ، فيما كتب ويكتب كفاية وبلاغ .

لماذا كانت هذه النتيجة أيها السادة ؟! والوسائل بريئة ، والآلات صماء لا ضمير لها ولا اتجاه ، وهي صالحة مهيأة للخدمة والنفع في كل وقت إذا أراد صاحبها ومصرفها ، إن الجواب ليس سراً يكتشف أو لُغزاً يحل ، وليس فيه امتحان ذكاء وتفكير ، والسبب أن الإنسان لم يتقدم بقدر ما تقدمت العلوم ، وأن الأخلاق والميول والاتجاهات لم تتقدم بقدر ما تقدمت الآلات والمؤسسات ، بل اسمحوا لي أن أقول : إن العلوم تقدمت على حساب الإنسان وعلى حساب الأخلاق ، وإن الآلات والمؤسسات تقدمت على حساب الميول والاتجاهات ، وعلى حساب الروح والقلب ، ذلك لأن الغرب –  مع الأسف الشديد – حصر نشاطه وذكاءه وقوة إرادته في المجال الخارجي ، وركز كل جهده وكرَّسه على العالم الخارجي ، وانصرف عن الإنسان انصرافاً كلياً ، وإذا أقبل عليه – في دائرة علم النفس أو علم الإحياء – أقبل بفكر مادي محدود لا يتناول أغواره وخصائصه ، وإيمانه وعقيدته ، وأخلاقه ، ولم يتناول المصدر الذي يقوده ويوجهه ، ويمنعه من الشر ويدفعه إلى الخير ، وذلك هو القلب الذي إذا صلح ، صلح الإنسان ، وإذا فسد ، فسد الإنسان .

مفتاح الإيمان يعيد الطمأنينة في الحياة :

ومع الأسف إذا أراد الغرب أن يُقبل على هذا القلب وينتفع به ويوجه به الإنسانية لم يستطع ، ولا يجد إلى ذلك سبيلاً لأنه فقد المفتاح الذي يُفتح به هذا القفل ، والقفل لا يُفتح بغير مفتاحه ، وعجزت صناعته الدقيقة ، ومصانعه الهائلة ، ونوابغه العباقرة عن أن يصنعوا له المفتاح الجديد ، أو يكسروا له هذا القفل العنيد ، لأنه قفل الإنسانية ، لا قفل البنوك والمصانع ، ولا قفل الصناديق والخزانات ، لا يُفتح إلا بمفتاح الإيمان ، ومفتاح الإيمان الذي أتحفت به النبوة الإنسانية في الزمن   القديم ، مفقود أو مطمور في الغرب تحت ركام المدنية أو أنقاض المعابد من قديم .

إن شقاء الإنسانية ، أيها السادة ! في انفصال الغرب عن الشرق وفي انفصال العلم عن الإيمان ، وفي انفصال المؤسسات عن الأخلاق والغايات الصالحة ، هذا الانفصال النكد الذي جرّ على مدنيتنا شقاءً طويلاً ، والإيمان تقدم وتضخم في الشرق قديماً ، والعلم تقدم وتضخم في الغرب حديثاً ، والإيمان لا يزال ينتظر مرافقة العلم ، والعلم لا يزال ينتظر مراقبة الإيمان ، والإنسانية تنتظر التقاءهما وتعاونهما ، في بناء المجتمع الجديد ، وفي إنشاء الجيل السعيد ، ولا أمل في السلام والسعادة الحقيقية ، إلا بهذا الالتقاء المبارك والتعاون الكريم ، وليست ثروة الشرق ، أيها السادة الغربيون ، والإخوان الأوربيون ، هي هذا النفط      – الذهب الأسود – الذي تنقلونه إلى عواصمكم لتتحرك به هذه المدنية بطائراتها ، وسياراتها ، إن ثروة الشرق وهديته ذلك الإيمان الذي نبع وفاض في الشرق ، وأخذتم منه نصيباً في بداية تقويمكم   الميلادي ، ثم نبع وفاض بقوة هائلة ، لا نظير لها في التاريخ في القرن السادس من تقويمكم ، نبع في ركن بعيد من جزيرة العرب ثم فاض في العالم وأروى الإنسانية كلها ، ولا يزال في متناول يد كل شعب وكل فرد ، إذا صحت العزيمة ، ووجدت الجرأة الخلقية ، ولا يزال جديراً قادراً على إزالة جميع المشكلات التي تعانيها هذه المدنية ، ويستطيع أن يفيض على هذه المدنية – بقوته وحيويته العجيبة – حياةً جديدةً ، ويمنحها قسطاً جديداً من الحياة ، ونوعا جديداً من الرسالة ، ويحول هذه الآلات والمؤسسات وهذه العلوم والصناعات إلى غايات رشيدة صالحة بناءة ويستخدمها في صالح الإنسانية وفي بناء المجتمع الجديد ، المجتمع الذي يتطلع إليه هذا العصر ، وعليكم يقع يا أبناء الجزيرة البريطانية مسئولية أكثر من كل بلد ومن كل حكومة ، فأنتم من أكبر رُواد هذه الحضارة ، ولا تزال فيكم القوة الكامنة والحيوية الكافية لتستأنفوا حياةً جديدةً ، وتنحوا بتاريخكم نحواً جديداً ، واسمعوا الصوت السرمدي يقول : ” قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ” .