دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم

الأمانة والتكاليف
مارس 3, 2024
بين النظام الإنساني والنظام السماوي
أبريل 27, 2024
الأمانة والتكاليف
مارس 3, 2024
بين النظام الإنساني والنظام السماوي
أبريل 27, 2024

التوجيه الإسلامي :
دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم
بقلم : الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
قام الإسلام بنفس الدور الإصلاحي ، الذي قام به في جميع العبادات والفرائض ، والمناسك ، وكان إصلاحاً جذرياً ، في مفهوم الصوم وآدابه وأحكامه ، ووضعه ، جعله أعظم يسراً وسهولةً ، وقرباً إلى الفطرة السليمة ، وأضمن بالفوائد الروحية والاجتماعية ، وأعمق تأثيراً في النفس والمجتمع .
فمن إصلاحاته الكثيرة المتنوعة ، هو التحويل في مفهوم الصوم ، فقد كان رمزاً للحداد والحزن ، وتذكاراً للكوارث والمآسي ، في الديانة اليهودية ، كما أسلفنا ، فحوّله الإسلام من هذا المفهوم القاتم ، الذي يغلب عليه التشاؤم ، إلى مفهوم منشط مشرق تغلب عليه روح التفاؤل ، وجعله عبادةً عامةً ، يتمتع فيها الصائم بالنشاط والفرح ، ويستبشر بما وعده الله تعالى ، وثوابه الجزيل ، ورضاه ، ووردت الآيات والأحاديث المبشرة بالثواب ، المتضمنة بالفرح الطبعي ، تثير في الصائم هذا الشعور وهذه الثقة ، فقد جاء في حديث قدسي : ” إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به ” ، وورد في هذا الحديث : ” للصائم فرحتان : فرحة عند فطوره ، وفرحة عند لقاء ربه ” . وقد أحاط الصائم بجو من السمو ، والحظوة ، والمكانة عند الله تعالى ، فقال : ” لخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ” ، وذلك جو يخالف جو الحداد والمآتم والحزن والتشاؤم .
وقد كان الصوم عند اليهود مرادفاً لتذليل النفس والعقوبة ، وقد شاع هذا التعبير في أسفارهم وصحفهم ، فقد جاء في اللاويين أو سفر الأحبار :
” ويكون لكم فريضة دهرية أنكم في الشهر السابع في عاشر الشهر ، تذلِّلون نفوسكم وكل عمل لا تعملون ، الوطني والغريب النازل في وسطكم ، لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم من جميع خطاياكم ، أمام الرب تطهرون . وجاء في موضع آخر :
” وكلم الرب موسى قائلاً ، أما العاشر من هذا الشهر السابع ، فهو يوم الكفارة ، محفلاً مقدساً ، يكون لكم ، تذللون نفوسكم وتقربون وقوداً للرب ، عملاً ما لا تعملوا في هذا اليوم عينه . لأنه يوم كفارة للتكفير عنكم أمام الرب إلهكم .
وجاء في سفر العدد : ” وفي عاشر هذا الشهر السابع ، يكون لكم محفل مقدس ، وتذلِّلون أنفسكم ، عملاً ما لا تعملوا .
أما الشريعة الإسلامية ، فلم تعتبر الصوم إيلاماً للنفس ، ولا عقوبةً من الله ، ولم ترد في القرآن ولا في السنة كلمة تدل على ذلك ، بل اعتبرته عبادة ، يتقرب بها العبد إلى الله ، ولم تشرع من الأحكام الغليظة المجحفة ، ومن القيود القاسية العنيفة ، ما تجعله مرادفاً لتعذيب النفس وإرهاقها ، وحملها على ما لا طاقة لها به ، بل سنَّت التسحر ، واستحبت تأخيره : إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وسنَّت تعجيل الفطور ، وأباحت النوم والراحة في الليل والنهار ، والاشتغال بالصناعة والتجارة ، والأعمال المفيدة المباحة ، خلافاً لليهودية ، التي فرضت الإضراب عن العمل ، والانقطاع إلى العبادة .
وكان الصوم في كثير من الديانات القديمة – ولا يزال – مختصاً بطبقة دون طبقة ، فكان في الديانة البرهمية ، فريضةً على البراهمة في أكثر الأحيان ، وعند المجوس على العلماء والكهنوت ( دستور ) ، وعند اليونان بالإناث دون الذكور .
أما الاسلام ، فقد عمّم وأطلق . فنزل : ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، وبجانب هذا التخصيص ، الذي عرفت به الديانات القديمة ، لم تستثن المعذورين ، أما الإسلام فقد استثنى أصحاب العذر ، وقال الله تعالى : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، وقال : ( وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .
وقد كان في بعض الديانات جوع أربعين يوماً ، لا يتناول فيها الصائم غذاءاً ، وبالعكس من ذلك توسعت بعض الديانات توسعاً زائداً ، فاقتصرت على تحريم تناول اللحوم ، وأباحت الفواكه والمشروبات ، أما الإسلام ، فقد جاء تشريعه وسطاً بين الشدة والرقة ، وبين الإرهاق والإطلاق ، فجاء صومه صوماً متزناً عادلاً ، ليس فيه تعذيب أبدان ، ولا إزهاق أرواح ، وليس فيه كذلك إرخاء عنان ، ولا تسريح في روح وريحان .
وكان اليهود يقتصرون على ما يأكلونه عند الفطر ، ثم لا يعودون إلى أكل أو تمتع . أما العرب فكانوا لا يأكلون ولا يتمتعون بالمباحات ، إذا ناموا . أما الإسلام فقد ألغى هذه القيود كلها ، ونزل القرآن : ( وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ) ، وكذلك عُفي عن الخطأ والنسيان ، وكذلك لا يُفسد الصوم أفعال اضطرارية : كالقيئ والرعاف ، والاحتلام خلافاً لبعض الديانات .
وكان الصوم في أكثر الديانات القديمة مضبوطاً بالشهور الشمسية ، وكان ذلك يحتاج إلى العلوم الرياضية والفلكية ، وإلى وضع التقاويم ، ثم كانت تلك الأيام مستقرةً دائمةً في فصول خاصة ، لا تدور ولا تنتقل .
أما الصوم الإسلامي فهو مضبوط بالشهور القمرية ، ومربوط بالهلال ، فقد جاء في القرآن : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ ) ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ” لا تصوموا قبل رمضان ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غيابة ، فأكملوا ثلاثين يوماً . وجاء في حديث آخر : ” لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له ” ، فاستطاع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، وفي البوادي وقلل الجبال وفي الدور الممعن في البداوة والأمية ، وفي أمكنة منقطعة موغلة في الغابات والآجام ، أن يبدأوا الصوم ويختموه من غير مشقة ، وتكلف ، وبحث علمي عميق ، وكانت فائدته كذلك أن رمضان يدور في فصول مختلفة ، من شتاء وصيف ، فلا يكلف المسلمون بالصوم في حر لافح ، وفي قيظ شديد ، ولا في برد قارس وشتاء كالح ، دائماً وفي كل سنة ، فيتمتعون بتغير الفصول واختلاف الطقوس ، ويتعوّدون كل ذلك ، وهم في كل ذلك صابرون محتسبون ، أو شاكرون حامدون .
ومن عرف أوضاع الصوم ، ومناهجه ، في الأمم القديمة ، والديانات المعاصرة ، ودرس تاريخها وفلسفتها ، وشاهد أحوال الصائمين فيها – على قلتهم وتشتت أحوالهم – وقارن ذلك بالصوم الإسلامي ، ووضعه ومنهجه ، وفقهه وآدابه ، وأكرمه الله بالدخول في هذه الأمة المسلمة ، والعمل بالشريعة الإسلامية السمحة ، نطق لسانه بالحمد والثناء ، والشكر على نعمة الإسلام ، وكان حقيقاً بأن يقول وهو صائم : ( ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ ) .