بين النظام الإنساني والنظام السماوي

دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم
أبريل 27, 2024
من وحي الحرب على غزة
أبريل 27, 2024
دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم
أبريل 27, 2024
من وحي الحرب على غزة
أبريل 27, 2024

التوجيه الإسلامي :
بين النظام الإنساني والنظام السماوي
الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
( وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إلا إبليس كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) [ الكهف : 50 ] .
استكبار إبليس :
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن الإنسان كيف يكون سيئاً ، ويُعد في عداد المجرمين ، وقد نشأ هذا الفساد من الشيطان ، وكان الشيطان من الجن ، وقد نال حظوةً عند الله تعالى ، وكان يسكن في الجنة ، لكن صدر منه خطأ ، بحيث إنه استكبر ، ولم يعمل بما أمره الله به ، ثم أوّل استكباره ، فقال : أنا أكبر من آدم ، لأني خُلقت من نار ، وآدم خُلق من طين ، والنار أرفع من الطين ، فكيف نسجد لآدم ؟
لما قال الله للملا ئكة : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، إنه كان من الجن ، فلا يتطرق إلى أحد أنه كان ملكاً ، والملك لا يعصي الله ، وليس فيه قوة للعصيان ، خلق الله الملائكة من نور ، وهم مخلوق نوراني ، فلا يصدر منهم إلا الخير ، فلا بد من التنبيه هنا على أن الشيطان كان من الجن ، وإلا يُستشكل أن الملائكة كلهم سجدوا ، لكن إبليس المسمى بالملك لم يسجد ، فقيل : إنه كان من الجن ، فأبى السجود أمام الله ، وكان إباؤه ذنباً كبيراً عند الله ، ولو قال مثل هذا الكلام أمام إنسان عام أو مخلوق عادي ، لكان الأمر مختلفاً ، لكنه قال أمام ربه ، فاشتدت شناعته وقبحه .
خطاب للناس :
خُوطب الناس في هذه الآية بعد ذكر الشيطان : هل اتخذتموه نموذجاً لأنفسكم ، أي أنكم تعصون الله عز وجل في الدنيا ، وتستعملون نعمه ، وتنسبون إلى أنفسكم أن هذه النعم توافرت لكم بسعيكم وجهدكم ، هل تريدون اتباع إبليس ؟ فإذا اتبعتم إبليس كانت عاقبتكم مثل إبليس أيضاً ، هل تتخذون إبليس وذريته أولياءً من دوني ، فإذا فعلتم ذلك فاعلموا أنه عدو لكم ، وقد عزم إبليس على أنه يضلكم ، وهو يعاديكم ، لكنكم تطيعونه وتتبعون أمره ، وقال في آخر الآية : الذين يعملون السيئات فقد اتخذوا لأنفسهم بدلاً سيئاً ، فهم يطيعون إبليس بدل الله تعالى ، فبئس لهم بدلاً .
فرق بين النظامين : السماوي والإنساني :
مما اشتهر به على ألسنة الناس أن الإنسان يقيس نظام الكون على الحياة الاجتماعية ، فكما أن هناك تخطيطاً في الدنيا لصناعة نظام ، ثم يسند ذلك التخطيط إلى العاملين في هذا المجال ، ويقال لهم : اعملوا وفقاً لذلك ، ويكون المبرمج فارغاً من هذا العمل ، كذلك يظن الإنسان أن الله خلق كل شيئ ، ثم فوض الأمر إلى الآخرين من المخلوقات ، فهؤلاء الآلهة يسدون حوائجهم ، ويكشفون كربهم ، وينفعونهم في حياتهم ، فاعتقد الناس هذه المعتقدات بأنفسهم ، هذا هو السبب أن الإنسان لا يذكر الله تعالى ، وهو يتسكع في هذه الفكرة أنه كما يكون في الدنيا موظف من الدرجة المتواضعة يدير أمور الناس ، ولا يحتاج الناس إلى موظف كبير لإنجاز أعمالهم ، كذلك جعل الله تعالى لتسيير نظام العالم موظفين صغاراً ، وهم يقومون بأعمال الله عوضاً عنه ، فأصبح الله تعالى فارغاً من الأعمال ، فلا حاجة إلى أن نذهب إلى الله ، ونتصل به اتصالاً مباشراً ، وقد ذكر الله تعالى هذا الموضوع في كثير من الآيات أن ما تدعون من دون الله من أولياء لإكمال حوائجكم ، وتعتقدون أن الله خلق الكون ، ثم أسند إلى الآخرين هذا ظن خاطئ ، وضلال محض .
من مزايا نظام الكون أن الله تعالى خلق الكون كله ، وجعل أمره بيده ، ولم يجعل بينه وبين الكون واسطةً ، حتى الأنبياء ، رغم أنهم أكبر شخصية ، وكانوا على أرفع درجة ، لكنهم لا يتوسطون بين الله والناس ، وأمر الله الناس في الدعاء بالسؤال منه مباشرةً ، ولا حاجة إلى وسائط ، قال تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) [ البقرة : 186 ] .
خطأ أهل البدعة :
إن الذين يرتكبون الشرك أو يبتلون بالبدع والخرافات يتعرضون لهذا الخطأ ، بحيث إنهم يتخذون واسطةً بينهم وبين الله ، ويظنون أن فلاناً إذا أصبح ولياً ، فكأنه مقرب إلى الله ، فإذا تصرف في شيئ لم يرفضه الله ، بل يكمل عمله ، فإذا شاء هذا الولي نفع أحداً ، وإذا شاء ضرَّه ، كأن هذه الفكرة قد رسخت في أذهان الناس أن هذا الولي نشأت فيه قوة خارقة للعادة من الله ، فهم يزورون القبور ، ويظنون أن الولي في قبره يحمل من الله قوةً خاصةً ، فإنه يستطيع أن يكشف كرب الناس ، وينفعهم ، تدخل هذه الفكرة في الناس بسرعة ، وتنتهي إلى الشرك ، ومن مواضع الضعف في الإنسان أن أمثال هذه الأمور تحدث في ذهنه بسرعة ، ولم يكن وراء ذلك إلا أن موظفين من المستوى الرفيع يكونون مخططين في النظام الإنساني ، فلا يعمل ملك بنفسه شيئاً ، بل يأمر ، وينفذ إرادته ، والوزاء الآخرون يعملون أعمالاً ، ويكون تحت إشرافهم أمناء ومسئولون ، فالناس لا يذهبون إلى الملك لإنجاز أعمالهم ، بل يذهبون إلى هؤلاء الأمناء والوزراء ، ويقدمون لهم هدايا وتحائف لإرضائهم ، ليكملوا أعمالهم في أقصر وقت ، فلا حاجة إلى إرضاء الملك ، بل الحاجة كل الحاجة إلى إرضاء الوزراء والمسئولين ، فالإنسان يطبق نظام العالم هذا على نظام الله تعالى ، وينتهي الأمر إلى الشرك .
يرتكب الإنسان أولاً الشرك الخفي ، ونعوذ بالله أن كثيراً من الناس قد وقعوا في هذا الشرك ، فإنهم يعتبرون الوسائل والأدوات مؤثرةً في إكمال أمورهم ، وقد ورد في بعض الحديث : من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكوكب ( صحيح البخاري ، كتاب الأذان باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم : 846 ) ، وقد نهى الحديث عن إبداء هذه الفكرة أن المطر نزل نظراً إلى الفصول ، الواقع أن الله تعالى ينزل المطر بفضله ومنه ، لكن الكاهنين يقولون : إذا طلع نجم فلاني نزل المطر ، فإنهم يعتبرون النجوم أصلاً في نزول المطر ، وهذا هو الشرك أن يعتقد الإنسان الأشياء المادية مؤثرةً .
خطأ إبليس :
ذكر الله تعالى أن الشيطان يضل الناس ، ولا قيمة للشيطان عند الله ، وكان الشيطان من ذرية الجن ، إنه أطاع الله قبل استكباره إطاعةً كاملةً ، واتخذ طرقاً شتى لإرضائه ، فرفع الله شأنه ، فجعل يرافق الملائكة ، كأنه منهم ، ومعلوم أن رفاق الإنسان يُعدون منه ، فكان إبليس مثل الملائكة ، رغم أنه ليس ملكاً ، وكانت فطرته تختلف من فطرتهم ، فعصى أمر الله تعالى ، فلم يكن عصيانه في رفض السجود لآدم عليه السلام فقط ، بل قام بتأويل أمره ، أي جادل الله ، لما سأله الله : لماذا لم تسجد ؟ فإن كان يشعر بخطأه وتقصيره استدرك ما صدر منه خطأ ، وقال : قد نسيت ، أو قال : إني ظننت أني لست بمخاطب لهذه السجدة ، فلو قال مثل هذا الكلام لكان الأمر بالعكس ، لكنه بدأ يجادل الله : إنه أكبر من آدم ، فكيف يسجد لآدم ؟ فلماذا جادل الله ، فلم يكن جديراً بأن يعيش بين الملائكة في الملأ الأعلى ، وقد سُمح له بالذهاب والإقامة فيه ، وكان فضل الله عليه أنه أذن له بالإقامة مع الملائكة ، فكان يقيم معهم ، ويرافقهم ، وتحصل لهم فوائد ما تحصل للملائكة ، لكنه أساء إلى نفسه باستكباره ، ولم ينسب هذه الإساءة إلى نفسه ، بل قال : أغواني الله تعالى ، فنغوي ونضل جميع الناس ، وقد أصبت بهذه البلية من عدم السجود لآدم ، فلا أترك أبناءه آمنين مطمئنين ، بل أضلنهم وأغوينهم إلى جهنم ، قال تعالى : ( قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لَـأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَـأَتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ . قَالَ ٱخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَـأَمْلَـأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأعراف : 16 – 18 ] .
غاية خلق الإنسان :
خلق الله الإنسان بشراً مكلفاً ، وهو يريد أن يكرمه بجنات النعيم على أداء وظيفة العبودية بأحسن طريق ، فالذين يؤدون هذه الوظيفة بكل أمانة ودقة يدخلون الجنة ، لكن الذين لا يفكرون في غاية خلقهم ، ولا يستعملون عقولهم ، فلهم آذان لا يسمعون بها الحق ، ولهم قلوب لا يفقهون بها ، ولا يتوصلون إلى الحقيقة ، بل يعتمدون على الوسائل ، ويظنون أنها هي المؤثرة في أعمالهم ، فلا تتم أعمالهم بدونها ، وإذا قيل لهم : اطلبوا كل شيئ من الله مباشرةً ، قالوا : كيف يمكن أن نتوصل إلى الله بدون واسطة ، وهو على العرش ، فلا نصل إليه ، وقد أمرهم الله تعالى أن يتصلوا به اتصالاً مباشراً ، ولا يعتبروا الوسائل أصلاً ، ثم لا يحتاجون بعد ذلك إلى أي شيئ آخر ، يجب على الإنسان أن يؤمن بالله إيماناً كاملاً ، ويسأل الله كل شيئ ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ . وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) [ الأعراف : 179 – 180 ] .