خير جليس في الزمان كتاب

الأنباء النبوية حول الأحداث في العالم
يوليو 31, 2021
ماذا تعلّمنا من فيروس كورونا ؟ – منظور إسلامي
سبتمبر 4, 2021
الأنباء النبوية حول الأحداث في العالم
يوليو 31, 2021
ماذا تعلّمنا من فيروس كورونا ؟ – منظور إسلامي
سبتمبر 4, 2021

الدعوة الإسلامية :

خير جليس في الزمان كتاب

الأستاذ إرشاد أحمد [1]*

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابحٍ  وخيرُ جَليسٍ في الزمان كتابُ

( أبو الطيب المتنبي )

إنَّ المطالعة والقراءة حديقة فيها أشجار مختلفة ، وكل شجرة مليئة بثمارها اليانعة ، وكل ثمرة شهية ، إذا ذقت لذتها مرَّةً ، فسوف تطلبها مراراً وأنت لا تشبع ، ما هذه الحديقة ؟ وما هي ثمارها ؟

تفضل أيها القارئ ! أخبرك عن تلك الحديقة الجميلة التي تخضع أغصان أشجارها حاملة ثمارها اليانعة ، وأخبرك عن فوائد قطفها . نعم هي مكتبة ، وكتبها المتنوّعة ، هي أشجارها المختلفة في أنواعها ، وما في الكتب ، هي ثمارها اليانعة ، وقطفها لا يمكن إلا بالمطالعة ، إن المطالعة كماء للحقول ؛ لأنَّ الزرع أو الحقل لا ينبت ولا ينمو إلا بالماء ، فكذلك لا يمكن لطالب أن يترقّى ويصل إلى قمم المجد والكرامة إلاَّ بها . إنَّ مطالعة الكتب تشحذ الفطنة ، وتنوِّر قلب القارئ بالعلم والعرفان ، وتحوّله إلى المجد والكرامة ، وتسير به إلى العالم كلّه ، وتطير به إلى فضاء أوسع ، وتسبح به في يمّ المعرفة والثقافة ، وتقصّ عليه قصص الأبطال والمغامرين ، وتكشف له رموز العالم ، والأسرار التي لا يعرفها . إذا كنت حزينا فلا تقلق ، بل اذهب إلى صديقك الوفيّ الذي في انتظارك منذ أن وُلد ، ليزيل عنك الحزن والهم والغم ، وإذا استوحشت فلا بأس ، ارجع إلى مؤنس الوحدة ، ليؤانسك في الوحدة ، نِعْم العمل هو المطالعة ! ونعم الهويَّة هي ! ونعم السُّحب التي تظلّ على الإنسان وتحميه من أشعة الشمس الساطعة المؤذية ، ونعم الهواء هي التي تنطلق نسمة نسمة عندما يكون الكتاب بين يديك ، وأنت مستغرق فيه ، نعم ما قاله شوقي :

أنا من بدَّل بالكتب الصحابا

لـم أجــد لي وافيا إلا الكتابا

قارئي العزيز ! لا أطيب ثمرة وأسرع إدراكاً من كتابٍ ، ولا كرامة ، ولا عزَّة ، ولا شرف ، ولا علوَّ ، إلا بمطالعة الكتب ، فاجعل نفسَك كريماً عزيزاً ، شريفاً بها ، وزيِّن نفسك بطيب الأخلاق الحسنة ، وغُص في بحر العلوم بالمطالعة ، واختطف من دُررِها القيِّمة ، وأنشد كما أنشد الشاعر :

مـا تطعَّمــتُ لذَّةَ العيـــشِ فيه حــتى  صِرتُ للبيت والكتابِ جَليساً

ليـــسَ شيئٌ عندي أعـزُّ مــــن العـلـم  فـمــــا أَبْــــــتَــــــغِـيْ سَـوَاه أنيســـاً

إنَّـــــمـــــا الذُّلُّ في مخـالَطَة النـــــاسِ  فدَعْهُـم وعِشْ عَـــــزيـزاً رئيســاً

ولولا المطالعة لم يكن العلماء والظرفاء والأدباء ؛ لأن المطالعة هي مفتاح الكتابة وأساسها ولبنة أولى لعمارتها ، لاغرو لو قلت : لولاها لما كانت على الأرض كواكب العلم والعرفان اللامعة ، إنَّ المطالعة تقوِّي ذاكرتك ، وتنضج عقلك ، وتُطلِق لسانك ، وتكشف لك الأسرار ، وتُزهِّدك عن الدنيا وترغِّبك في الآخرة ، وتُزيِّن نفسك بالسجايا الطيِّبة ، وتكون بها حكيماً بليغاً ، ثرياً بكنوز العلوم ، وتصل بها إلى معرفة ما لا تعرف ، وعلمِ ما لا تعلم ، وبها تصحِّح أفكارك ، وتوجِّهها إلى النهج المستقيم .

وقال أحمد بن أبي عمران ، قال : ” كنت عند أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع وقد تخلَّف في منزلِه فبعث غلاماً من غلمانه إلى أبي   عبد الله بن الأعرابي صاحبِ الغريب يسأله المجيئ إليه ، فعاد إليه الغلامُ  فقال : قد سألتُه ذلك فقال لي : عندي قوم من الأعراب فإذا قضيتُ أرَبي منهم أتيتُ ، قال الغلام : وما رأيتُ عنده أحداً إلا أنَّ بين يديه كتباً ينظر فيها فينظر في هذا مرةً ، وفي هذا مرةً ، ثم ما شعرنا حتى جاء فقال له أبو أيوب : يا أبا عبد الله ! سبحان الله العظيم ، تخلَّفتَ عنا وحرَمْتَنا الأنسَ بك ، ولقد قال لي الغلام : إنَّه ما رأى عندك أحداً ، وقلتَ : أنا مع قومٍ من الأعراب ، فإذا قضيتُ أرَبي معهم أتيتُ ” فقال ابن الأعرابي :

لَــنَــا جُلَــــسَـــاءُ مَـا نَــــمَــلُّ حَدِيثَـهُـم  أَلِبَّاءُ مَأمُونُوْنَ غَيْبًا وَمَشْهَدًا

يُفِيْدُوْنَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ علــمَ مَـا مَضَى  وَعَـقْلاً وَتَأْدِيْبًا وَرَأْيًا مُـسَدَّدًا

بِـلاَ فِــتْــنَةٍ تُخْشَى وَلاَ سُوْءِ عِــــشْرَةٍ  وَلاَ يُتَّقَى مِنْـهُمْ لِسَانًا ولاَ يَدًا

فإنْ قلــتَ أَمْوَاتٌ فَلاَ أَنْــتَ كاذِبٌ  وَإِنْ قُلْتَ أَحْيَاءٌ فَلَسْتَ مُفَنَّدًا

( جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر : باب في فضل النظر في الكتب : 2/1227 )

وقال الدكتور عائض القرني :

” إنَّ من أسباب السعادة الانقطاع إلى مطالعة الكتب والاهتمام بالقراءة ، وتنمية العقل بالفوائد . والجاحظ يوصيك بالكتاب والمطالعة لتطرد الحزن عنك فيقول : ” والكتاب هو الجليس لا يطريك ، والصديق الذي لا يغريك ، والرفيق الذي لا يملَّك ، والمستميح الذي لا يستثريك ، والجار الذي لا يستبطيك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ، ولا يعاملك بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق ، ولا يحتال لك بالكذب ، والكتاب هو الذي إن نظرت إليه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوَّد بنانك ، وفخَّم ألفاظك ، وبحبح نفسك ، وعمر صدرك ومنعك تعظيم العوام وصداقة الملوك ، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر مع السلامة من الغرم ومن كد الطلب ، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم ، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقاً ، وأكرم منه عرقاً ، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء ” ( لا تحزن : 148 ) .

وبالمطالعة والقراءة يعرف الإنسانُ أسبابَ انحطاط الأمم الخالية ليحترز عن الوقوع فيها في الحياة الراهنة ، ويطلع بها على بواعث زوالها لينأى عنها ، ويدرك بذلك تداعيات ذهاب ثقافاتها ؛ ليبتعد عنها ، وهو إلى جانب ذلك ينتفع بقراءة حياة الناس الأوائل والشخصيات العبقريَّة والرجالات التاريخية العظيمة وحياتهم النيِّرة ، ويستفيد من تجارب الأقدمين في أقصر مدة ؛ فإنَّ القارئ المتتبع لحياة المتقدمين والمطلع على تراجمهم والنظر في مواقفهم الفكريَّة العميقة المذكورة في مراجعهم يحذيه معلومات قيمة وفوائد جمة حيث لا يدركها في الكتب العامة .

ولوع السلف الصالحين بالمطالعة :

وأردتُ أن أقف في هذه العجالة مع بعض العلماء الربانيين الذين أمضَوا سائر حياتهم – رحمهم الله – في القراءة وطلب العلم حتى آخر يومٍ من حياتهم ، فأسرد هنا شيئاً قليلاً من مزاياهم ومواقفهم ، ولعلَّها ترفع همماً فاترةً ، للبحث كرَّرَاةً  ، وفي ميادين العلم زوّارة .

أولاً : الهمَّة في الحرص على اقتناء الكتب المفيدة .

قد أقبل الناس في البلدان العربية قديماً على اقتناء الكتب إقبالاً منقطعَ النظير يشبه إلى حدٍ كبيرٍ شغفَ الناسِ في عصرنا هذا باقتناء السيارات والثلاجات وأجهزة الهواتف .

ونَمَتْ دُورُ الكتب في كل مكان نمو العشب في الأرض الطيبة . ففي عام  ( 891م ) يحصي مسافرٌ دور الكتب العامة في بغداد بأكثر من مأة ، هذا هو الحال يومئذ قبل قرون طويلة ، وأما الآن فما بالك بعدد المكتبات وقد تطورت الحياة حتى الأجهزة الناسخة والمطبعية . وكانوا يشترونها بلهفة متزايدة لم يعرف لها التاريخ من قبل مثيلاً ؛ ويجب أن نعلم أنَّ ثراء الناس كان يقاس بمدى ما يقتنونه من كتب أو مخطوطات .

وقال الجاحظ : ” من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذَّ عنده من إنفاق عُشّاق القِيان والمستهترين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً . وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسَه باللبن على عياله وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه ”           ( الحيوان : 1/55 ) .

ثانياً : سبق العلماء إلى القراءة :

لا مراء أنَّ السلف الكرام استبقوا إلى القراءة والمطالعة وآثروها على أثمن شيئ في الحياة الدنيا ، وقدَّموها على كل ما هم ولزم من أمور الدنيا .

فقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :

يحكي عن حال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في القراءة : ” وحدثني شيخنا قال : ابتدأني مرضٌ ، فقال لي الطبيب : إنَّ مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض ، فقلت له : لا أصبر على ذلك ، وأنا أحاكمك إلى علمك . أليست النفس إذا فرحت وسُرّت وقويت الطبيعة فدفعت المرض ؟ فقال : بلى ، فقلت له : فإنَّ نفسي تُسَرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحةً . فقال : هذا خارجٌ عن علاجنا ” . ( روضة المحبين : 70 ) .

وقال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى :

” لا تكاد نفسُه تشبع من العلم ، ولا تروي من المطالعة ، ولا تمل من الاشتغال ، ولا تكلُّ من البحث ، وقلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب ، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله ” . ( العقود الدرية : 5 ) .

ثالثاً : النفَس الطويل في القراءة والبحث في بداية الطلب :

حكى ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن نفسه في صيد الخاطر عن نفَسه الطويل في القراءة فقال : ” وإني أخبر عن حالي : ما أشبع من مطالعة الكتب ، وإذا رأيتُ كتاباً لم أقرأه  ، فكأني وقعتُ على كنز .

وقال ابن الجوزي : ” ولو قلت : إني طالعت عشرين ألف مجلد كأن أكثر ، وأنا بعد في الطلب ” . ( 557 ) .

وذكر السخاوي رحمه الله تعالى في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجر :

” وقد سمعته يقول غير مرة : إنني لأتعجب ممن يجلس خالياً عن الاشتغال ” . ( الجواهر والدرر : 1/170 ) .

رابعاً : الاستغناء عن الناس والتفرغ للقراءة :

وذكر الإمام الذهبي رحمه الله في السير في ترجمة الأعجوبة الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رحمه الله فقال : ” كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته ، فقيل له : ألا تستوحش ؟ فقال : كيف أستوحشُ وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ” . ( السير : 8/382 ) .

وقال العلامة تقي الدين المقريزي رحمه الله :

وقد أعرضَتْ نفسي عن اللهو جملةً  وملَّت لقاءَ الناس حتى وإنْ جــلَّـــوا

وصـار بــــحـمـد الله شـغلي وشاغـلي  فوائد علمٍ لستُ من شُغلــهـا أخلوا

فطوراً يــــراعــــي كــاتــبٌ لفـوائـــــدٍ  بصحّتها قد جاءنا الـــعــقـل والنقل

وآونــة للــــعـــــلــــم صـــدري جـــــــامــعٌ  فتزكو به نفسي وعن همّها تسلو

( دُرر العقود الفريدة : 1/50 )

خامساً : تكرار القراءة أفضل من تنوعها :

ذكر الأديب العقاد مقولةً رائعةً وهي : ” قراءة كتاب ثلاث مرات خيرٌ من قراءة ثلاثة كتب ” .

ومن هذا الباب كان فقه السلف رحمهم الله والعلماء المشتغلين بالعلم في أهمية التكرار لما يقرأ ، ولذلك عندما سُئل الإمام البخاري رحمه الله في الحفظ بأي شيئٍ يكون ، قال: بإدامة النظر ” ، وقصد رحمه الله بالتكرار . وعليه فهذا حال العلماء في القراءة وتكرارهم فاعرف فضلهم وعلو كعبهم في القراءة وحبهم للعلم ، فهكذا صنيع الأوائل .

وذكر السبكي رحمه الله تعالى في طبقاته ( 2/99 ) عن الربيع المزني – تلميذ الشافعي – رحمه الله قال : أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة ، ما أعلم أني نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئاً لم أكن عرفته ” .

فليتأمَّل القارئ ! لا كلل ، ولا سآمة ، بل الحرص البالغ على المزيد من الطلب والعزيمة الصادقة ، والهمة العالية ، والتحصيل المستمر فلله درهم ، أبدعوا وأجادوا ، فنالوا وأفادوا ، وإن نعجب فعجب – والله – لغربة أهل هذا الزمان في طلب العلم .

وقال أيضاً : ” أفضل الأشياء التزيّد من العلم ، فإنَّه من اقتصر على ما يعلمه فظنّه كافياً استبد برأيه ، وصار تعظيمه لنفسه مانعاً من الاستفادة ، والمذاكرة تبين له خطأه ” .

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : ” ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيئ إلا في العلم ” . ( الفتح : 1/170 ) ، وبهذا القول كأنه أشار إلى قوله تعالى: وقُلْ رَبِّ زِدْنِيْ عِلْمًا .

* جامعة عبد الله عباس ،  كراتشي .