مصير المسلمين مرتبط بمصير العرب
نوفمبر 10, 2020ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله
يناير 6, 2021صور وأوضاع :
حرية الرأي أو جريمة لا تغتفر ؟!
محمد فرمان الندوي
قد بدت البغضاء من أفواههم :
أثارت وقاحة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم موجة غضب في أنحاء العالم الإسلامي في 21/ أكتوبر عام 2020م ، وذلك بقوله : ” لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي ، وإن تقهقر البعض ” ، أدان العالم الإسلامي بأجمعه بهذا الموقف البذيئ ، كما ناشد القادة الغيارى بمقاطعة المنتجات والبضائع الفرنسية ، ومما يزيد الأمر تفاقماً أن الرئيس الفرنسي لم يكتف بذلك ، بل صرح بتأكيد بالغ عن نشر الرسوم مراراً ، كما ربط الإسلام بالإرهاب والتطرف ، وقد سمح بدراسة هذا الموضوع أمام الطلبة في المدراس الحكومية ، واعتبر ذلك حرية تعبير الرأي .
ليس هذا أول مرة في تاريخ أوربا ، بل قد نشرت رسوم كاريكاتيرية في الدنمارك من قبل عام 2005م ، في صحيفة يولانس بوستن ، كما تجرأت صحف عديدة في النمسا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا بإعادة هذه الرسوم ، فقامت احتجاجات ومظاهرات شعبية ورسمية على أوسع نطاق ، مما أدى إلى تقديم معاذير وطلبات عفو ، وقد نشرت مجلة تشارلي أيبدو ، قبل خمسة أعوام رسوماً مسئيةً إلى مكانته صلى الله عليه وسلم ، ومات رئيس تحريرها بعد مدة شر ميتة . ظهرت هذه الرسوم بألوان وأشكال قبيحة : رجل ذو لحية بعمامة كتب عليها لا إله إلا الله ، والعمامة تمثل أيضاً قنبلةً كرويةً لها فتيل ، ورجل ذو لحية كثة ، يحمل سيفاً وخنجراً ، وغير ذلك ( قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ) ( آل عمران : 118 ) .
ردود فعل عالمية :
صدرت ردود فعل عالمية على هذه الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم ، من الجهات الرسمية والشعبية ، نذكر هنا كلمتين : إحداهما لشيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ، فقد أفادت صحيفة ” عربين بوست ” في عددها 25/ 10/ 2020م أنه قال في كلمته : نشهد الآن حملة ممنهجة للزج بالإسلام في المعارك السياسية والصناعة الفوضوية ، بدأت بهجمة مغرضة على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ، لا نقبل بأن تكون رموزنا ومقدساتنا ضحيةً مضاربةً رخيصةً في سوق السياسات العالمية والصراعات الانتخابية ، ووجه خطابه لمن يخلطون بين حرية التعبير وعدم احترام الأديان بقوله : أقول للذين يبررون الإساءة لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم : إن الأزمة الحقيقية هي بسبب ازدواجيتكم الفكرية وأجندتكم الضعيفة ، داعياً إلى عدم تأجيج الصراع باسم حرية التعبير .
ونقلت أجهزة الإعلام الإلكترونية والمطبوعة بياناً صريحاً لرئيس ندوة العلماء سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي في 30/ من شهر أكتوبر 2020م ، قال فيه : ” إن نشر الرسوم الكاريكاتيرية في هذه الأيام في فرنسا مبعث حزن وألم بالغين ، وإن أدنى استهانة بذات الرسول صلى الله عليه وسلم أفدح أمر ، لا يصبر مسلم على سوء أدب قليل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنه أحب وأعز إلى كل إنسان ، من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين ، وبدونه لا يكتمل إيمانه ” ، وأضاف قائلاً : فهذه الإساءات لا تنقص شيئاً من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنها تكون وصمة عار على المسيئين إليه ، وقد ارتكبت قبل سنوات صحيفة في الدنمارك هذه الجريمة الوقحة ، ثم صدر الآن بيان للرئيس الفرنسي لنشر الرسوم مراراً وتكراراً ، هذا دليل على أنه فقد رشده ، وأفلس ذهنه ، فالعالم كله من شرقه إلى غربه ولا سيما هيئة الأمم المتحدة مسئولة عن وضع حد على نشر هذه الرسوم المسيئة ، وإغلاق باب الوقاحة التي تستمر باسم حرية الرأي ” .
هل وراء هذه الوقاحة من لعبة ؟
فرنسا ، وهي أرض الفرنجة دولة علمانية ، اندلعت فيها ثورة كبيرة بسبب الفقر المدقع ضد النظام الملكي عام 1789م ، وتأسست فيها الجمهورية 1792م ، وقد مرت فرنسا خلال هذه الفترة بظروف وأوضاع طارئة ، حتى بلغ الأمر إلى أن أصبح ” إيمانويل ماكرون ” رئيس جمهورية فرنسا البالغ من عمره 43 عاماً ، عام 2017م ، وكانت من قبل رئيسة فرنسا : نيكولا سركوزي ، وقد نشرت صحيفة Policy Foreign الأمريكية تقريراً عنوانه : ماكرون ليسا قلق من الإسلام ، إنه قلق من ماري لوبان زعيمة حزب اليمين المتطرف ، وهو يواجه صعوبات داخليةً في بلاده ، وقد حصل تراجع كبير في شعبيته ، فاختار موضوعاً غريباً لاسترعاء انتباه الناس إليه ، وكسب توجهات الشعب الجمهوري ، وحسب تعبير المجلة الأمريكية : إنه تلميع صورته كسياسي صارم في مواجهة التطرف ، فالرئيس الفرنسي يفتح بهذه البيانات باباً للانتخابات الجديدة التي تجري في فرنسا بعد هذا العام .
على كل ، فإن هذا العمل الشنيع ( نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم ) يبعث على الحيرة والاستغراب ، ويدل على ما يضمر الغرب في طبيعته من عداوة صارخة نحو الإسلام والمسلمين ، الغرب يدعي بأنه حامل لواء العلم والقانون ، ويعلن عبر وسائل الإعلام عن هذه الدعاوي ، لكن سلوكياته تخالف تصريحاته ، يزعم الغرب بانتمائه إلى النصرانية ، ويتخذها شعاراً وعلامةً لأفراده ومواطنيه ، والنصرانية دين المغفرة والرحمة ، دين المودة والمحبة ، دين القسيسين والرهبان ، وهم أقرب الناس مودةً للذين آمنوا ، قال تعالى : وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ( المائدة : 83 ) . أليس من سفاهة الغرب أنه يدعي دعاوي عاليةً رفيعةً ، وينعر بنعرات قويةً وشديدةً ، ويخلو باطنه من ظواهر الأمر وحقائق الكون .
ومما يناقض هذا الاتجاه وجود مستشرقين في أوربا ، يدرسون القرآن الكريم والحديث النبوي والتاريخ الإسلامي ، لا لزيادة المعلومات والدراسات الواسعة ، ولكشف الحقائق المكنونة في التاريخ ، بل لإلصاق العار بوجه الإسلام المشرق ، وتوجيه التهم إلى المسلمين بأنهم رجال عنف وتطرف ، وأنهم قوم لا يقرأون ، يكفي ذكر هذه الأسماء لبيان هذا الواقع : غولد زويهر ، واسبرنغر ، وابربري وغيرهم ، بيد أنهم قاموا بتحقيق بعض النسخ الخطية في المكتبات العالمية ، وأبرزوها إلى سوق العلم والدراسة في أحسن لباس ، وقد أعد بعض منهم معاجم حديثيةً لا يمكن إعدادها بأيسر طرق ، لكن الإساءات التي تستمر منهم نحو مصادر الإسلام والمسلمين في صورة الغزو الفكري لا تقل قيمتها ، وتزداد فداحتها على مر الأيام ، وقد أصيب النشء المسلم بدراستها بمركب النقص ، وضعفت ثقته بالإسلام وشعائره ، كأن دراساتهم سموم قدمت في صورة أغلفة جميلة قشيبة ، وقد وسع الغرب هذا النطاق . فنشرت شبكات التبشير وجمعيات التنصير في كل بقعة من بقاع العالم ، وخاصةً في المناطق المتضررة ، حيث يسكن الفقراء والمساكين ، فإن رجالها يستغلون فقرهم وضعفهم ، ويدعونهم إلى تعاليم النصرانية .
الإساءة إلى رجل أو امرأة يعتبر عملاً شنيعاً في كل مجتمع ، فضلاً عن القديسين في الديانات العالمية ، أما الأنبياء والرسل فإنهم مبلغو رسالات الله إلى الناس ، وهم أفضل خلق الله في هذا الكون ، وبهم ربطت السماوات من الأرض ، فكيف يسمح قانون بالإساءة إليه ، ومما يسرنا ويسرجميع القراء أن أوربا التي تدعي بحرية الرأي وإبداء الفكر البنّاء نحو الأنبياء والرسل ، توجد في دساتيرها قوانين جنائية ضد الإساءة إلى الرموز الدينية ، وقد كشف تقرير في شبكة الانترنيت ، مفاده : ففي النمسا يوجد بندان ( 188 – 189 ) من القوانين ضد الإساءة ، وفي ألمانيا يوجد بند ( 166 ) ، وفي هولندا يوجد بند ( 147 ) ، وفي أسبانيا يوجد بند ( 525 ) ، وكذلك في دساتير إيطاليا والمملكة المتحدة والولايات الأمريكية المتحدة ، لكن هذه القوانين حبر على ورق ، ونفخة في رماد ، لا تنفذ ولا تطبق في المجتمع الإنساني ، وإذا كانت هناك مناسبة لتطبيقها ، فتستغل منها مصالحها ، وتشبع بذلك غرائزها .
واجبنا نحو الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم :
ليس على وجه الأرض ديانة إلا الإسلام يستنكر استنكاراً شديداً نشر الرسوم والصور للرجال والنساء ، لأنها تحط من كرامتهم ، وتلحق مكانتهم بالحضيض الأسفل ، وقد فرض الإسلام الحظر على نحت صورة لنبي أو رسول ، لأنه يؤدي إلى عبادته والاستعانة به ، وقد شهد التاريخ الإنساني في بداية عهده أن الصلحاء في الأمم الماضية صنعت لهم صور ، ثم نحتت لهم تماثيل ، ثم جرت عبادتها في الأجيال الآتية ، وكان دليلهم على ذلك : ” وجدنا آباءنا ، كذلك يفعلون ” . وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الإنسانية جمعاء بقولته الخالدة : أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ، ( صحيح مسلم عن ابن مسعود ) وقال أيضاً : لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ( صحيح البخاري عن أبي طلحة ) .
ومن حكمة الله تعالى أن نشر الرسوم الكاريكاتيرية في فرنسا كان في شهر أكتوبر 2020م ، المصادف لشهر ربيع الأول 1442هـ ، ومعلوم أن شهر الربيع شهر ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمسلم كيف كانت نسبته في الإسلام تتجدد علاقته بالنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر ، إما بدراسة كتب السيرة أو بسماع محاضرات وخطب في السيرة النبوية ، فلما قرع آذانهم بيان الرئيس الفرنسي حول النبي صلى الله عليه وسلم قاموا وقعدوا واستشاطوا غضباً ، وجددوا إيمانهم وعهدهم بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأعلنوا بكل قوة على شتى المستويات : أنهم لا يتنازلون عن عمله أو قوله أو تقريره نحو بناء الحياة الإنسانية على أسس متينة . والجدير بالذكر أن هذا الوضع أيقظ ضماير النوع البشري لدراسة السيرة النبوية على صاحبها ألف ألف تحية وسلام ، فتعود المسئولية على المسلمين جميعاً ، عرباً كانوا أو عجماً أن يقدموا إلى الإنسانية نماذج من السيرة النبوية حتى تكون ذريعةً للتأمل والدراسة لهم وبذلك ينكشف الغبار ويصفو الجو ، وتزول من القلوب الشحناء والبغضاء ، ويعود إلى العالم حياة من جديد . ( والله ولي التوفيق ) .