عظمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ( الحلقة الأولى )
أبريل 27, 2024منهج التجديد والتيسير في الفقه الإسلامي عند الشيخ يوسف القرضاوي
أبريل 27, 2024الدعوة الإسلامية :
حذاري ثم حذاري
الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد
من الناس بما لديه من وجاهة وأناقة وحسن مظهر ، وبما يتفوه به من فصاحة لسان وسحر في البيان وطلاقة في التبيان ، يستميل آذان وقلوب مستمعيه ، يعيرونه كل اهتمام ، يصدقونه القول ويبنون عليه آمالهم ، بينما هو يكذب ويفتري ويخترع الأوهام ، وقد ينسب لنفسه أو لغيره بطولات وأساطير ، يبثها بين الناس ، دون حدود لهرائه وهذيه ، بل ويجادل عما يقوله بقوة وعنف ومغالبة ، قال تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) [ المنافقون : 4 ] أي إذا رأيتهم ، تعجبك هيئاتهم وأشكالهم وإن يتكلموا تسمع لكلامهم لما فيه من بلاغة وفصاحة ، وتختم نفس الآية بقوله تعالى : ( هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ) . وجاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا ، فعجب الناس لبيانهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحراً ) أو قال : ( إن بعض البيان لسحر ) وفي آية أخرى قال تعالى : ( وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ) [ البقرة : 204 – 206 ] ، أي من الناس من تستحسن قوله ويعظم ذلك في قلبك ، وفلتات لسانه تدل على مخبوء نفسه ، كاذب القول وشديد القسوة في المعصية ، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة ، وهو أشد المتخاصمين خصومةً ، وإذا تولى أي ملك الأمر ، وصار إليه ، يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل ، وإذا عارضته بالنصيحة والتذكير بتقوى الله في أقواله وأفعاله أخذته العزة بالإثم . يقول الأمام أبو سعيد الخراز : كل باطن خلاف الظاهر فهو باطل . وقال تعالى : ( كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) [ الصف : 3 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقارض من نار ، قلت من هؤلاء يا جبريل ! قال : خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ) . ومثل هؤلاء من تتعالى نبراتهم وتزداد صيحتهم أمام الميكرفونات في اللقاءات والتجمعات ، بالخطب الرنانة التي تستخدم إما لإشعال حماس الناس أو لتغييب وعيهم وتثبيط همهم ، وإلهائهم عن التفكير في واقعهم المرير ، ولا يخرج غالبيتهم عن كونهم أبواقاً للأنظمة الفاسدة ، وأتباعهم يتبعون كل ناعق ، فهم غثاء وسيذهب جفاءً ، غداً أو بعد غد ، ومهما طال عليهم الزمن فهذا مصيرهم ، والمسلم يجب عليه أن يكون فطناً حذراً من مثل هؤلاء والذي غالب تأثيرهم يكون على العوام البسطاء من الناس ، الذين هم وقود أي تحرك أو عمل جماعي ، ويجب أن نشير إلى أن هناك فرقاً كبيراً بين من يتكلم بلسانه ، وهو متصنع بالكلام ، ليسبي به قلوب المستمعين ، وبين من هو مخلص ، مكلوم القلب على ما يحدث وما يلم بأحوالنا ، يتكلم بنبضات قلبه ، ولواعج حزنه وأساه لما آل إليه حالنا ، فلا شك أن تأثير الثاني أبلغ والاستجابة إليه أقوى ، والاتعاظ بكلامه أعظم . قال عمر بن ذر لأبيه : يا أبت ! مالك إذا تكلمت أبكيت الناس وإذا تكلم غيرك لم يبكهم . فقال : يا بني ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة . فالكلمة التي لا تنبعث من القلب لا تنفذ إلى القلب ، والموعظة التي لا تمتزج بالروح لا تؤثر في النفس ، روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً .
وكما هناك نائحة مستأجرة ، نجد أيضاً مستأجرين ، ولكن هناك متخصصين ومتمرسين وذوي براعة فائقة وقدرة هائلة ، في التفوه بما فيه إقناع الآخرين ، بما يمليه عليهم مستأجروهم ، والذي لا يخرج عن كونه جدالاً بالباطل لدحض الحق ، وصد عن الحديث النافع والعمل النافع ، ومنهم من يقدح زناد فكره ليضل عن سبيل الله ويلهي عن طاعته ، ويصد عن مرضاته ويتخذ آيات الله هزواً ويسخر بها ، كالقائمين على الأفلام والمسلسلات والمسرحيات خاصةً تلك التي تحتوي على كل كلام محرم وكل هذيان من الأقوال المرغبة في الكفر والفسوق والعصيان ، وكل من ينتجون ويسوقون ويعلنون عن كافة الأمور الملهية والتي لا نفع فيها ولا منها في دين ودنيا ، قال تعالى : ( وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) [ لقمان : 6 ] .
والعجب كل العجب عندما تجد من هؤلاء من ينظر إلى نفسه نظرة إعجاب وافتخار ، وينظر إلى الآخرين نظرة احتقار وازدراء ، وينظر إلى عقله نظرة انبهار فهو العقل المثالي ، الذي لم ولن يخلق مثله أبداً ، وما لديه من علم وحجة يفوق أقرانه ، فهو علامة عصره ، يفتي في كل شيئ وعن كل شيئ يتحدث ، وعلى الجميع الإصغاء والإنصات إليه ، فآراؤه هي الصواب بعينه الذي لا يشوبه خطأ ، ويصل به الحال احتكار الحق لنفسه وادعاء الكمال لفكره ، فلا يجوز لأحد مهما كانت منزلته وعلمه ، أن يوجه له أي نقد أو يقدم له أي نصح أو يخطئه في أي مسألة . ومهما حاولت إقناعه بخرف مقولاته ، والإتيان بالدلائل ، فلا حياة لمن تنادي ، لا تجد إلا بصائر عميت ، وآذاناً صمت ، وقلوباً صدأت ، فهناك أناس لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، وقد وصفهم المولى عز وجل بالأنعام ، قال تعالى : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ) [ الأعراف : 179 ] ، وهؤلاء لا يستحقون أن تخاطبهم بالحجة لأنهم لا يعقلونها ، وهي أمامهم أوضح من شمس النهار ، ومع ذلك ينكرونها ، مثلهم مثل البهائم التي ينعق لها راعيها ، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها ، فهي تسمع صوت الراعي ، ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها ، فهؤلاء يستمعون مجرد صوت ، ولكن لا يفقهونه فقهاً ينفعهم ، فلهذا كانوا صماً لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول ، عمياً لا ينظرون نظر اعتبار ، بُكماً لا ينطقون بما فيه خير لهم . قال عليه الصلاة والسلام : ” إذا رأيتم شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع أمر العوام ” حديث أبي ثعلبة . فمن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته أنه أخبرهم عما سيقع من أمور عظيمة تثبيتاً لهم وتقويةً لعزائمهم فإنه من فوجئ بالمحن من غير سابق علم تزلزل ، ومن علم باحتمالية حدوثها احترز ، وقال الإمام الشافعي مع سعة علمه : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب .
ومنهم إسلامهم من صنع عقولهم ، ومن إيحاء أهوائهم ، ومن تزيين شياطينهم لهم ، يأخذون منه ما يروق لهم ، ويدعون منه ما لا يعجبهم ، وفضلاً عن ذلك يدعون بأن ما هم عليه هو صحيح الإسلام ، وقد يصل بهم الحال إلى استئثار الإسلام لأنفسهم ، وإنكاره على غيرهم ، بل ويتهمون غيرهم حيناً بادعاء الإسلام ، وحيناً آخر بالتشدد فيه ، وفي بعض المواقف تجدهم يستشهدون بآيات من كتاب الله وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليعضدوا بها مواقفهم وليناصروا بها حجتهم ويبرروا بها أحقيتهم فيما يقولونه أو يفعلونه ، كما لو كانت هذه الآيات نزلت وتلك الأحاديث رويت لإدانة غيرهم ولم تكن لهم أيضاً ، ولو أنهم رعوها حق رعايتها ، وطبقوها على أنفسهم ووقرت في قلوبهم ونضحت على سلوكياتهم وتصرفاتهم ، ما كان وصل بهم الحال إلى ما وصلوا إليه قال تعالى في سورة البقرة ، الآية 44 : ( أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ، وقال تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ ) [ البقرة : 85 ] ، وهؤلاء ممن تسول لهم أنفسهم خداع غيرهم والمكر بهم ، في حقيقة الأمر ما يخادعون إلا أنفسهم وما يضلون إلا أنفسهم ، وما يهلكون إلا أنفسهم ، وما يمكرون إلا بأنفسهم ، بل وأنهم هم المفسدون ، وسيعود وبال أفعالهم هذه عليهم ، فهؤلاء الذين تعطلت حواسهم وتبلدت مشاعرهم ، فلا يحسون ولا يشعرون بما هم عليه ، قال تعالى : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ البقرة : 9 ] ، وقال تعالى : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ آل عمران : 69 ] ، وقال عز وجل : ( وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ الأنعام : 26 ] ، وقال تعالى : ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ الأنعام : 123 ] ، وقال عز وجل : ( أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) [ البقرة : 12 ] .
وآفتان هما سبب فيما عليه أمثال هؤلاء ، أولاهما : الظن ، فمن الناس لا علم لهم ولا يقين لهم بحقيقة ما هم عليه وما هم تابعين له ، فلا يتبعون دليلاً ولا برهاناً ، بل يتبعون ظناً وتوهماً وتخيلاً وشكاً ، قال تعالى : ( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً ) [ يونس : 36 ] ، وقال تعالى : ( إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) [ الجاثية : 32 ] ، وقال تعالى : ( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ ) [ النجم : 23 ] ، والشك لا يغني عن اليقين ، ولا يقوم مقامه ولا ينتفع به ، ولا يقوم مقام العلم ولا يغني عليه ، قال عز وجل في سورة النجم الآية 28 ( وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً ) أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق ، وقال تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) [ الأنعام : 116 ] ، ولو قدر أنك أطعت أكثر من في الأرض ، يضلونك عن دين الله ، فقد جرت سنة الله أن يكون الحق مع القلة ، فأكثر الناس لا يتبعون إلا الظن ، أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم ، فأديانهم فاسدة وأعمالهم تتبع أهواءهم ، وعلومهم ليس فيها تحقيق ، بل غايتهم أنهم يتبعون الظن ، الذي لا يغني من الحق شيئاً ، وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ، هو الظاهر لكل ذي عينين فأهل الكتاب تركوا هداية أنبيائهم ، وضلوا ضلالاً بعيداً ، وكذلك ما عليه أمم الوثنية . قال تعالى : ( وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [ المائدة : 49 ] ، وقال : ( وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) [ يونس : 92 ] ، وقال : ( وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) [ الروم : 8 ] ، وقال : ( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الأعراف : 187 ] ، وقال : ( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [ هود : 17 ] ، وقال : ( وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [ يوسف : 38 ] ، وقال : ( وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) [ يوسف : 103 ] .
وثانيهما : الهوى ، فمن الناس من يسير على هواه ، وهو ما يستحسنه من تصرفات وسلوكيات ، مهما كانت طبيعتها وحقيقتها ، ولا يفعل إلا ما يحلو له على طول الخط ، لا يلتزم بمبدأ ولا يحكمه عرف أو تقليد فضلاً عن قانون أو شريعة ، قال تعالى : ( وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ ) [ طه : 16 ] ، وإنما يحكمه الهوى والمزاج ، ولأن المزاج دائماً متقلب ، فليس له خط واضح في الحياة ، ولا اتجاه ظاهر ولا رأي ثابت في أي موقف ، يتأرجح في سلوكياته تبعاً لهواه ، وعادةً ما يتملص من وعوده ، ولا يستطيع أحد أن يتعامل معه من أي منطلق ، لأنه هو نفسه لا يتقيد بشيئ ولا يرسو على شيئ ، وهو سعيد بحاله هكذا ، وهذا الصنف من الناس لا يؤمن جانبه . قال تعالى : ( أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ) [ الفرقان : 43 ] ، وفي آية أخرى قال عز وجل : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ ) [ الجاثية : 23 ] ، أرأيت هنا للتعجب من شناعة أحوال من جعل هواه إلهاً ، فأطاعه كطاعة الله ، وجعله بمنزلة المعبود له الذي لا يخالفه ، فيما يملي عليه من أفعال وأقوال ، فينصاع إليها ويأتمر بها دون تفكر وتدبر ، قال تعالى : ( وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [ الأنعام : 119 ] ، إن كثيراً يضلون بأهوائهم بما تهواه أنفسهم بغير علم يعتمدونه في ذلك ، وقال تعالى : ( بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [ الروم : 29 ] ، ومن استحسن شيئاً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه . ولا أحد أكثر ضلالاً ، ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فإن الله لا يوفق لإصابة الحق الذين خالفوا أمره وتجاوزوا حدوده ، الذين جاءهم الهدى فرفضوه ، وعرض لهم الهوى فتبعوه ، سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها ، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها ، فهم في غيهم وظلمهم لأنفسهم يعمهون ، وفي شقائهم وهلاكهم يترددون . قال تعالى : ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ) [ القصص : 50 ] ، وتحذيراً من مثل هذا الهوى قال تعالى : ( وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ) [ ص : 26 ] ، وقال تعالى : ( وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذّٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [ الأعراف : 175 – 176 ] ، والآيات كثيرة في النهي عن اتباع الهوى أو اتباع من يتبعون أهواءهم ، قال تعالى : ( وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ ) [ الكهف : 28 ] ، وقال عز وجل : ( وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ) [ المائدة : 77 ] ، وقال : ( وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 145 ] ، وقال : ( فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ ) [ النساء : 135 ] ، كما بين المولى عز وجل أن الهوى كان سبباً في عدم الاستجابة للرسل بل وتكذيبهم وقتلهم ، قال تعالى : ( كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) [ المائدة : 70 ] ، وقال تعالى : ( فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ) [ القصص : 50 ] ، إنما يتبعون أهواءهم الباطلة ، وأما من نهى النفس عن الهوى فجزاؤه كما ذكر تعالى في سورة النازعات الآيات 40 – 41 ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ . فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ ) جعلنا الله وإياكم من أهلها .