ثورة في التفكير

البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم
يناير 1, 2020
الظلم مؤذن بخراب العمران
مارس 1, 2020
البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم
يناير 1, 2020
الظلم مؤذن بخراب العمران
مارس 1, 2020

بقلم : سماحة العلامة الإمام السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ( رحمه الله تعالى )

إننا – معشر المسلمين – في حاجة إلى ثورة ، ثورة في التفكير ، منذ قرون طويلة بدأنا ننظر إلى أنفسنا كمجموعة بشرية موزعة في العالم منتشرة في البلاد ، ذات قوميات مختلفة ولغات متنوعة وثقافيات محلية ، محاطة بظروف وأجواء خاصة ، و ” إمكانيات ” محدودة ، تجمع بين فروعها المختلفة وأسرها المتشتتة ” وحدتان ” اثنتان لا ثالثة لهما ،             ” العقيدة ” والخضوع للغرب والانحصار عليه في المعيشة والسياسة .

ومنذ مدة طويلة بدأنا نزن أنفسنا وقيمتنا ومكانتنا في خارطة العالم بهذه الطاقات و ” الإمكانيات ” وبما نملكه من الوسائل ، والمواد الخام ، وحواصل البلاد ومنتجاتها ، وعدد النفوس ، والقوة الحربية ، فنرى كفتنا راجحةً في إقليم ، طائشة في آخر ، راجحة في حين ، طائشة في حين آخر .

ومنذ مدة طويلة آمنا بسيادة الغرب وقيادته ، وأنه أمر مقرر وواقع ليس منه مفر ، وآمنا بأنه وضع لا يقبل التحول ولا التطور ، وتجدد المثل القديم وأصبح عقيدةً شائعةً : ” إذا قيل لك أن التتر انهزموا فلا تصدق ” [1] .

وأصبحنا لا نفكر في معارضة الغرب ومناقشة سيادته وجدارته للسيادة ، وإذا فكرنا في ذلك – على حين غفلة من العلم والدراسة والكياسة – استعرضنا طاقاتنا ووسائلنا والقوة الحربية في بلادنا ، وسهمنا من المخترعات الحربية والطاقات الذرية فاستولى علينا اليأس والتشاؤم ، وآمنا بأننا لم نُخلق إلا للخضوع والخنوع ، ولنعيش على هامش الحياة ، وعيالاً على الغرب مرتبطين معقودي النواصي بأحد المعسكرين المتنافسين .

هكذا يفكر العرب ، وهكذا يفكر المسلمون في باكستان ، وفي إندونيسيا ، وفي تركيا ، وهكذا يفكر الناس في اليابان ، وفي الصين ، وفي الهند ، وفي سيام ، وفي بورما .

هذا هو التفكير ” السليم ” ، وهذا هو المنطق ” السديد ” – كما يسميه الناس – وهذا هو الاستنتاج العلمي المبني على الدراسة والإيمان بقوة الأسباب وطبيعة الأشياء .

ولكن هناك جماعة لا تقبل هذا التفكير ، ولا تؤمن بهذا  المنطق ، بل تثور على هذا المنهج الفكري ، ثورةً قويةً عارمةً ، إن لها منهجاً – في العمل – مختصاً بها ، وإلى هذا المنهج يرجع الفضل في أفضل الثورات وأصلحها وأقواها في التاريخ ، وفي تغير الأوضاع في العالم تغيراً مدهشاً وفي سعادة البشرية بعد الشقاء الطويل وصلاح المجتمع البشري بعد الفساد الشامل .

ولا أمل للأمم الضعيفة إلا في هذا المنهج ، ولا مستقبل للأمم      – التي تؤمن بالمبادئ وتحتضن الدعوات – إلا في هذا المنهج .

ولنفهم هذا المنهج وقوته وفضله ونتائجه الباهرة للعقول نرجع قليلاً إلى الماضي ، ونستوحي ” الصحف الصادقة ” .

يولد موسى عليه السلام في مصر في بيئة قاتمة خانقة قد انطبقت على بني إسرائيل كل الانطباق ، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب ، حاضر شقي ومستقبل مظلم ، قلة عدد ، وفقر وسائل ، وذلة نفوس ، عدو قاهر ، وسخرة ظالمة ، لا قوة تدافع ولا دولة تحمي ، أمة مصيرها معلوم محتوم ، قد خلقت للشقاء والفناء .

ويولد موسى عليه السلام وولادته وحياته كلها تحدٍ لفلسفة الأسباب ومنطق الأشياء ، أراد فرعون أن لا يولد فولد ، وأراد أن لا يعيش فعاش ، يعيش في صندوق خشبي مسدود ، وفي ماء النيل الفائض ، وينشأ في حضانة العدو ورعاية القاتل ، ويجد به الطلب القوي الساهر ، فيفلت وينجو ويأوي إلى ظل شجرة كئيباً غريباً ، فيجد الضيافة الكريمة والزواج الحبيب ويرجع بأهله فيلفه الليل المظلم والطريق الموحش وتتمخض زوجه فيطلب لها ناراً تصطلي بها فيجد نوراً يسعد به بنو إسرائيل ويهتدب به العالم ، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة فيجد النجدة والمدد للإنسانية كلها ويكرم بالنبوة والرسالة .

ويدخل على فرعون في أبهته وسلطانه ، وفي ملأه وأعوانه ، وهو المطلوب بالأمس قد تحققت عليه الجناية وتوجهت إليه الدعوى ، وفي لسانه حبسة ، وفي موقفه ضعف ، فيقهر فرعون وملأه بدعوته وإيمانه وحجته وبيانه ، ويلجأ فرعون إلى سحرة مصر ليقهر بفنهم معجزة موسى عليه السلام التي ظنها فناً وسحراً ، فإذا بالسحرة خاضعون خاشعون يقولون : ” آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ” .

ويؤمر بالخروج ببني إسرائيل والإسراء في الليل من أرض الظلم إلى أرض النجاة ويتبعه فرعون بجنوده ، ويصبح موسى عليه السلام والبحر أمامه والعدو من ورائه ، ويخوض البحر فينفلق ويكون كل فرق كالطود العظيم ، ويعبر موسى عليه السلام وقومه ويتبعهم فرعون بجنوده فيلتهمهم البحر الهائج .

وهكذا يهلك فرعون وقومه الأقوياء الأغنياء ، ويملك بنو إسرائيل الضعفاء الفقراء : ” وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ” [2] .

ما هي القوة التي قهر بها موسى عليه السلام أعظم قوة في عصره ومصره ، وما سرُّ انتصار بني إسرائيل على أعدائهم ، وما سلاحهم الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر وأخضعوا به المحيط الحانق الثائر ؟

اقرأ قصة موسى – في القرآن – من جديد تر أن السلاح الذي واجه به موسى فرعون وقومه وانتصر به بنو إسرائيل وبناء الإمامة والزعامة في مصر وحولها هو ” الإيمان ” و ” الطاعة ” و ” الدعوة إلى الله ” ويتجلى هذا الإيمان وهذه الطاعة والدعوة في ثنايا القصة ومطاويها ، وقد تجلى هذا الإيمان النبوي في دعوة فرعون وقومه ، وبه تغلب موسى على حجاج فرعون ودهائه ، هو يريد أن يشغله عن موضوعه ويثير عليه الملأ وهو ثابت على دعوته ، ثابت في إيمانه لا يتزعزع ولا يتزلزل ، ولا يتحول ولا يتغير ، ” قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ . قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ . قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ . قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ” [3] .

ويسأله فرعون عن الأجيال التي مضت ، وهو موضوع شائك وسؤال محرج ، ولكن موسى عليه السلام يتغلب على دقة الموقف بإيمانه الراسخ وحكمته النبوية فيقول : ” عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى ” [4] ، ويفيض في الحديث عن الإله الواحد – الذي يفر منه فرعون – فيقول : ” ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ ” [5] .

ويتجلى هذا الإيمان في أبرز مظاهره لما رأى موسى أمامه البحر المائج ومن ورائه العدو الهائج فلا متقدم ولا متأخر وهو وقومه بين طبقتي الرحى ، ويناديه بنو إسرائيل في جزع وفي فزع : ” قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا   لَمُدْرَكُونَ ” [6] ، ولكنه ثابت الجأش قوي الإيمان يعرف أن الله ناصر عبده ومنجز وعده ، يقول في صراحة وثقة : ” كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ ” [7] .

ويعيش بنو إسرائيل في مصر حياة ذل وشقاء وبؤس وفقر ، يعانون أفظع أنواع الظلم والاضطهاد وأقسى أساليب الحكم والاستبداد ، فيؤمرون بالإنابة إلى الله وتقوية الإيمان وتحسين الصلة بالله ليستحقوا نصره ويوجدوا في أنفسهم صلاحية الوراثة والخلافة في الأرض ” وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ” [8] .

ولا طاعة أعظم من طاعة موسى ( عليه السلام ) وانقياده واستسلامه للأمر الإلهي ، – بالتوجه إلى أعظم ملوك عصره – وهو الثائر الموتور شديد البطش ، عظيم السلطان فيقال : ” ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ     طَغَىٰ ” [9] ، ويتوجه إلى بلاط جبار يدعي الربوبية فيدعوه إلى الله الواحد القهار ، ويستمر في دعوته وجهاده وفي وعظه وإرشاده حتى يفتح الله بينه وبين قومه بالحق وهو خير الفاتحين .

لقد كان الإيمان والطاعة والدعوة إلى الله القوة التي واجه بها موسى ” مشاكل ” عصره وقهر بها أعظم إمبراطورية على وجه الأرض ، أرقاها مدنية وأوسعها مملكةً وأغناها أسباباً وأعظمها جبروتاً .

لو كان موسى – كزعيم لبني إسرائيل – يفكر تفكير الزعماء السياسيين ويستعرض ” الإمكانيات ” والوسائل التي يملكها قومه ، ويزن كل شيئ في ميزان الواقع والحكمة العملية ، ولو نظر – وهو الذي نشأ في البلاط الملكي – إلى العدد والعدة والعزة والمنعة والجنود والبنود والثروة والذخائر التي كان يملكها فرعون وقارون في ذلك بين قومه وقوم فرعون ، لما جاز له – في شريعة العقل – أن يواجه فرعون بما   يسوءه ، ولتحتم عليه أن يقنع بحظه وحظ قومه ، ويرضى بالوضع   السائد ، فلا إيمان ولا صلاح ، ولا عدل ولا أخلاق ، ولا تقوى ، ولا إنسانية .

ولكنه نبي يرشده الوحي ، ولكنه مؤمن يؤمن بقوة الله ويؤمن بنصر الله ، ولكنه داعية يفكر تفكير الدعاة ، وإن هذا المنهج من التفكير والعمل هو الذي غيّر مجرى التاريخ وأتى بالمعجزات وأدهش العقول ، وحيّر الألباب .

ولو كان الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يفكر تفكير الزعماء ويستعرض الإمكانيات والوسائل التي كان يملكها قريش ، ولو أنه نظر إلى الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين توزعتا العالم المتمدن المعمور : الإمبراطورية الرومية ، والإمبراطورية الفارسية ، وما تتمتعان به من حول وطول ، وقد عرف قوتهما وسعة مملكتهما        – وهو الفقيه الواعي – لما جاز له – في شريعة العقل – أن يتوجه بدعوته إلى الإنسانية جميعاً ، ويكتب إلى سيدي العالم المعاصر ورئيسي الإمبراطوريتين الغربية والشرقية يدعوهما إلى الإسلام ، ولبقي الوضع الذي كان يسود من قرون ، فمتى تملك هذه الحفنة البشرية التي آمنت به القوة التي تضارع قوة الإمبراطوريتين بل تفوقهما حتى تهزمها   وتدحرها ؟ وإلى متى كان يجب عليه أن ينتظر ؟ وماذا كان مصير العالم ومصير الإنسانية لو اتجه هذا الاتجاه وفكر هذا التفكير ؟ لقد شقيت الإنسانية إذن شقاءاً طويلاً ، وتأخر أو توقف طلوع الصبح الصادق ، ولكان للإنسانية تاريخ غير هذا التاريخ .

ولكنه صلى الله عليه وسلم نبي يؤمر فيعمل ويتلقى التوجيه والإرشاد من السماء فينفذ ، ولكنه مؤمن يؤمن بقوة الله ويؤمن بنصره ، ويؤمن بأن الضعيف مع نصره قوي ، والقوي بخذلانه ضعيف ، ويؤمن بقوله تعالى : ” إِنْ يَنْصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا ٱلَّذِى يَنْصُرُكُمْ مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ” [10] ، ويؤمن بقوله : ” كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ” [11] ، ويؤمن بأن الله قد تكفل بنصر من ينصر دينه وينهض لإعلاء كلمته فقال ” يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ” [12] ، وقال : ” وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ . وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ ” [13] ، ويؤمن بأن الله قد وعد بالانتصار والغلبة والعلو والسيادة لعباده الذين قد تحققت فيهم صفة الإيمان وتجلت فيهم حقيقته فقال : ” وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ” [14] ، ولم يعد بشيئ من ذلك – من النصر والفتح والظفر والغلبة والعلو والسيادة – على الأهواء والنزعات ، والطموح والكبرياء وحب المجد – الفردي أو القومي – ، وشرف الدماء والأنساب والبلاد ، والعصبيات والقوميات ، فلم يتقدم بشيئ من ذلك إلى العالم ، ولم يطلب به النصر مع أنه – صلى الله عليه وسلم – من أشرف الأمم وأفضل البيوتات وأقدس البلاد ، إنما تقدم بدعوة دينية ، ومنهج خاص للحياة لا غنى للأمم وطوائف البشر عنه على اختلاف أوطانها وألوانها ولغاتها ، فخضعت له هذه الأمم وهذه الطوائف من البشر ، ولم تعقها عن ذلك عصبية أو قومية ، لأنه لم يكن من دعاة عصبية أو جاهلية ، وإنما كان داعي دين عام للإنسانية ، وداعي عقيدة ومبدأ ومنهج فاضل للحياة ، ونصره الله على قلة وضعف وفقر ، ونصر كل من قام بهذه الدعوة الدينية وبهذا المنهج الخاص للحياة وتكفل بنصرهم إلى آخر الدهر فقال : ” أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ” [15] .

إنني لست ممن يدعو إلى رفض الأسباب والتوكل السلبي ، ولست ممن يعيش في عالم الخيال والأحلام ، ولست ممن ينكر الحاجة إلى الاستعداد وممن لم يقرأ قوله تعالى : ” وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ” ، وقد لمت العالم الإسلامي ومن تزعمه من الشعوب والدول لوماً شديداً في كتابي ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” على التقصير في الاستعداد الحربي والصناعي والتخلف عن أوربا في ذلك واعتبرت ذلك سبباً من أسباب شقاء الإنسانية واتجاه العالم من الرشاد إلى الضلال ومن البناء والازدهار إلى الهدم والدمار .

ولكني أعارض هذا التفكير الذي تسلط على عقلية العالم الإسلامي في العهد الأخير ، وهو النظر إلى الأمم الإسلامية – في مختلف أنحاء العالم – ككتل بشرية شأنها شأن القطعان البشرية الأخرى التي لا رسالة لها في العالم ولا دعوة لها للأمم ، توزن في ميزان الإمكانيات والوسائل والاستعداد المادي ، وتقوم بما تملكه من ثروة وذخائر ، والتناسي أو الإعراض عن قوتها الكبرى ، الإيمان والطاعة والدعوة إلى الله .

إننا يا قوم فقراء ضعفاء متخلفون في العلم والصناعة وفي الاقتصاد والسياسة ، المسافة بيننا وبين الأمم الأوربية مسافة قرون وعهود ، فليكن ذلك موضع اهتمام الزعماء والقادة ولينل ذلك كل عناية ورعاية .

ولكننا في وقت واحد القوة الكبرى في العالم فعندنا دين هو حاجة البشرية كلها ، وعندنا دعوة تنقذ العالم من نهايته الأليمة التي تنتظره وتدنو إليه ، وعندنا الإيمان الذي يخلق الأمانة والشعور بالمسئولية في النفوس ويخلق الدوافع القوية إلى عمل الخير وخدمة الإنسانية ، وقد حرمتها الأمم الزعيمة للعالم بعد ما ملكت كل الأسباب والوسائل لعمل الخير وخدمة الإنسانية فأصبحت هذه الوسائل ضائعة بل متجهة إلى القضاء على المدنية والإنسانية ، وحاجة أوربا في اقتباس هذا الإيمان منا أشد وأعظم من حاجتنا إلى الاقتباس من صنائعها وعلومها ، لأن هذا الإيمان هو الأساس وهو الموجِّه وهو الضابط ؟ وعندنا شريعة تحل جميع المشاكل والأزمات التي يواجهها المجتمع البشري في القرن العشرين ، وعندنا – أولاً وآخراً – نبي أرسل رحمةً للعالمين ” يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ    مُّسْتَقِيمٍ ” .

ألا فلنتجه بهذه الدعوة إلى أوربا الحائرة التائهة بإخلاص ونزاهة وتوجع وشفقة ، وبقوة وثقة وإيمان ، ولننظر إلى أنفسنا كدعاة   ومنقذين ، مبشرين منذرين ، ونستخدم هذه القوة الجبارة في تغيير مصيرنا ومصير العالم ولنحتل بفضلها مكان الزعامة والقيادة في ركب الإنسانية ومصاف الأمم ، بعد ما عشنا زمناً طويلاً في مؤخر الركب وفي صف التلاميذ والحاشية ، ولنتجه بهذه الدعوة المقدسة المنصورة التي إما تقبل فترفع وتؤمن ، وإما ترفض فتهلك وتقهر ، بهذه الدعوة التي أوجب الله على نفسه نصرها ونصر رجالها .

ولنتجه بهذه الدعوة إلى مجالات مهجورة وكنوز مطمورة في آسيا وفي أفريقية ، إلى الشعوب التي ملكت الوسائل والعلم والصناعة ، والبلاد الواسعة والعقول الخصبة والسواعد القوية ، وجهلت الدين والغايات الصالحة والمبادئ الفاضلة ، وهي مستعدة لقبول هذه الدعوة ، وإذا قبلت هذه الدعوة وفقهتها وأخلصت لها تغير مجرى التاريخ من جديد كما تغير في العهد الأول بإسلام الفرس والترك والديلم ، وفي العهد الأوسط بإسلام التتار والمغول .

ألا إننا في حاجة إلى ثورة ، إلى ثورة في التفكير والمنهج .

[1] كان ذلك الجملة المأثورة الشائعة في المجتمع الإسلامي في القرن السابع عند غزو التتار للعالم الإسلامي وإخضاعه من أقصاه إلى أقصاه .

[2] سورة الأعراف : 137 .

[3] سورة الشعراء : 23 – 28 .

[4] سورة طه : 52 .

[5] سورة طه : 53 .

[6] سورة الشعراء : 61 .

[7] سورة الشعراء : 62 .

[8] سورة يونس : 87 .

[9] سورة النازعات : 17 .

[10] سورة آل عمران : 160 .

[11] سورة البقرة : 249 .

[12] سورة محمد : 7 .

[13] سورة الصافات : 171 – 173 .

[14] سورة آل عمران : 139 .

[15] سورة المجادلة : 22 .