الصراع بين الحق والباطل في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة ( الحلقة الثانية )
سبتمبر 12, 2022سنة الله في الكون
أكتوبر 17, 2022التوجيه الإسلامي :
تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية
بقلم : الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغت شقاوة الإنسانية غايةً ما وراءها غاية ، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون ، لا يتعرضون لخطر ، ولا لخسارة ، ولا محنة ، لهم النعيم الحاضر ، والغد المضمون ، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ، ومستقبلهم في سبيل خدمة الإنسانية ، وأداء رسالتهم المقدسة ، ويعرضون نفوسهم ، وأمـوالـهـم ، ومعـايشـهـم ، وحظـوظـهـم مـن الـدنيـا للخطر والضياع ، وتجاراتهم ، وحِرفهم ، ومكاسبهم للتلف والكساد ، ويخيبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم ، حتى يقولوا للواحد منهم ، كما قال قوم صالح : ( قَالُواْ يا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا ) [ هود : 62 ] .
إنه لا بقاء للإنسانية ، ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين ، وبشقاء هذه الحفنة من البشر في الدنيا – كما يعتقد كثير من معاصريهم – تنعم الإنسانية ، وتسعد الأمم ، ويتحول تيار العالم من الشر إلى الخير ، ومن السعادة أن يشقى أفراد ، وتنعم أمم ، وتضيع أموال ، وتكسد تجارات لبعض الأفراد ، وتنمو نفوس وأرواح لا يحصيها إلا الله من عذاب الله ، ومن نار جهنم .
علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم ، والفرس ، والأمم المتحضرة المتصرفة بزمام العالم المتمدن لا تستطيع – بحكم حياتنا المصطنعة المترفة – أن تتعرض للخطر ، وتتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الدعوة والجهاد ، وخدمة الإنسانية البائسة ، ولا تستطيع أن تضحي بشيئ من دقائق مدنيتها في الملبس ، والمأكل ، وأن تتنزل عن حظوظها ، ولذاتها ، وزخارفها فضلاً عن حاجاتها ، وأنه لا يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتهم ، والحد من طموحهم ، والزهد في فضول الحياة ، و مطامع الدنيا ، والقناعة بالكفاف ، فاختار لرسالة الإسلام وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أمةً تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد ، وتقوى على التضحية والإيثار ، تلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ، ولم ينخرها البذخ والترف ، وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبرّ الناس قلوباً ، وأعمقهم علماً ، وأقلهم تكلفاً .
قام الرسول بهذه الدعوة العظيمة ، فأدى حقوقها : من الجهاد في سبيلها ، وإيثارها على كل ما يقف في وجهها ، والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا ، فكان في ذلك أسوةً ، وإماماً للعالم كله . وفدُ قريش عرض عليه كل ما يُغري الشباب ، ويرضي الطامحين من رئاسةٍ ، وشرفٍ ، ومالٍ عظيمٍ ، وزواجٍ كريمٍ ، فرفض كل ذلك في صرامةٍ وصراحةٍ ، وكلمه عمه ، وحاول أن يحدَّ من نشاطه في سبيل الدعوة ، فقال : ” يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ما تركته ! ” ، ثم كان أسوةً للناس في عصره ، وبعد عصره ، بقيامه بأكبر قسط الجهاد والإيثار ، والزهد ، وشظف العيش ، وأقل قسط من العيش وأسباب الحياة ، فقد أوصد على نفسه الأبواب ، وسدَّ في وجهه الطرق ، وتعدى ذلك إلى أسرته ، وأهل بيته ، والمتصلين به ، فكان أكثر الناس اتصالاً به وأقربهم إليه أقلهم حظاً في الحياة ، وأعظمهم نصيباً في الجهاد والإيثار ، فإذا أراد أن يحرِّم شيئاً بدأ ذلك بعشيرته وبيته ، وإذا سنَّ حقاً ، أو فتح باباً لمنفعة قدَّم الآخرين ، وربما حرَّمه على عشيرته الأقربين . أراد أن يحرِّم الربا ، فبدأ بربا عمه العباس بن عبد المطلب ، فوضعه كله ، وأراد أن يهدر دماء الجاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأبطله ، وسنَّ الزكاة ، وهي منفعة مالية عظيمة مستمرة إلى يوم القيامة ، فحرَّمها على عشيرته بني هاشم إلى آخر الأبد ، وكلَّمه علي بن أبي طالب يوم الفتح أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية ، فأبى وطلب عثمان بن طلحة ، وناوله مفتاح الكعبة ، وقال : هاك مفتاحك يا عثمان ! اليوم يوم برّ ووفاء ، وقال : خذوها خالدةً تالدةً فيكم ، لا ينزعها منكم إلا ظالم . وحمل أزواجه على الزهد ، والقناعة ، وشظف العيش ، وخيَّرهن بين عشرته مع الفقر ، وضيق العيش ، ومفارقته مع السعة ، والرخاء ، وتلا عليهن قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل ِلأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) [ الأحزاب : 28 – 29 ] فاخترن الله والرسول ، وتأتيه فاطمة رضي الله عنها تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى ، وبلغها أنه جاءه رقيق ، فيوصيها بالتسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، ويقول لها : ” إنه خير لها من خادم . . . ” ، وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والمتصلين به ، فالأقرب ، ثم الأقرب .
وآمن به رجال من قريش في مكة ، فاضطربت حياتهم الاقتصادية اضطراباً عظيماً ، وكسدت تجاراتهم ، وحرم بعضهم رأس ماله الذي جمعه في حياته ، وحرم بعضهم أسباب الترف ، والرخاء ، وأناقة اللباس التي كان فيها مضرب المثل ، وكسدت تجارة بعضهم لاشتغاله بالدعوة ، وانصراف الزبائن عنه ، وحرم بعضهم نصيبه في ثروة أبيه .
ثم لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وتبعه الأنصار ، تأثرت بذلك بساتينهم ، ومزارعهم ، فلما أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ، ويصلحوها ؛ لم يسمح لهم بذلك ، وأنذرهم الله به ، فقال : ( وَأَنْفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ) [ البقرة : 195 ] .
وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم ، فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد ، وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم ، وقد خاطبهم الله بقوله : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ) [ التوبة : 24 ] ، وقال : ( مَا كَانَ لِـأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ) [ التوبة : 120 ] ، لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار وما يتحملون من خسائر ، ونكبات ، فقال : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ ) [ البقرة : 155 ] ، وقال : ( أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) [ العنكبوت : 2 ] وكان إحجام العرب عن هذه المكرمة ، وترددهم في ذلك امتداداً لشقاء الإنسانية ، واستمراراً للأوضاع السيئة في العالم ، فقال : ( إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [ الأنفال : 73 ] .
وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق : إما أن يتقدم العرب ، ويعرضوا نفوسهم ، وأموالهم ، وأولادهم ، وكل ما يعز عليهم للخطر ، ويزهدوا في مطامع الدنيا ، ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم ، فيسعد العالم ، وتستقيم البشرية ، وتقوم سوق الجنة ، وتروج بضاعة الإيمان ، وإما أن يؤثروا شهواتهم ، ومطامعهم ، وحظوظهم الفردية على سعادة البشرية وصلاح العالم ، فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء إلى ما شاء الله ، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً ، وتشجع العرب – بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان ، والإيثار ، وحبَّب إليهم الدار الآخرة ، وثوابها – فقدَّموا أنفسهم فداءً للإنسانية كلها ، وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله ، وسعادة النوع الإنساني ، وجاهدوا بأموالهم ، وأنفسهم في سبيل الله ، وضحّوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع ، وشهوات ، وآمال ، وأحلام ، وأخلصوا لله العمل والجهاد ، فآتاهم الله ثواب الدنيا ، وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين .
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووقف العالم على مفترق الطرق مرةً ثانيةً : إما أن يتقدم العرب – وهم أمة الرسول وعشيرته – إلى الميدان ، ويغامروا بنفوسهم ، وإمكانياتهم ، ومطامحهم ، ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء ، وثراء ، ودنيا واسعة ، وفرص متاحة للعيش ، وأسباب ميسورة ، فينهض العالم من عثاره ، وتتبدل الأرض غير الأرض ، وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع ، وطموح ، وتنافس في الوظائف على أسباب الترف والتنعم ، فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون .
إن العالم لا يسعد وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم ، تدور حياتهم حول المادة والمعدة ، لا يفكرون في غيرهما ، ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما ، ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحّوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً ، وأوسع منهم فكراً ، بل كان الشاعر الجاهلي ” امرؤ القيس ” أعلى منهم همة ؛ إذ قال :
ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ولكنّمـا أسعى لــمجـد مـؤثـل وقـــد يـدرك الـمجد المؤثل أمثالي
إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ، ومتاعب يقدمها الشباب المسلم . إنّ الأرض لفي حاجة إلى سماد ، وسماد أرض البشرية التي تصلح به ، وتنبت زرع الإسلام الكريم ، هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام ، وبسط الأمن والسلام على العالم ، وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة . إنّه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً .