تدبير الوقت وأثره في الإنتاج العلمي عند الإمام السيوطي

الرد على الاعتراضات على بعض الآيات القرآنية ( الحلقة الأولى )
أكتوبر 20, 2020
أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ” ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020
الرد على الاعتراضات على بعض الآيات القرآنية ( الحلقة الأولى )
أكتوبر 20, 2020
أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ” ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020

 

تدبير الوقت وأثره في الإنتاج العلمي عند الإمام السيوطي

د . سعيد البعزاوي *

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

أمّا بعد ! فإن هذه المقالة جهد متواضع لإبراز أهمية الوقت في حياة المسلم بصفة عامة ، وحياة العلماء وطلاب العلم بصفة خاصة ، ونروم من خلالها التذكير بقيمة الوقت وحسنِ تدبيره في حياتنا ، والوقوف على أنموذج من نماذج العلماء الذين سخروا حياتهم للمعرفة ، وتفرغوا للتعلم والتعليم والتأليف ، واستطاعوا بحسن تدبيرهم للوقت إنتاج ما لا يمكن أن ينتجه فريق عمل في عصرنا الحاضر كمّاً وكيفاً ونوعاً .

وقد اقتضت طبيعة موضوع هذه المداخلة أن تكون في ثلاثة محاور وخاتمة .

المحور الأول خصّصناه للحديث عن قيمة الوقت وأهميّة تدبيره انطلاقاً من تعاليم ديننا الحنيف .

المحور الثاني نقدّم فيه نبذةً موجزةً من حياة الإمام جلال الدين السيوطي .

أمّا المحور الثالث وهو لبّ موضوع هذه المداخلة فسنقف فيه على جملة من التدابير التي انتهجها الإمام السيوطي لاستثمار وقت حياته على الوجه الأمثل .

فنقول وبالله التوفيق :

المحور الأول : قيمة الوقت وأهمّية تدبيره :

إن نعم الله تعالى على بني آدم لا تعد ولا تحصى ، ويأتي على رأس هذه النعم وأهمها نعمة الوقت ، وتتجلى عظمة هذه النعمة في كون الوقت مورداً من موارد الإنتاج التي حبانا الله بها ، سواء أكان هذا الإنتاج ماديّاً أم معنوياً ، ذلك أن الوقت هو الوعاء الذي يشتغل داخله الإنسان ، وبذلك فالوقت يساوي حياة المرء وعمره ، والإنسان لا يشتغل إلا داخل الزمن ، والعامل في أي مجال يزيد إنتاجه بالزمن ، كما قد يأخذ أجره وفقاً للزمن ، والأرض تنتج بالعمل ومرور الزمن ، والمال المؤجر يمنحك منفعته في كل وحدة زمنية ، ويزداد الأجر بزيادة الزمن ، وكذلك المال المقدم قراضاً لا يعطي ربحاً إلا بالعمل والمال ومرور الزمن ، كما يلاحظ أن عامل الزمن مرتبط دائماً بعنصر أو عنصرين أو مجموع عناصر الإنتاج ، وما تقدّمُ الأمم وازدهار حضاراتها إلا ثمرةً من ثمرات الاستغلال الأمثل للوقت وحسن تدبيره ، حتى إن الفرد الذي يستثمر زمنه يكون أكثر إنتاجاً من الفرد الذي يضيعه أو يفرط فيه .

وتبرز عظمة نعمة الوقت في أن الله عز وجل ذكرها في عدد من آي الذكر الحكيم ؛ منها ما ذكره في سياق الامتنان بالنعم التي أنعم بها سبحانه على الإنسان ، وفي معرض بيان أهمية هذه النعم ، فقال جلّ من قائل : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ  وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) [1] . فواضح من هذه الآيات الكريمة أن من جملة ما امتنّ الله تعالى به على عباده نعمةَ الوقت المشار إليها بتسخير الشمس والقمر والليل والنهار ؛ وهي آيات كونية لعد الوقت وحساب الزمان . وفي السياق نفسه تأتي الآية الكريمة : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) [2] ، لتؤكد على أن القمر قبل اكتماله يكون هلالاً ثم بدرا للدلالة على سيرورة الزمن .

وفي سياق المعاتبة الإلهية لمن لم يستفد من نعمة الزمن ، الذي هو عمره فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة ، قوله تعالى : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ) [3] .

والذي يُظهر عظمة الوقت وجلال الزمن أن الله تعالى أقسم به في فواتح سور عديدة ، إشارةً إلى أن ما بعد القسم أمر خطير ، يسترعي الانتباه والتدبر في أحوال النفس وأحوال الكون . وعلى سبيل المثال لا الحصر سورة العصر التي أقسم الله تعالى في مستهلها بالعصر الذي هو الدهر كما فسره حبر الأمة وترجمان القرآن ؛ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [4] .

وأقسم الله تعالى بالعصر – الذي هو الزمن – لأن الدهر كما قال الإمام فخر الدين الرازي : ” مشتمل على الأعاجيب ، لأنه يحصل فيه السراء والضراء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر . . . وأنه تعالى ذكر العصر الذي به ينتقص عمرك ، فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك النقصان عن الخسران ، ولذلك قال : لفي خسر ، ومنه قول القائل :

إنّا لنفرح بالأيام نقطعها     وكل يوم قضى نقص من الأجل

فكأن المعنى ؛ والعصر العجيب أمره ، حيث يفرح الإنسان  بمضيه ، لظنه أنه وجد الربح ، مع أنه هدمٌ لعمره ، وإنه لفي خسر ” [5] .

ولقد شحذت السنة النبوية الهمم ، وأيقظت الضمائر لإدراك قيمة الوقت ، واستشعار أهميته في حياة الناس عامةً ، وفي حياة المسلم ووجوده الدنيوي بوجه خاص ، فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ ) [6] .

فليس المقصود من هذا الجامع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم أن الصحة هي سلامة البدن ، وأنّ الفراغ هو هناء البال ، ولكنّ المقصود هو الحيّز الزمني الذي يجتنيه الإنسان حينما يكون سليماً معافى في بدنه ونفسه وعقله ، فيستغل هذا الوقت فيما ينفعه في دينه ودنياه ومعاشه قبل فواتهما ، وهذا ما أكده عليه الصلاة والسلام بقوله وهو يعظ رجلاً : ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ      مَوْتِكَ ) [7] .

وتتأكد أهمية الوقت وعظم خطورته في كون التشريع الإسلامي الذي أناط به كثيراً من الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات ، فالصلاة والزكاة والصيام والحج كلها عبادات مرتبطة بالوقت ، ويقسم الأصوليون هذا الوقت إلى وقت موسع ، وهو ما يزيد على مقدار ما يسع تلك العبادة ، وإلى وقت مضيق وهو ما كان بمقدار العبادة ، كما أن المداينات والإجارات والبيوع الآجلة والمواعيد ومدة الحمل والرضاع وعدة المتوفى عنها . . . هي كلها قضايا شرعية تنضبط بالوقت .

كما تبرز أهمية عامل الزمن في الاقتصاد الإسلامي من حيث إن له في الشريعة السمحة قيمةً ماليةً في المبادلات ، إذ نص أغلب الفقهاء على أن للزمن حصةً من الثمن  ، بمعنى أن له حصةً عادلةً من الثمن .

وإذ تبيّنت لنا في هذه الجولة السريعة أهميّة الوقت وخطورة إضاعته في الإسلام ، فإننا نريد أن نؤكد على أن علماءنا الأجلاء قد فطنوا لهذه الأهمية ، ولذلك عملوا على حسن تدبيره واستثماره بما يرجع على الإنسان بالخير والصلاح والفلاح ، مما جعل ذكرهم في الصالحات خالداً ، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ويدل على ذلك ما أنتجوه من أعمال جليلة على المستوى العلمي والفكري بالموازاة مع مدة عمرهم وحياتهم .

وإذا وقع اختيارنا في هذه المداخلة على خاتمة الحفاظ الإمام جلال الدين السيوطي ، فإن ذلك لغزارة إنتاجه وموسوعيته ومشاركته في مختلف العلوم ، وإلا فإن العلماء الذين تركوا بصمتهم في المجال العلمي والفكري والإبداعي بالنظر إلى قصر عمرهم لا يحصون عدداً .

فمن هو جلال الدين السيوطي ؟ وكيف كانت مسيرته في الطلب والتلقي ؟ وكيف استطاع أن يؤلف ذلكم الكمّ الهائل من المؤلفات والرسائل التي تربو عن سبع مأة مؤلف ؟ ذلك ما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى فيما يأتي .

المحور الثاني : نبذة موجزة من حياة الإمام الجلال السيوطي :

أولاً : اسمه ونسبه ونشأته :

هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري الأسيوطي الشافعي ، جلال الدين ، العلامة ، الإمام ، المحقق ، المدقق ، المسند ، الحافظ شيخ الإسلام . . .صاحب المؤلفات الجامعة ، والمصنفات النافعة .

ولد عام ثمان مأة وتسعة وأربعين للهجرة ، بعد مغرب ليلة الأحد مستهل شهر رجب المعظم ، وكان مسقط رأسه ببلدة أسيوط مسكن أجداده ومأوى أسلافه .

نشأ في القاهرة يتيماً ، مات والده ، وعمره خمس سنوات وسبعة أشهر ، قد وصل في القراءة إذ ذاك إلى سورة التحريم ، وأسند وصايته إلى جماعة منهم العلامة كمال الدين بن الهمام . والظاهر أن الجلال السيوطي نشأ في بيئة علمية وجّهته منذ نعومة أظفاره إلى حفظ القرآن الكريم ، وجملة من المتون العلمية ، حيث ختم القرآن العظيم ، وله من العمر دون ثمان سنين . ثم حفظ عمدة الأحكام ، ومنهاج النووي ، وألفية ابن مالك ، ومنهاج البيضاوي وغيرها [8] .

ثانياً : رحلاته في طلب العلم :

بعدما استكمل الإمام الجلال السيوطي حفظ جملة من متون العلوم الشرعية والعربية ، شدّ الرحال إلى العواصم العلمية المعروفة في ذلك الزمان ، لمجالسة أعيان العلماء وأقطاب العلم والمعرفة في مختلف العلوم والفنون ،  فضرب في الأرض شرقاً وغرباً ليشبع نهمه العلمي ، وعن الوجهات التي أمّها والبلدان التي رحل إليها يحكي رحمه الله في كتابه حسن المحاضرة : ” وسافرت بحمد الله إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور ” [9] .

ومما يدل على مضاء عزيمته وعلو همّته أنه لمّا حجّ بيت الله  الحرام ؛ شرب من ماء زمزم لإدراك أسنى المراتب في العلم ، على غرار العلماء الذين كان كل واحد منهم رأساً في علمه وقمّةً في فنّه ، فدعا الله تعالى أن يصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البُلقينيّ ، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر [10] .

ثالثاً : مكانته العلمية :

كانت المكانة العلمية للإمام السيوطي محل إكبار وثناء لكل من ترجم له ، وتفادياً للإطالة نكتفي بما نسبه ابن العماد إلى العلامة الداوودي تلميذ الإمام الجلال السيوطي من أنه استقصى مؤلفاته الحافلة الكثيرة الكاملة الجامعة النافعة المتقنة المحررة المعتمدة المعتبرة ، فنافت عدتها على خمس مأة مؤلف ، وشهرتها تغني عن ذكرها ، وقد اشتهر أكثر مصنفاته في حياته في أقطار الأرض شرقاً وغرباً ، وكان آيةً كبرى في سرعة التأليف .

وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه ؛ رجالاً وغريباً ومتناً وسنداً واستنباطاً للأحكام منه ، وأخبر عن نفسه أنه يحفظ مأتي ألف حديث [11] .

ولقد أخبر السيوطي في حسن المحاضرة عن مبلغه من العلم فقال : ” ورزقت التبحر في سبعة علوم : التفسير ، والحديث ، والفقه ، والنحو ، والمعاني ، والبيان ، والبديع ؛ على طريقة العرب والبلغاء ” ويضيف قائلاً : ” والذي أعتقده أن الذي وصلتُ إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنُّقول التي اطلعت عليها فيها ، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي ، فضلاً عمّن دونهم ” [12] .

المحور الثالث : حسن تدبير الوقت عند الجلال السيوطي من خلال مناصبه وإنتاجاته :

أجمعت كتب التراجم على أن الجلال السيوطي كان صاحب ذاكرة قوية ممسكة ، وقدرة مثابرة على القراءة ، ميّالاً إلى العلم ، شغوفاً به ، ولا يجد راحته إلا معه وفيه ، وقد وصف الإمام جلال الدين حبَّه للعلم وصلته به فقال : ” وبعد فإني رجل حبب إلي العلم والنظر فيه دقيقه وجليله ، والغوص على دقائقه ، والتطلع إلى إدراك حقائقه ، والفحص عن أصوله ، وجبلت على ذلك ، فليس فيّ منبت شعرة إلا وهي ممحونة بذلك ” [13] . وهذه الصفات التي كان عليها الإمام السيوطي أهلته لأن يكون عالماً موسوعياً صاحب تصانيف كثيرة تفوق في الكثرة والتنوع تصانيف كل الموسوعيّين ، بيد أن هذه المؤهلات وحدها لم تكن لتنجب لنا عالماً بهذا المستوى لولا حسن استثماره للوقت ، وما غزارة مؤلفاته وكثرتها وتنوعها إلا شاهد على أن اشتغال السيوطي بالعلم والتأليف كان يغطي جل عمل يومه وليلته ، بل عمرَه كله .

ومن جملة ما يمكن اعتباره من حسن التدبير للوقت عند الإمام السيوطي جمعه بين عدد من المهام في آن واحد ، فكان يجمع بين التدريس والتأليف وإملاء الحديث والإفتاء ، وقد حكى عنه تلميذه الملازم له العلامة الداوودي بعض ما رأى منه فقال : ” عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاث كراريس تأليفاً وتحريراً ، وكان مع ذلك يملي الحديث ، ويجيب عن المتعارض منه بأجوبة حسنة ” [14] .

وكان رحمه الله أشدّ ما يكون حريصاً على استغلال الزمن لبلوغ الغاية في الإنتاج العلمي إلى درجة أنه أكمل تفسير الجلال المحلي في أربعين يوماً ليس إلا ، ولم يشتغل في كتاب لب اللباب في تحرير الأنساب إلا أياماً عشرة ، وفرغ من نظم ألفية المصطلح في خمسة أيام [15] . ولا غرو أن تربو مصنفاته على الست مأة [16] ، ذكر منها تلميذه الداوودي ما يفوق خمسَ مأة مؤلف [17] ، بل وبلغ عدد مؤلفاته حسب إحصاء العلامة أحمد الشرقاوي إقبال خمساً وعشرين وسبع مأة [18] ، ما بين المخطوط والمطبوع ، شرع في تأليفها الإمام في سن السابعة عشرة حتى وافته المنية في سن الحادية والستين ، فكأنه كان يؤلف في كل سنة ما معدله ستة عشر مؤلفاً وزيادةً ، ممّا يؤكد أن النشاط العلمي عند صاحبنا كان فوق المعتاد ، حيث وهب حياته للعلم ، وعمّر وقته بالإنتاج المعرفي النافع ، ولم تفتر عزيمته مدّة حياته ولم يكِلّ قلمه السيّال عن التأليف .

ولقد أهله تبحره في العلم ، وقدرته على التصنيف ، وحسن تدبيره للزمن ، لأن يكون مشاركاً في مختلف صنوف المعارف وأبواب العلوم التي عرفها عصره ، فبوّأه ذلك المكانة السنية والمرتبة العليّة في تاريخ صناعة التأليف العلمي الرصين ، من التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع والتاريخ وغيرها ، ولقد صدق فيما وصف به نفسه حين قال : ” ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصَنفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ، ومداركها ونقوضها وأجوبتها ، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها ، لقدرت على ذلك من فضل الله ، لا بحولي ولا بقوتي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ” [19] .

واستثماراً منه للوقت عمد الإمام السيوطي إلى التفرغ للتأليف في سنّ الأربعين ، وابتعد عن كل الشواغل والأغيار التي من شأنها أن تشوش على صفاء ذهنه ، وجودة قريحته ، بل حمله شغفه للعلم وحبه للتأليف أن يزهد في بعض المناصب التي قد تشغله عن العطاء العلمي النافع للأجيال اللاحقة ، ورد في الكواكب السائرة : ” ولما بلغ أربعين سنةً من عمره أخذ في التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى ، والاشتغال به صرفاً ، والإعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحداً منهم ، وشرع في تحرير مؤلفاته ، وترك الإفتاء والتدريس ، واعتذر عن ذلك في مؤلف ألفه في ذلك ، وسماه ” بالتنفيس ” وأقام في روضة المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات ” [20] .

وإنه لممّا أسهم في تدبير الوقت عند الإمام السيوطي ؛ حرصه على ألا يدع خاطراً يمرّ به دون أن يدوّنه أو ينبّه عليه أو يصنف فيه مصنّفاً ، بل إن كثيراً من الموضوعات التي يعتبرها غيره موضوعاً تافهاً ترك فيها آثاراً جليلةً ، والظاهر أن الجلال السيوطي قد أدرك جيّداً قيمة الوقت ، وحدّد أهمّ عوائق تدبيره ، قبل أن يرسم لنفسه خطّة يتغيّى من خلالها الوصول إلى مراميه بأقل تكلفة زمنية ممكنة ، فعقد العزم على أن يترك كل شاغل يشغله عن بلوغ مرامه فقال :

إني عزمت وما عزم بمنخرم ما لم يساعده تقدير من الباري

وكان من بين ما سطره في هذه الخِطّة ألا يصاحب إلا النافع الخيّر من الأصحاب ، الذين خبرهم لمدة ليست باليسيرة في السفر والحضر ، رجاء الإفادة منهم علماً وسمتاً وصلاحاً ، ورغبةً منه في المزيد من الحرص على اغتنام الأوقات قرر ألا يكثر من عدد الخلان ، فقال :

أن لا أصــــاحــــب إلا مــن خبرتهم  دهراً مـــقـيماً ، وأزماناً بأسفار

ولا أجــــالسَ إلا عالـــمـــــاً فـــطـنـاً  أو صالحاً أو صديقاً لا بإكثار

ولا أصاحب عامياً ، وإن شهدوا     بأنه صــــالـــح مــــعـــدوم أنـــظـار

ولشدة ضنّته بالزمن نأى بنفسه عن فضول الأعمال ، فقال رحمه الله :

ولست أحدث فعلاً غير مفترض   أو مستحب ، ولم يدخل بإنكار

خاتمة :

وبعد ، فإننا نستخلص من هذه الجولة السريعة مع حياة الإمام السيوطي مدى حسن تدبيره للوقت ، الذي أهّله لأن يكون في طليعة المؤلفين المكثرين ، الذين علموا علم اليقين أن الوقت كالسيف فلم يتركوا مجالاً لأن يقطعهم ، فقطعوه بحسن استثماره ، واستفادوا من كل ساعاته ودقائقه بل وثوانيه ، ولا أدلّ على ذلك من تراثهم الزاخر الذي هو عبرة للأجيال اللاحقة التي اختصرت الوقت هي أيضاً فوجدوا ضالتهم المنشودة في هذه المؤلفات ، وقصّروا المسافات .

وما أحوجنا في هذه الآونة أن نبادر بدراسة فاحصة لسير هؤلاء الأعلام ، عسانا نظفر بالمناهج التي سلكوها في حياتهم ، لتنظيم أوقاتهم وحسن تدبير فراغهم وشغلهم ، فنغتنم من ثمرات مجهوداتهم وننتفع بها ونترجمها عملياً وتعليمياً ، فتحصل الاستفادة وتعم الإفادة على المعلمين والمتعلمين .

ونأمل أن تصنف موسوعات تعرف بمثل هذه الشخصيات الفذة ، التي أسدت للإنسانية عامةً ، وللمسلمين بوجه خاص أعمالاً جليلةً عزّ نظيرها ، ولن يجود الزمان بمثلها إلا أن يشاء الله ، فنسأل الله تعالى أن يتغمّد بواسع رحمته الإمام السيوطي وكلّ علماء المسلمين ، ويوفّقنا لاغتنام أوقاتنا في الخيرات ،وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ، والحمد لله رب العالمين .

* جامعة محمّد الخامس ، أبوظبي .

[1] سورة إبراهيم ، الآية : 32 – 34 .

[2] سورة البقرة ، الآية : 189 .

[3] سورة فاطر ، الآية : 37 .

[4] القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر ، الجامع لأحكام القرآن ، والمبيّن لما تضمنّه من السنن وآي الفرقان ، تحقيق : الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ،   ج 22 ، ( مؤسسة الرسالة : ط 1 ، 1417هـ – 2006م ) ، 463 .

[5] الرازي ، محمد فخر الدين ، مفاتيح الغيب ، ج 32 ، ( دار الفكر ، ط 1 ، 1401هـ –1981م ) ، 84 – 85 .

[6] أخرجه البخاري في صحيحه ، كتب الرقاق ، باب ما جاء في الرقاق ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة ، رقم الحديث : 6412 ، والترمذي في سننه ، كتاب الزهد ، باب الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس ، رقم الحديث : 2304 . وابن ماجة في سننه ، كتاب الزهد ، باب الحكمة ، رقم الحديث : 4170 .

[7] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ، باب في الزهد وقصر الأمل، رقم الحديث : 9767 .

[8] الزركلي ، خير الدين ، الأعلام ، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، ج 3 ( بيروت : دار العلم للملايين ، ط 7 ، 1986 ) ، 301 . الغزّي ، نجم الدين محمد ، الكواكب السائرة بأعيان المأة العاشرة ، ج 1 ( بيروت : دار الكتب العلمية ، ط 1 ، 1418هـ – 1997م ) ، 227 . السخاوي ، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن ، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ، ج 4 ( بيروت : دار الجيل ، د ط ، د ت ) 65 .

[9] السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن ، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، ج 1 ( ط 1 ، 1387هـ – 1967م ، د مكان الطبع ) ، 338 .

[10] المصدر نفسه ، ج 1 ، 338 .

[11] ابن العماد ، شهاب الدين أبو الفلاح عبد الحي بن أحمد ، شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط ، ج 10 ( بيروت – دمشق : دار ابن كثير ، ط 1 ، 1414هـ – 1993م ) ، 76 .

[12] السيوطي ، جلال الدين ، حسن المحاضرة ، ج 1 ، 338 .

[13] السيوطي ، جلال الدين ، الحاوي للفتاوي ، في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون ، ضبطه وصححه ، عبد اللطيف حسن عبد الرحمن ، ج 2  ( دار الكتب العلمية ، د ط ، د ت ) ، 286 .

[14] الغزّي ، الكواكب السائرة ، ج 1 ، 227 – 228 .

[15] الشرقاوي إقبال ، أحمد ، مكتبة الجلال السيوطي ، ( الرباط : دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر ، 1397هـ – 1977م ) ، 14 .

[16] ابن إياس ، محمد بن أحمد ، بدائع الزهور في وقائع الدهور ، تحقيق : محمد مصطفى ، ج 4 ، ( مكة المكرمة ، مكتبة دار الباز ، 1404هـ – 1984م ) ، 83 .

[17] الغزّي ، الكواكب السائرة ، ج 1 ، 228 .

[18] الشرقاوي إقبال ، أحمد ، مكتبة الجلال السيوطي ، 1 .

[19] السيوطي ، حسن المحاضرة ، ج 1 ، 339 .

[20] الغزّي ، الكواكب السائرة ، ج 1 ، 29 .