تحديات المسلمين في مجتمع المهجر ومعالجتها من منظور إسلامي

أبدية الوحي الإلهي وراهنيته
مارس 15, 2022
القرآن الكريم ورسالته الخالدة من خلال أسمائه : دراسة انتقائية
مارس 15, 2022
أبدية الوحي الإلهي وراهنيته
مارس 15, 2022
القرآن الكريم ورسالته الخالدة من خلال أسمائه : دراسة انتقائية
مارس 15, 2022

الدعوة الإسلامية :

تحديات المسلمين في مجتمع المهجر

ومعالجتها من منظور إسلامي

بقلم : الأستاذ محمد عامر المباركفوري *

يهاجر المسلمون إلى بلدان كثيرة لأسباب عديدة ، بعضهم يدفع إلى الهجرة طلباً للأمان ، وهروباً من الحروب والنزاعات ، وبعضهم من أهل الاختصاص يهاجر من أجل حياة أفضل وبحثاً عن بيئة توفر لهم الإمكانيات التي تمكنهم من تنمية قدراتهم وكفاءاتهم .

وخلال وجودهم في مجتمع المهجر وهو مجتمع في الغالب غير مسلم يمارسون أنشطةً متعددةً تتشابه في بعضها ، وتختلف أحياناً في بعضها   الآخر ، لكن التحديات الكبيرة التي تواجههم تتصل بعقيدتهم وهويتهم وكذلك هوية أولادهم .

مواجهة التحدي الكبير لوجودهم كمسلمين – تحدي الحفاظ على ( العقيدة والهوية ) ، ولكي تبقي تلك العقيدة حيةً في نفوسهم ونفوس أبنائهم يتطلب بالقطع جهداً مضاعفاً والتزاماً صارماً ونشاطاً مستمراً .

إن التحدي الثقافي الأجنبي المعاصر في بلد المهجر الذي يهدف إلى تذويب الشخصية المسلمة وضياع معالمها لا يقل خطراً عن التحدي العسكري بما يحمله من الفتك والتدمير ، فلئن كان الخطر العسكري يهلك الأبدان والأجساد ، فإن الخطر الثقافي يفسد القلوب والأرواح ، والإنسان قبل أن يكون إنساناً ببدنه فهو إنسان بروحه فأي قيمة تبقى للبدن إذا فسدت الروح . ومن ثم يجب وضع مادة دراسية متجددة ومناسبة لجميع طلاب المراحل التعليمية المختلفة توضح التحدي الثقافي التي تعيشه الأمة وخطره المحدق بها وسبل حماية الأمة من آثاره الخطيرة .

وتصور الحياة لدى الإسلام كما بيّن أحد الحكماء : ” الأرض أرض الله ، والعباد عباد الله ، فاسكنوا أينما شئتم بشرط أن تعبدوا  الله ” . ومن أجل هذا كله ، يُنصح المسلمون في الغرب بالعمل من وجود مجتمعهم الصغير داخل المجتمع الأكبر ، وإلا فسوف يذوبون في هذا المجتمع الأكبر بالطريقة التي يذوب بها الملح في الماء . بعبارة أخرى : يجب على المسلمين كأقليات أن يحاولوا الاندماج في المجتمع مع المحافظة على هويتهم الإسلامية وقيمهم الروحية ، ويشعروا بالاعتزاز بالانتماء للإسلام والالتزام به واتخاذه كمنهج للحياة .

ونظراً لوجودهم في مجتمع متعدد الديانات والثقافات والأعراق قد يجد المسلم نفسه ممثلاً للإسلام بين غير المسلمين في كثير من الدوائر الحكومية ، الأمر الذي يتطلب منه على المستوى الشخصي أن يكون لديه الحد الأدنى مما يمكن أن يعبر به عن دينه بشكل صحيح .

هذا الوضع يدفعه إلى مزيد من النشاط والتعاون بين أبناء مجتمعه المسلم في تحصيل شيئ من العلم الديني ، ومن ثم تتوافر المراكز والمؤسسات الدينية التي تقدم هذه الخدمة .

وفي الوقت نفسه يتمتع المجتمع بمساحة من الحرية وقبول الآخر ويتيح للمسلمين التعاون والتفاهم مع غير المسلمين ومراعاة احتياجاتهم لممارسة عباداتهم وشعائرهم في أماكن أعمالهم . لذلك نلحظ في الوقت نفسه أنه قد تم توفير أماكن للصلاة للمسلمين في مختلف المؤسسات والدوائر وكذلك في أماكن العمل وغيرها ، ويسعد معظم أرباب العمل بالسماح للمسلمين بأخذ إجازة لصلاة الجمعة وغيرها .

وانطلاقاً من يقين المسلم بأن الهدف الأسمى من وجوده في الحياة هو العبودية لله وتحقيق الخلافة في أرضه يغالي المسلم بدينه ولا يفرط فيه ويفخر ويعتز بالانتماء إليه ، لذلك فهو يحمل الإسلام كمنهج حياة حيثما حل أو ارتحل ، ومصدره في الحفاظ بهذا المنهج هو القرآن والسنة ، ونموذج القدوة الأعلى في حياته هو النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، ثم أصحابه الكرام ، فهم رضوان الله عليهم عند ما هاجروا إلى بلاد غير إسلامية ، أقاموا شعائر الإسلام وخلقوا البيئة المناسبة لأداء الشعائر الدينية ، وأسسوا من الوسائل ما يجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً تطبيقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ” ( متفق عليه ) .

قدم الإسلام رؤيته الناضجة في إبراز وعرض القواسم المشتركة من خلال كتابه العظيم وممارسات رسوله الكريم لا لتكون رؤية نظرية مجردة وإنما لكي تشكل واقعاً له إحداثيات في الزمان والمكان والناس .

فعلى مستوى الجغرافيا قرر القرآن أن الأرض وضعها الله للأنام .

وعلى مستوى الوعي طرح الإسلام مجموعةً من المبادئ تفتح كل الأبواب والنوافذ وتعتمد القواسم المشتركة وتتجاوز في طرحها كل حد من حدود التاريخ والجغرافيا لتجمع الناس في وحدة تستهدف تعزيز السلم المجتمعي وتتمدد ، كذلك لتحمي الناس والمجتمعات رغم اختلاف الدين واللون والجنس ، فلفت الناس إلى الأصل الجامع بينهم ، وذكرهم بأن بينهم :

(1) وحدة في أصل خلقهم فهم إخوة ، يشتركون من حيث المصدر في أصل واحد فكلهم لآدم وآدم من تراب .

(2) ثم بينهم وحدة في مصدر الإرادة التي أوجدتهم ، فهم قد جاءوا إلى الوجود نتيجة إرادة واحدة هي إرادة الله الذي خلقهم .

ومن ثم وجب عليهم أن يتراحموا ديناً ، ومالم يتراحموا ديناً لوجب عليهم أن يتراحموا نسباً وصهراً .

فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّمِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء : ١ ) .

(3) اعتبر العالم منتدى للحضارات والثقافات واختلاف الأشكال والألوان والألسنة ، وأن هذا التنوع إنما هو مظهر لتجليات القدرة في الخلق والإيجاد وأنه سبحانه يزيد في الخلق ما يشاء ، ثم إن هذا الاختلاف في الأشكال والألوان والثقافات سينشأ عنه حتماً اختلاف آخر في الرؤي والتصورات والمصالح والعقائد ، ولا يجوز أبداً أن تكون القواعد الحاكمة لهذه الاختلافات نابعةً من القوة الخشنة والغاشمة ، وإنما لابد أن يضم لهذا الأصل الواسع الجامع بينهم أصلاً آخر يكشف ثمرة الاختلاف في الأشكال وتجليات الألوان والألسنة ، حيث قال تعالى :       ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) ( الروم : 22 ) .

(4) وأن كونهم شعوباً وقبائل إنما هو للتعارف وتبادل الخبرات حول الذات والآخر ، حتى يكتشف كل منهم حجم الوحدة البيولوجية الدقيقة التي لا تفرق بين إنسان وإنسان ، من الشمال أو من الجنوب من الشرق أو من الغرب ، من عالم الفقراء أصحاب البشرة السوداء أو من عالم الأغنياء أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشفاه الباسمة ، وأن هذا الأصل الجامع بينهم رغم الاختلاف في الأشكال والألوان والألسنة لا يمنح طرفاً من التمايز ما يجعله سيداً مطاعاً بين عبيد أتباع ، فقد قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات : ١٣ ) .

(5) اعتبار عقائد الآخرين محميات لا يجوز العدوان عليها أو تجريح أصحابها ولو كانت باطلةً لأن العقائد مغلفة دائماً بالعاطفة والعواطف عواصف ، وأحياناً قواصف ، وأحياناً نواسف .

والعقائد بطبيعتها مناطق مغلقة ، يمكن طبعاً أن تناقش بين المتخصصين في قاعات البحث العلمي وتحت سقف من القواعد والضوابط العلمية والأخلاقية ، ولا مانع من ذلك أبداً ، ولكن ليس على مستوى العامة وفي الشارع العام ، هنا يمكن أن تؤدى لكارثة ، لأن العقائد لدى البعض قد لا تخضع للمنطق العلمي ، وإنما تحاط بعواطف وحماس يمكن أن يشتعل في أية لحظة إذا استثير بالإهانة أو التسفيه والتحقير والاقتحام . من هنا كان أدب الإسلام حامياً لبنية المجتمع ونسيجه العام وباسطاً للحكمة في أعلى تجلياتها حين علم أتباعه والمؤمنين به رعاية هذا الاعتبار فقال تعالى : ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )         ( الأنعام : 108 ) .

ذلك أدب يلفت النظر في سموه وعفته لطبيعة الرسالة التي يحملها هذا الدين وهي رحمةٌ الله للعالمين .

واختلاف العقائد لا يستلزم التمييز في المواطنة ، ومن جميل تراثنا في السياسة الشرعية ، ذلك ” العهد ” الذي كتبه الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب ( 23ق . هـ 40هـ/ 600 – 661م ) إلى واليه على مصر   ” الأشتر النخعي ” ( 37هـ – 65م ) .

( أن اختلاف الرعية في الدين لا يصح أن يكون ذريعةً للتمييز بينهم في الحقوق والواجبات الاجتماعية والإنسانية ( فالخلق صنفان ، إما أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ) .

ذلك بالإضافة إلى أنه نظر إلى اختلاف الأجناس والعقائد والثقافات على أنه سنة كونية ، وليس خياراً إنسانياً يقبله البعض ويرفضه آخرون ، ومن هنا وجب على المسلمين في مجتمع المهجر أن يستوعبوا هذه الحقائق وأن يكيفوا حياتهم وفق هذا الفهم العميق وأن يتعاونوا مع غيرهم وفق هذه التعاليم العظيمة التي تمكنهم من استيعاب الآخرين والانسجام معهم مع الاحتفاظ بثوابت دينهم وهوية أبنائهم ، ومما يحمد لهذه المجتمعات التي لديها مساحة من الحرية ورعاية حقوق شعوبها أنها تمكنهم من التعاون فيما بينهم وتتيح لهم فرص بناء مؤسساتهم الدينية والتعليمة التي تحافظ على هويتهم ولغتهم ، ما داموا ملتزمين بالمنظومة القانونية المعمول بها في تلك المجتمعات .

ومن منطلق رد الجميل ومقابلة الإحسان بالإحسان وجب على المسلمين ، أن يعتبروا أنفسهم شركاء في هذا الوطن وأن أمن المجتمعات التي يعيشون فيها إنما هو جزء من ثقافتهم وواجب من واجبات دينهم ، كما يجب عليهم أن يثبتوا أيضاً أن وجودهم إنما هو إضافة علمية وأخلاقية وحضارية في المجتمعات التي يعيشون فيها ، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانوا يؤمنون فعلاً ويشعرون الآخرين بأنهم يحملون لهم رحمة الله للعاملين ، وسبيل ذلك أن يتميز المسلمون ويتفوقوا في ثلاثة ميادين :

  • لا بد من التفوق في الجانب العلمي من خلال المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث في شتى التخصصات ، ويجب أن يأخذ هذا المبدأ أولويةً مطلقةً لدى الطلاب المسلمين كما يجب النظر إليه على أن السعي فيه من أعظم العبادات وأجل القربات لله تعالى ويمكن هنا الاستفادة مما ورد في القرآن والسنة من نصوص ترفع من قدر العلم والعلماء وتجعل من طالب العلم محلاً لرضى الحق جل جلاله وهدفاً لاستغفار كل شيئ حتى الملائكة وحتى الحيتان في البحر .
  • لا بد من التفوق في الأداء الحضاري المتميز وذلك بإتقان العمل وإجادة الحرف والصناعات التي يمارسونها والإبداع فيها .
  • لا بد من التفوق في الجانب الأخلاقي ، والأخلاق لغة عالمية تعكس معتقدات صاحبها وتصوره للحياة والكون ولا تحتاج لترجمة ليفهمها الآخرون ، ومن ثم فالملتزمون بها دعاة لدينهم وقد ارتقوا وتجاوزوا مرحلة الدعوة بالقول إلى مرحلة التطبيق ، ومن ثم فهم دعاة بالأحوال لا بالأقوال .

بهذه المفاهيم وبذلكم الوعي حين يتراكم فهماً وإدراكاً عبر الأجيال ليواجه مشكلات الواقع في الأزمات الشديدة من خلال عطاء النص الكريم فهماً وتأويلاً يعيش المسلم في مجتمع المهجر لا على أنه مجرد رقم في العد والإحصاء ، يستشعر أنه الضحية لأنه يعيش مرحلة الاستضعاف والقلة والذلة ، وإنما ينطلق من قاعدة الاعتزاز بدينه والفخر بالانتماء إليه لأنه في الحقيقة جزء من المعادلة يحسب حسابه ويسمو فوق الاستعطاف والاستهداف لأنه مواطن حر في وطن حر . . . .  يحميه . . . . . ويحتمي فيه .

* رئيس مجلس العلماء النيوزيلندي ، آكلاند ، نيوزيلاند ، mubarakpuri@yahoo.com .