اللف والنشر في القرآن الكريم
أبريل 27, 2024أسلوب الإمام الندوي في كتابة المقالات وميزاتها
أبريل 27, 2024دراسات وأبحاث :
تأثير اللغة العربية في اللغة الأردية
الدكتور محمد أنظر الندوي
لا يختلف اثنان في أن أبناء الأمة المسلمة وأفذاذها قد وقفوا في كل جانب من جوانب حياتها وقفات طويلةً متأنيةً ، ودرسوا جميع مناحيها دراسات متعمقةً ، فلم يدعوا موضوعاً إلا وتناولوه ، وما بقي باب من أبواب العلم إلا وطرقوه ، وهي من أكبر الميزات التي تتميز بها الأمة الإسلامية ، ولا شك أن أشرف هذه العلوم علوم القرآن الكريم والسنة النبوية والشريعة الإسلامية . وهذه المصادر الأساسية تتوقف على فقه اللغة العربية ، ولها علاقاتها المتينة بلغات العالم ، وتأثيرها في هذه الألسنة العالمية عامةً كأم اللغات وخاصةً باللغتين الفارسية والأردية ، ولذلك قام الكتاب من العرب والعجم بتوفير المواد الهائلة على أهمية اللغة العربية وفهمها للمسلمين غير الناطقين بالعربية ، وتسابقوا إليه . وقد نهض الكثير من العلماء في شبه القارة الهندية للإسهام في هذا المجال في كل عصر ومن كل جيل .
الموضوع الذي نحن بصدده الآن ، هو موضوع ذوخطورة بالغة ، كما هو مفيد وشيق في اللغة العربية وآدابها لمعرفة الأواصر القديمة والصلات المتينة بين المسلمين العرب والمسلمين في شبه القارة الهندية ، وفضل اللغة العربية على اللغة الأردية في مجالات العلم والأدب والثقافة والفن .
إن الهند والبلدان العربية كوحدة وحيدة بلدتان بجوار البعض للبعض ، بحيث إنه يحول بينهما المحيط ، وعلى أحد شاطئيه العرب وعلى آخره الهند ، ويتفرع من شواطئ هذا المحيط طرق تتوصل بين البلاد ، وإنهما كائنتان على الشاطئين المقابلين للمحيط حيث إحدى يدي المحيط تتمسك بأرض الحرم الشريف ، والأخرى بالحضارة والثقافة الآريائية الهندوكية . وكـانـت الـصـلات والـروابـط قـائمةً بين العرب والهند قبل ظهور الإسلام .
ولكن العرب دخلوا الهند دعاةً وفاتحين ، وكان هدفهم بالدخول تركيز الحكم الإسلامي في الهند ، ونشر الدعوة الإسلامية بأرجائها ، والحفاظ على اللغة العربية التي كانت وسيلةً واحدةً لفهم هذا الدين الحنيف ، فإنهم لم يفرقوا بين اللغة والدين ، واتخذوا العربية وسيلةً لنشر الدين المبين ، حتى صار فهم الدين مستلزماً لتعلم اللغة العربية وفهمها بسائر دقائقها وغوامضها ومعالمها ومعارفها ، حيث إن بعض الأمور الدينية تتوقف على اللغة العربية مثل الصلاة وإقرار التوحيد والرسالة وتلاوة القرآن المجيد . وقد أيدت هذه الأمور الدعاة العربَ في نشر اللغة العربية مع نشر الدين الحنيف في الهند .
والحق أن الذي يوجد من الدين والشريعة والسياسة والأخلاق في أنحاء العالم الإسلامي وخاصةً باللغة الفارسية أو الأردية ، فإنه مقتبس من اللغة العربية ، إذ أن الشريعة الإسلامية يمكن شرحها وترجمتها بأية لغة غير العربية ، ولكن الروح التي تسود الفكرة الإسلامية كانت هي التي عرضها القرآن والسنة النبوية للعالم .
وإن اللغة العربية هي التي نقلت المعتقدات الدينية وأفكار العلماء الربانيين إلى لغات العالم ، حتى إذا تأملنا في المعتقدات الدينية المأخوذة من اللغة الفارسية فنرى أن روح العربية سائدة فيها ، ولا يختلف أحد في أن اللغة الأردية تتأثر باللغة الفارسية في النواحي الأدبية واللسانية والفنية والتخيلية ، ولكن مـما لا يرتاب فيه أحد بأنها تتأثر في الإيمانيات والأخلاقيات باللغة العربية . وإننا نمتن امتناناً وافراً للغة العربية في توفير المواد الجمة في باب الإيمانيات والأخلاقيات ، إذ أن اللغة العربية هي التي تشرفت بإبلاغ أصول الدين وفروعه ، ثم انتقلت الأصول والفروع إلى أية لغة أخرى ، وعندما نرى المواضيع من هذه الوجهة فيتبين لنا أن جميع المواد الدينية وصلت إلينا بواسطة اللغة العربية .
لقد مارس أهل اللغة الأردية ممارسات جادةً ومكثفةً لتفسير معاني القرآن الكريم وشرح الحديث النبوي وفتح باب البحث في العقائد عن طريق اللغة العربية ، بحيث إن المتكلمين والفقهاء وعلماء اللغة الأردية باشروا بالمواضيع الدينية كتابةً وخطابةً ، وقد تسبب هذا العمل لتدخل اللغة العربية في الأردية وفي مصطلحاتها وكتاباتها ، فاستطاع أهل اللغة الأردية تزيين اللغة الأردية بالكلمات العربية ومصطلحاتها وأمثالها ، ولا مراء أن هذه الممارسة قد طورت اللغة الأردية من جهة ، وتسببت لتدخل اللغة العربية في الأردية من جهة أخرى ، وأن الأفكار الربانية دخلت في الأردية بسبب اللغة العربية من حيث كونها مصدراً لها .
وبناءً على هذا ، فإن منبع مكارم الأخلاق للأمة الإسلامية أيضاً هو العرب ، وما يوجد من تعليم الأخلاق الفاضلة بالفارسية والأردية فإنه يرجع إلى العربية من حيث المبدأ والروح . وأخذ الشعراء والأدباء يتناولون موضوع الأخلاقيات لكلامهم ونقاشهم ، لأن الحديث عن الأخلاق شيق وأشد تأثيراً من المواضيع الأخرى ، فالواقع أن الأدب والشعر الأردي قد تطورا بفضل هذا الموضوع ، والأمر الثاني هو أن العرب كانوا مركزاً لأنظار المسلمين في شبه القارة الهندية ، وكل ما كان ينتسب إليها من حركات أو غزوات أو معجزات أو حوادث ، يجر قلوب المسلمين إليهم ، وكان شعراء الأردية وكـتابها يفتخرون بنقل هذه الحوادث شعراً ونثراً ، ولم يوجد زمن إلا وفيه الأدب الأردي كان حافلاً بذكر الحوادث والغزوات العربية ، وذلك بأساليب جديدة ومتطورة ، حتى صار ذكرى بعض الحوادث ( مثل ذكرى استشهاد سيدنا حسين بن علي رضي الله عنه ) نوعاً مستقلاً مـن النظم الرثائي .
إن اللغة الأردية مليئة بالأمثال والاستعارات والكنايات العربية بوصفها جزءً من الأردية ، ولا ينحصر الأمر في الكتابة فقط ، بل يمتد إلى الخطب والكلام هو الآخر ، وإن استعمال الأمثال والكنايات والتلميحات العربية لا يشق على مسامع أهل الأردية ، بل وإنها صارت جزءاً للأردية ، فنرى أن كل واحد منا يستعمل كلمات عربية مثل : سبحان الله ، وما شاء الله ، وجزاكم الله ، ومعاذ الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومرحباً ، والتوبة ، وإن شاء الله العزيز ، واللهِ ، باللهِ ، وما إلى ذلك ، ويجعل كلامه أشد تأثيراً وقوةً وحماساً .
إن الدين الإسلامي لم يبحث في الأخلاق والعبادات فحسب ، بل وإنه بحث عن الشؤون الاجتماعية أيضاً ، بحيث لم يزل أمراً من أمور الحياة ، من الولادة إلى الموت ، إلا وقد بيّنه ، وحيث إن الأحكام الاجتماعية هي الأخرى توجد باللغة العربية ، لذا بقي – رغم الترجمة إلى الفارسية والأردية – كثير من المصطلحات العربية على أصلها بالعربية ، وإن العلماء لم يترجموها إلى أية لغة أخرى ، نظراً إلى جامعيتها وشمولها وعمومها الذي يوجد فيها ، والذي لن يبقى بعد الترجمة والنقل إلى لغة أخرى ، وتسبب ذلك لدخول عدد كبير من الكلمات والمصطلحات العربية إلى الأردية حتى صارت جزءاً حتمياً لها ، وصار أهل الأردية يفهمونها ويستعملونها كأنها كلمات أردية .
قد أثر الدين الإسلامي الحنيف واللغة العربية الفصحى في اللغة الأردية في مجال تسمية الأولاد بالأسماء التي قد تكون إحدى جزئيها من صفات الله عز وجل ، والأخرى من الكلمات العربية الجيدة ، والاسم يتألف من هذين الجزئين ، حتى صار كل عالم أو جاهل لا يعرف فقط ، بل يختزن عدداً كبيراً من الكلمات العربية .
ومن المعلوم أن الكثير من الرؤى والمعتقدات التي قدمها الإسلام بالعربية لم ينقل إلى الأردية أو الفارسية ، وصارت مستخدمةً لدى الناطقين بالأردية كمصطلحات إسلامية أصيلة محتمة ، لأن الأردية أو الفارسية لا تجد كلمات شاملةً بدل تلك الكلمات ، فحصلت اللغة الأردية على عدد كبير من المصطلحات العربية المنبثقة من الدين الإسلامي الحنيف ، والآن أصبحت تلك الكلمات جزءً لابدِّياً من اللغة الأردية .
والشيئ اللافت إلى هذا التأثير ، هو استخدام علماء الإسلام الأفاضل في شبه القارة الهندية ، اللغة الأردية كواسطة بنيوية لتبليغ رسالة الإسلام إلى الشعب الهندي ، وهذه الرسالة تبتني على الكلمات والمفردات والمصطلحات العربية التي تتعلق بأمور الدين والشعائر والأخلاق والتزكية ، والتي يستخدمها العلماء والخطباء والواعظون والدعاة صباح مساء وليل نهار لتقريب أذهان الناس إلى الدين الإسلامي ، فأصبحت تلك الكلمات والمفردات العربية الدينية معروفةً وشائعةً لدى العوام والخواص ، وأصبحت متداولةً فيما بينهم ، ولولم تكن هذه الكلمات في الشئون الدينية ، وتكون كلمات علمية أو أدبية فقط ، لما كان العوام والخواص من الناس يعرفونها ويحفظونها ويتتبعون القواميس من أجلها ، وما كانوا يستمعون إليها مثل ما يستمعون إلى المواعظ والخطب الدينية ، على الرغم من اشتمالها على كلمات عربية صعبة وسهلة ، ويفهمها كل واحد منهم بسهولة ويسر .
ومن فضل اللغة العربية على اللغة الأردية إعطاءها أفكاراً ومصطلحات وتعابير عن طريق الدين الإسلامي . والمكتبة الأردية ، ولا سيما رأس مالها الديني ، مليئة بتلك المعطيات . والشيئ المهم هو أن العربية لم تؤثر في الأردية من هذا المنحى فقط ، بل وإن الفارسية أخذت من اللغة العربية قواعد اللغة العربية من الصرف والنحو ، والأفكار ، والكلمات ، وأصناف الكلام ، والـبحـور ، وهلم جراً . وتناولت اللغة الأردية كثيراً من المواد من الفارسية مما جعلنا نستطيع أن نقول : إن اللغة العربية منحت اللغة الأردية أشياء كثيرةً ، في حقول وساحات مختلفة ، مباشرةً أو غير مباشرة ، أحياناً عن طريق الفارسية ، وأخرى بدون أي واسطة ، وهذا أمر معلوم ومقرر يعلمه القاصي والداني ، لأن اللوازم المتطلبة التي تجعل اللغة لغةً ناطقةً حيةً متطورةً ، إنما جاءت في الأردية من العربية ، تارةً بواسطة الفارسية ، وأخرى مباشرةً .
إن الأردية مدينة للعربية بحيث إنها استعانت بها في أداء الفكر والرؤى ، بما لولم تكن العربية منحتها لما استطاعت التقدم إلى الرقي والازدهار ، وكما أن الأردية لغة عجمية كانت لا تكاد تنطق في العديد من الموضوعات مثل الرياضيات والطب والنجوم والفلسفة والموسيقى والجماليات والفنون اللطيفة ، بحيث إن معظم المصطلحات والرؤى والأفكار في مثل هذه المواضيع وردت عن طريق اللغة العربية ، فتأثر اللغة الأردية في مثل هذه الموضوعات بالعربية ثابت من المنحى اللساني دون المنحى الديني ، فدور اللغة العربية في تزيين اللغة الأردية وتراثها في مناحيها المتنوعة منظورة ومحققة .
ومن المستلزمات لتطور اللغة – إزاء الأمور الأخرى – حاجتها الماسة إلى التلميحات ، لإضافة العقيدة في البلاغة والشـمـول العام . والمعلوم أن اللغة الأردية كانت لغةً حديثة العهد تحتاج لتطوير نطاقها إلى التلميحات والاستعارات ، فإنها انتسبت بحكم طبيعتها إلى لغة متطورة قديمة اهتمت بالبلاغة والتلميحات اللغوية لتجميل طلعتها الحسناء ، وقد قامت بتحقيقها لكون أغلبية المؤلفين في الأردية مسلمين ، وقد نشأ دينهم في الجزيرة العربية ، ولذا تأثروا بالعربية وقاماتها ورجال الدعوة والفكر الإسلامي العرب ، ودخلت التلميحات العربية في الأردية بسبب التواصل الحضاري والتلاقح اللغوي المتواصل ، وتحلّت الأردية بحلى العربية الجميلة في شتى أساليبها اللغوية .
ومن نافلة القول أن اللغة العربية قد أثرت في الأردية مباشرةً بدون أي وسيط ، يعني اللغة الأردية تبتني على حروف الهجاء ، وهي أساس لأية لغة ، حيث تبدأ من الألف وتنتهي إلى الياء ، فإذا تأملت فيها وجدت أنها تأتي من العربية ، غير أنها تلقت ببعض الأحرف الهجائية من الفارسية والهندية لإكمال الصوتيات الثقيلة .
فمجمل القول أن الأردية اعتباراً بالمبدأ والهيكل البنيوي ، إنما بدأت بفضل اللغة العربية . إضافةً إلى ذلك ، يمكن للقارئ الكريم أن يتوصل إلى هذه الحقيقة المبدئية أن حساب الأبجد هو الآخر قـد ورد في الأردية من العربية . وحساب الأبجد هو حساب يستعمله شعراء الأردية في تخريج تواريخ الأحداث والوقائع من المواليد والوفيات ، وغيرها . وضبط هؤلاء الشعراء مستخدمين الأبجدية المستوردة من العربية ، كثيراً من المواد التاريخية .
ومن المؤكد أن تأثير قواعد اللغة العربية مثل الصرف والنحو العربي في الأردية قليل ، بحيث إن قواعد اللغة الأردية مثل التذكير والتأنيث والإفراد والجمع والفاعل والظرف وما إلى ذلك ليست على طريق العربية ، ولها قواعد مختلفة خاصة دون التأثر بالعربية ، ولكن تأثرها بالعربية في أبواب المعاني والبيان والبديع وغيرها ، فهو ظاهر ومحتم .
وفي نهاية المطاف ، يمكن لنا أن نستخلص أن طابع أثر اللغة العربية على اللغة الأردية واضح وكبير ، وليس ذلك في ناحية واحدة أو في نواح متعددة فحسب ، بل إنه يتعدى إلى معظم مناحيها الجذرية البنيوية ، وذلك بسبب احتضان الدين الإسلامي الحنيف اللغة العربية المتينة وتخليدها إلى يوم القيامة ، وخدمة العلماء المسلمين ورجال الدعوة والفكر الإسلامي لنشر كلمة الله في شبه القارة الهندية ، فاللغة الأردية تأثرت بلسانهم الدعوي ، واستضاءت بالمصطلحات الدينية والأفكار الإسلامية ، حتى تطورت تطوراً ملحوظاً بقدر ما اكتظت المكتبات الأردية بمؤلفاتهم الدينية القيمة .
المصادر والمراجع :
1. سيد عليم أشرف الجائسي ( أ . د . ) : بين اللغة العربية والأردية ، دار العلوم جائس ، رائى بريلي ، أوترابرديش ، 2011م .
2. حليمة منصور : أثر اللغة العربية في اللغة الأردية – دراسة لغوية وأدبية ( بحث مقدم لنيل شهادة الدكتوراه ) ، قسم اللغة العربية ، جامعة بنجاب ، لاهور .
3. شفيع شيخ ( أ . د . ) : عربى زبان وادب كا اردوپر اثر ، فيمس آفسيت بريس ، 2000م .
4. رضوانه معين ( الدكتورة ) : اردوپر عربى كے لسانى اثرات ، حيدرآباد ، الهند ، 1998م .