الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي وموقفه من الإحسان والتزكية
نوفمبر 10, 2020علم فريد لم ينصفه جيله ( المفكر الإسلامي والأديب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي )
ديسمبر 15, 2020رجال من التاريخ :
العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري
بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
علَم اعترف بفضله مشايخ عصره :
انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري في 13/ ربيع الأول عام 1382هـ ، الموافق 16/ أغسطس 1962م ، في لاهور بباكستان ، ودُفن في وطنه بمديرية سرغودها ، بعد ما عاش حياةً حافلةً بالزهد والقناعة وتربية الناس على خلال إيمانية ودينية ، وتزكية نفوسهم من غوائل الشر ، فكانت وفاته خسارةً لا تعوض في مجال التربية والإحسان ، يبدو كأن الأمة الهندية أصبحت يتيمةً بوفاته ، رحمه الله رحمةً واسعةً ، وأكرم نزله وأدخله في جنات النعيم .
كان الشيخ عبد القادر الرايفوري يعتبر أحد العلماء الربانيين في الهند ، فكان يعترف بفضله جميع مشايخ عصره ، وقد استفاد منه عدد لا بأس به من الناس ، وعلى مستويات شتى ، يأتي إليه رواد التربية والإخلاص ، وينهلون من هذا المنهل الرباني ويرتوون من نميره الفياض .
رجل التزكية والتربية :
حينما بلغتُ سن الرشد فرأيت أن جهود العلماء ومساعيهم كانت مركزةً على التخلص من الاستعمار البريطاني ، وكان المسلمون يشكون في جانب قلة الاقتصاد وضآلة الإمكانيات المعاشية ، وفي جانب آخر عدم الاعتناء بالأسس الدينية والمثل العليا ، فكان كبار العلماء يسعون سعياً مباركاً لإزالة الأمية والجهالة من المسلمين ، ويهتمون بالجوانب الخلقية من نواح شتى ، فكنت أسمع من كبار أسرتي أسماء هؤلاء العلماء أمثال الداعية الإسلامي الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي ، والشيخ السيد حسين أحمد المدني ، والشيخ أشرف علي التهانوي ، والشيخ عبد القادر الرايفوري ، والشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي ، والشيخ أحمد علي اللاهوري ، وقد تشرفت بلقاء هؤلاء المشايخ ، واستمعت إلى كلماتهم ومواعظهم ، وأخص بالذكر منهم الشيخ عبد القادر الرايفوري الذي كان مرجع العامة والخاصة في زمانه ، أقام في زاوية خارج قرية رائي فور ، وهي نائية عن الحضارة والمدنية ، كنائب لأستاذه الشيخ عبد الرحيم الرايفوري رحمه الله تعالى ، فهذه القرية رغم انفصالها عن البلد كانت معمورةً بالناس ، وكانت الحياة حافلةً بالنشاط والحركة ، فليست هذه الحركة كتحركات الأسواق وضجيجها ، بل كانت حركةً للذكر والدعاء ، والإنابة إلى الله تعالى . يقول الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي :
” والشيخ عبد القادر الرايفوري من كبار المربين والعلماء الربانيين ، ومن أصحاب الفراسة والذكاء والانفتاح الذهني ، الذين يجمعون بين العلم والعمل ، والتربية والتزكية ، وهو من أولئك القائدين والعلماء الصالحين ، الذين يحتاج إليهم المسلمون ، بل قادتهم في كل زمان للقيادة والتوجيه ، والاستفادة من تجاربهم وطيب نفوسهم ، وقد رأينا في اطلاع الشيخ وتبصّره بأوضاع العصر وظروفه وبصيرته السياسية ، وفراسته الإيمانية ، وجمعه بين حسنتي الدنيا والآخرة ، والجانب العملي المشرق ، كان نموذجاً طيباً للزوايا السنوسية ، وذكرتنا أخلاقه الفاضلة ، وعطفه الأبوي وتواضعه وحفاوته وضيافته ، بأخلاق السلف الصالحين ، الذين كانوا يقتدون بأسوة صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم . وقد استرعى انتباهنا ما كان يخيَّم على هذه القرية النائية من الهدوء ، كأن غاشية من السكينة تغشى أهلها ، فينسى الناس الزائرون همومهم وأحزانهم ، وأما في آخر الليل فلا تسمع إلا صوت الذكر وتلاوة القرآن ، ولا ترى إلا راكعاً أو ساجداً ” . ( شخصيات وكتب : 31 – 32 ) .
صفاته وآثار صحبته :
إن الشيخ عبد القادر الرايفوري الذي كان ينتمي إلى رائي فور ، ولم يكن من سكان رائي فور ، بل كان في بلدة ” دهدهيان ” من مديرية سرغودها بباكستان ، لكنه عاش في تربية شيخه العالم الرباني عبد الرحيم الرايفوري مدةً طويلةً ، حتى صار نائباً له في أعمال التربية والتزكية ، وانقطع عن كل شيئ إلى رائي فور ، فخيل إلى الناس أنه من مواطنيها ، وكان من تأثير الشيخ الرايفوري في الناس بزهده في حطام الدنيا واستغنائه عنه أن كل من زار هذه القرية تنازل عن جميع مباهج الدنيا ، ولهج قلبه بالذكر والدعاء إلى الله تعالى ، وقد خدم الشيخ الرايفوري مربيه الجليل الشيخ عبد الرحيم الرايفوري خدمةً بغاية من الإخلاص والطاعة ، إلى أن الناس ظنوه رجلاً عادياً ، لكن مربيه كان يعرف مكانته ويقدر منزلته ، وقد تجشم في خدمته صعوبات ومشكلات لا يتصورها أحد ، فكان ذلك سبباً لنيابته ، ثم عرف الناس مكانته ومنزلته .
وقد بلغ الشيخ من نفي الذات إلى حد ، بحيث لا يمكنه أن يشعر بشرف نفسه وإكبارها ، فلا يخطب أمام أتباعه وتلامذته ، بل يتكلم بهم كلاماً عملياً في أسلوب بسيط ، ويربيهم بطول الصمت وعدم الكلام ، وكانت بيئة زاوية رائي فور ترتج بكلمة لا إله إلا الله ، وتكرار لفظ الجلالة : الله ، الله ، يظهر من استغنائه عن الناس وانقطاعه عنهم أنه لا يعرف شيئاً من الدنيا وما فيها ، لكن إذا استشير في قضية مهمة من قضايا الإنسانية أشار عليها ببصيرة نافذة وفراسة إيمانية ، وكل من زاره تأثر بمنهج حياته وتعامله معه ، وحينما انقسمت الهند إلى باكستان فكان وطنه في جزء باكستان ، وكان فيها أتباعه وتلامذته ، فكثيراً ما يختلف إلى باكستان ويقضي أياماً وليالي في لاهور ، وكان أحد أتباعه على وظيفة عالية في الحكومة الباكستانية ، فكان الناس يأتون إلى منزله ويستفيدون من الشيخ عبد القادر الرايفوري ، وقت إقامته عنده .
عدم الإخلاص مرد كل فساد :
وقد سافر عدد من العلماء إلى باكستان للاستفادة منه ، وكان فيهم خالنا العزيز الكريم الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي ، الذي اتصل به اتصالاً روحياً ، ثم قويت علاقته شيئاً فشيئاً ، حتى كان الشيخ يعتمد عليه ويثق به ، فيسافر خالي العزيز إلى رائي فور ، ويرافقني أحياناً ، فكنت أتشرف بزيارته ورؤية وجهه المشرق ، فيتبادل الشيخ الشفقة والرأفة معنا ، وقد التمسنا منه للسفر إلى وطننا برائي بريلي ، ومقر عملنا بلكناؤ فشرفنا بقدومه المبارك ، فزرناه عن كثب ، وأعجبنا بشخصيته المؤثرة الجليلة ، وبايع على يديه عدد من أعضاء أسرتي ، وأقام الشيخ كذلك في دار العلوم لندوة العلماء ، فاستفاد منه بعض أساتذتها وموظفيها وطلبتها ، وانتشر هذا الخبر في مديريات مجاورة للكناؤ ، فأسرع الناس إليه ، واستفادوا من مواعظه وإفاداته ، كما تابوا على يديه من ذنوبهم وآثامهم .
يقول الإمام الندوي : ” إن دراسته الواسعة العميقة لهذه الأوضاع ، وتجاربه الطويلة في الحياة ، انتهت به إلى نتيجة أصبحت فيما بعد يقيناً وعقيدةً وهي أن مرد كل الفساد في مختلف نواحي الحياة ورأس البلاء وأصل الشقاء هو عدم الإخلاص وسوء الأخلاق ، وأن أكبر واجب ومهمة في هذا العصر هو إحياء الإخلاص والأخلاق وتجديدهما ، وأكبر وسيلة للحصول عليهما هو الحب ، والطريق إلى الحب : الذكر والصحبة وعشرة عباد الله الصالحين والعارفين …….. إنه كان ينظر قبل كل شيئ إلى حياة الصحابة رضي الله عنهم ، وجهودهم العظيمة الخالدة ، التي انتشر بها الإسلام في نصف المعمورة في نصف قرن تقريباً ، وهبَّت ريح الإيمان في كل مكان ، فقد درس حياتهم وسيرتهم دراسة تعمق ووعي ، وكانت مجالسه دائماً تفوح بذكرهم وعاطر أحاديثهم .
وكان له اطلاع واسع على حركة المجاهد الكبير السيد أحمد الشهيد ( 1246هـ ) وتاريخ رجاله ، وكان له شغف عجيب ، وكان يقول : إنه يبدو لدارس أحوالهم أنهم كانوا نموذجاً للصحابة عليهم رضوان الله ، في هذا العصر المتأخر ، نفس الحب والتفاني ، ونفس الحنين إلى الشهادة ، والرغبة عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، والتضحية والإيثار والفداء والوفاء ” . ( شخصيات وكتب : 34 – 36 ) .
سفره للحج :
عزم الشيخ الرايفوري عام 1950م على سفر الحج ، فاستصحب خالنا الجليل الشيخ أبا الحسن علي الحسني الندوي ، وبهذه المناسبة رافق الشيخ عدد من تلامذة خالي وأقاربي ( وكان فيهم كاتب هذه السطور ) ، وكان هذا السفر في رفقة الشيخ الرايفوري مفيداً جداً ، ففي جانب كانت بركات الحرمين وزيارة المشاعر المقدسة مبعث طمأنينة وسكينة لنا ، وفي جانب آخر كانت رفقة الشيخ الرايفوري كأمير للقافلة مفتاح الحسنات والخيرات .
وفاته :
لا شك أن الشيخ الرايفوري كان شمساً منيرةً للإصلاح والتربية ، أضاءت الأفق إلى مدة طويلة ، فاستضاء منها الناس ، ونشروا هذه الأضواء والإشراقات إلى الآخرين ، وكان مصباحاً لامعاً أشعل مشاعل كثيرةً ومصابيح منطفئةً .
رفع الله تعالى درجات الشيخ الرايفوري وأجزل مثوبته على أعماله الجليلة ، وأنزل عليه شآبيب رحمته وأدخله فسيح جناته ، وجمعه فيمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .