الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي وموقفه من الإحسان والتزكية

العلامة الأديب الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المراكشي : حياته وآثاره
نوفمبر 10, 2020
العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري
ديسمبر 15, 2020
العلامة الأديب الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المراكشي : حياته وآثاره
نوفمبر 10, 2020
العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري
ديسمبر 15, 2020

رجال من التاريخ :

الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي

وموقفه من الإحسان والتزكية

البروفيسور مشير حسين الصديقي *

شخصية جامعة بين العلم والعمل :

إن قرية ” تكية كلان ” بمديرية رائ بريلي في الهند لم تزل مركزاً من مراكز أهل العلم والمعرفة والدعوة والتربية الإسلامية منذ قرون ، وكان العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله من أعلام هذه القرية ، قد جمع بين العلم والأدب والزهد والتقوى ما لم يجمعه غيره من أقرانه في القرن العشرين المنصرم ، وكان رحمه الله تعالى قمةً في القرن المنصرم في مجال التزكية والإحسان ، لا يوازيه غيره فيه لا في الهند ولا في غيرها من دول العالم .

ومن الملامح البارزة لشخصية العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي – رحمه الله – فكره العميق المتزن ، وجمعه بين الأصالة والمعاصرة ، ومنهجه في الفكر والدعوة ، منهج الاعتدال والوسطية ، تدل على ذلك خدماته العظيمة والمتنوعة الواسعة ، وموقفه الحازم الحاسم تجاه القضايا والمشاكل المتجددة .

ومن أهم ميزاته أنه كان يحمل قلباً واعياً ، وبصيرةً نيرةً نافذةً ، وفراسةً إيمانيةً ، وفكرةً وقادةً ، وكان له الحظ الأوفر من المعرفة ، والإحسان والسلوك ، وصدق العزيمة ، وإخلاص العمل ، والخلق   الحسن ، وهي الميزة الممتازة التي جعلته مقبولاً لدى سائر الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ووجهات نظرهم ، ومنحته مكانةً مرموقةً بين سائر الحركات ، والمنظمات ، والفئات ، وإن هذه الميزات من إخلاص العمل والخلق العظيم ، هي التي نال بها الشيخ الندوي اعترافاً وتقديراً عظيمين في مجال العلم والفكر والدعوة والتربية والتعليم في العالم الإسلامي ، وجعله تواضعه واستغناؤه محبباً إلى القلوب والنفوس في العرب والعجم على السواء .

إن العلم والأدب والتزكية من خصائص الحياة الإنسانية ، وإن هذه الصفات الثلاث النبيلة ، تجعل الإنسان إنساناً في معنى الكلمة  ، وإن كتابات الشيخ الندوي – رحمه الله تعالى – تنبئ عن هذه الجامعية ، فكان جامعاً للعلم والأدب كما كان إماماً في الإحسان والتزكية ، فإن روح التزكية والإحسان تظهر في  كل كلامه وكتاباته .

كتابات الشيخ زاخرة بالأدب والبلاغة :

وكانت كتاباته – رحمه الله تعالى – ومؤلفاته زاخرةً بالأدب والفصاحة والبلاغة ، والعلم والمعرفة والفكر السليم ، كما أنها مملوءة بروح التزكية والإحسان ، قد أيقظ المسلمين لا سيما العرب من غفوتهم بكتاباته الروحية ، فكتابه التاريخي العظيم ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” قد حظى بالقبول ، وإن كل سطر من سطور هذا الكتاب لمحة روحية ولمعة ربانية ، وكتابه ” رجال الفكر والدعوة في تاريخ الإسلام ” الذي تحدث فيه عن المجددين والمصلحين والدعاة ، وكتبه عن الشيخ محمد يعقوب المجددي ، والداعية الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي ، والعالم الرباني الشيخ عبد القادر الرائفوري والمحدث الكبير الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي وغيرهم ، كل من يدرسها يحمل في نفسه عاطفة الخير ويتأثر بها دينياً وخلقياً .

” ربانية لا رهبانية ” وضرورة إصلاح المجتمع :

وكتابه – رحمه الله تعالى – ” ربانية لا رهبانية ” يدل دلالةً واضحةً على مكانة التزكية عنده ، وقد قال عن الكتاب ابن أخيه الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله : إن كتاب ” ربانية لا رهبانية ” ضرورة لإصلاح المجتمع الإسلامي ، وأثره على الأفراد والجماعات والحكام ، وفضله في تزكية الأخلاق والجوانب الروحية عظيم ومنقطع النظير ” . أقدم فيما يلي مقتطفات من كتابه هذا ، ليتضح الأمر جلياً .

يقول الشيخ الندوي وهو يشرح مفهوم التزكية في ضوء القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف في كتابه ” ربانية لا رهبانية ” :

” ومن هذه المصطلحات والأسماء العرفية التي شاعت بين الناس    ” التصوف ” ، ومن هنا ثارت أسئلة وبحوث ، وتساءل الناس : ما مدلول الكلمة وما مأخذها ؟ هل هو من الصوف أو من الصفاء ؟ أو هي مأخوذة من الكلمة اليونانية ( صوفيا ) التي معناها ” الحكمة ” [1] .

ومتى حدثت هذه الكلمة ؟ لم تُعرف لها أثراً في الكتاب    والسنة ، وما جاءت في كلام الصحابة رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان ، وما عرفت في خير القرن الأول ، وكل ما كان هذا شأنه ، فإنه من البدع المحدثة ، وقد حميت المعركة بين أصدقائه وخصومه ، والموافقين والمعارضين ، حتى تكونت بذلك مكتبة كبيرة يصعب استعراضها .

أما إذا عدلنا عن هذا المصطلح الذي نشأ وشاع في القرن الثاني [2] ورجعنا إلى الكتاب والسنة وعصر الصحابة والتابعين ، وتأملنا في القرآن والحديث ، وجدنا القرآن ينوه بشعبة من شعب الدين ، ومهمة من مهمات النبوة يعبر عنها بلفظ ” التزكية ” ويذكرها كركن من الأركان الأربعة التي بعث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لتحقيقها وتكميلها ” هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ” ( الجمعة : 2 ) . وهي تزكية النفوس وتهذيبها وتحليتها بالفضائل ، وتخليتها من الرذائل ، التزكية التي نرى أمثلتها الرائعة في حياة الصحابة رضوان الله عليهم وإخلاصهم وأخلاقهم ، والتي كانت نتيجتها هذا المجتمع الصالح الفاضل المثالي ، الذي ليس له نظير في التاريخ ، وهذه الحكومة العادلة الراشدة التي لا مثيل لها في العالم” [3] .

ويقول في مكان آخر : ” فكان الأجدر بنا أن نسمى العلم الذي يتكفل بتزكية النفوس وتهذيبها وتحليتها بالفضائل الشرعية وتخليتها عن الرذائل النفسية والخلقية ، ويدعو إلى كمال الإيمان والحصول على درجة الإحسان ، والتخلق بالأخلاق النبوية ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في صفاته الباطنية ، وكيفياته الإيمانية ، كان الأجدر بنا وبالمسلمين أن يسموه ” التزكية ” أو ” الإحسان ” أو ” فقه الباطن ” ، ولو فعلوا ذلك لانحسم الخلاف وزال الشقاق ، وتصالح الفريقان اللذان فرق بينهما المصطلح وباعد بينهما الاستعمال الشائع ، فالتزكية والإحسان وفقه الباطن حقائق شرعية علمية ، ومفاهيم دينية ثابتة من الكتاب والسنة ، يقر بها المسلمون جميعاً ، ولو ترك ” المتصوفون ” الإلحاح على منهاج عملي خاص للوصول إلى هذه الغاية التي نعبر عنها بالتزكية أو الإحسان أو فقه الباطن فالمناهج تتغير وتتطور بحسب الزمان والمكان ، وطبائع الأجيال والظروف المحيطة بها ، وألحوا على ” الغاية ” دون              ” الوسائل ” [4] .

ويقول : إنني لا ألح على منهاج خاص من التزكية درج عليه جيل من أجيال المسلمين ، واشتهر في الزمن الأخير بالتصوف من غير حاجة إلى ذلك ، فقد كان في كلمات الكتاب والسنة ومصطلحاتهما غني عنه ولا أبرئ طائفة ممن تزعم هذه الدعوة واضطلع بها ، من نقص في العلم والتفكير ، أو خطأ في العمل والتطبيق ، ولا أعتقد عصمتها ، فكل يخطئ ويصيب ، ولكن لابد أن نملأ هذا الفراغ الواقع في حياتنا ومجتمعنا ، ونسد هذا المكان الذي كان يشغله الدعاة إلى الله   والربانية ، والمشتغلون بتربية النفوس وتزكيتها وتجديد إيمانها وصلتها بالله ، والدعوة إلى إصلاح الباطن ، والعناية بالفرد قبل المجتمع ” [5] .

تأثير الربانيين في المجتمع :

ويقول عن دور الربانيين  الإصلاحي وتأثيرهم في الهند : ” إن العهد الإسلامي في الهند بدأ بهؤلاء الصوفية ، وخاصة الشيخ معين الدين الأجميري ، الذي أسس الطريقة الجشتية في هذه البلاد على دعائم قوية بجهاده وإخلاصه ، وأقبل عليهم الناس من جميع الطبقات والفئات ، يتنافسون في حبهم وصلتهم بهؤلاء المرشدين رجال الله والدعاة إليه بإخلاص وصدق وأمانة ونزاهة ، وامتدت في طول البلاد وعرضها شبكة من المراكز الروحية حتى لم يبق بلد أو قرية ذات شأن إلا وفيها مركز روحي أو عدة مراكز ” .

ويقول : ” إن الصلة القلبية والروحية وموجة الحب والإجلال التي كانت تغمر الناس وتلفتهم نحو هؤلاء الشيوخ والصوفية ، تتجلى بالأحداث التالية التي نسردها في هذا المكان من غير أن نراعى فيها الترتيب التاريخي .

كان السيد آدم البنوري دفين البقيع ( م 1053هـ ) يأكل على مائدته كل يوم ألف رجل ، ويمشي في ركابه ألوف من الرجال ومئات من العلماء ، ولما دخل السيد لاهور عام ( 1053هـ ) كان في معيته عشرة آلاف من الأشراف والمشايخ وغيرهم حتى أوجس شاهجهان ملك الهند منه خيفةً ، فأرسل إليه بمبلغ من المال ثم قال له : ” قد فرض الله عليك الحج فعليك بالحجاز ” ، فعرف إيعاز الملك وسافر إلى الحرمين حيث مات .

وهذا الشيخ محمد معصوم ( م 1079هـ ) ابن الشيخ الكبير أحمد السرهندي قد بايعه وتاب على يده تسع مأة ألف من الرجال ، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال .

وكتب سيد أحمد خان مؤسس الجامعة الإسلامية في عليكرة في كتابه ” آثار الصناديد ” يذكر الشيخ غلام علي الدهلوي فقال :

” لا يقل عدد المقيمين في هذه الزاوية عن خمس مأة رجل تقوم الزاوية بنفقاتهم ” . وهكذا كان الإقبال على المصلح الكبير السيد أحمد بن عرفان الشهيد ( 1246هـ ) إقبالاً منقطع النظير ، إنه لم يمر ببلدة إلا وتاب عليه وبايعه عدد كبير من الناس ، حتى إن المرضى في مستشفى بنارس أرسلوا إليه يقولون : ” إنا رهائن الفراش وأحلاس الدار فلا نستطيع أن نحضر ، فإن رأى السيد أن يتفضل مرةً حتى نتوب على يديه لفعل ، وذهب السيد وبايعهم ” .

وأقام في كلكته شهرين ، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً ، وتستمر البيعة إلى نصف   الليل ، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً ، فكان يمد سبعاً أو ثمان من العمائم والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله ، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة   مرة .

إن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد    والإخلاص ، واتباع السنة ، والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله ، ويحذرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم والقسوة ويرغبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن الرذائل ( مثل الكبر والحسد والبغضاء والظلم وحب الجاه ) وتزكية النفس وإصلاحها ، ويعلمونهم ذكر الله والنصح لعباده والقناعة والإيثار ” [6] .

ويقول : ” إن تعليم هؤلاء الصوفية ومجالسهم الروحية أنشأت في الناس حب الإنسان على اختلاف الديانات والثقافات والسلالات وخدمته ، وإيصال النفع إليه ، ومشاركته في الهموم والآلام .

كان شعارهم وعملهم بهذا الحديث النبوي : ” الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ” ، كانت قلوبهم فائضةً بالرحمة والمؤاساة للإنسانية كلها ، حدث الشيخ نظام الدين عن نفسه مرةً فقال : يأتيني رجل ويحكي لي قصته ، وفي نفسي من الهم والألم والتوجع لحاله ما لا يجده هو نفسه .

وقال مرةً : لا شيئ أغلى وأحب يوم القيامة من المؤاساة وجبر القلوب المنكسرة وإدخال السرور على أصحابها .

وكانت نتيجة ذلك أن جرحى القلوب والفؤاد كانوا يجدون بلسماً لهمومهم وأحزانهم في هذه الزوايا وملجأً لهم : إن حجر عطفهم وحبهم كانت مفتوحةً لكل من هجره المجتمع أو الأسرة أو تنكر له الحظ ، وأدبرت عنه السعادة ، إن هؤلاء الذين لم يقبلهم أبناء أسرهم ،    والمشايخ ، يعيشون في أحضانهم وفي كنفهم ، ويجدون فيه كل ما افتقدوه من راحة البيت وأنس الأحبة ، ويزور هذه الزوايا كل رجل مهما كان نسبه أو دينه فيجد فيها الإسعاف والرفد ، وخلاصاً من هموم القلب وأحزانه ، وينال فيها الغذاء والدواء ، والحب والعطف والتقدير  والإكرام .

لما أرسل الشيخ نظام الدين شيخه إلى دهلي قال له : ” ستكون كدوحة وارفة الظلال ، يستريح خلق الله في ظلها ” . والتاريخ يشهد بأنه قد استراح في ظله الوارف الوافدون من دهلي ، ومن أنحاء بعيدة سبعين سنة كوامل ” [7] .

لقد كانت هناك بجهود هؤلاء الربانيين أشجار كثيرة وارفة الظلال في مئات من بلاد الهند ، استراحت في ظلها القوافل التائهة والمسافرون المتعبون ، ورجعوا بنشاط جديد وحياة جديدة .

* قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة لكناؤ ، لكناؤ .

[1] كلها أقوال قيلت في معنى التصوف واشتقاقه ، راجع دائرة المعارف ” للبستاني ” وتاريخ آداب اللغة العربية ” لزيدان .

[2] كشف الظنون ، ج 1 ، ص 280 ، نقلاً عن الإمام القشيري .

[3] ربانية لا رهبانية ، ص 11 – 12 .

[4] نفس المصدر ، ص 14 .

[5] نفس المصدر ، ص 19 .

[6] نفس المصدر ، ص 91 .

[7] نفس المصدر ، ص 105 .