رسالة ندوة العلماء والحاجة إليها في العصر الحاضر
يناير 2, 2022إلى المستوى العالي للحياة !
مارس 15, 2022الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
الطريق الواضح نحو الإيمان والعمل !
إذا كان الإنسان أفضل خلق الله تعالى الذي عمَّر به هذا الكون ، وخلع عليه نعمة الإنسانية بجميع أوصافها وتميزاتها ، ولا سيما نعمة العقل المتميز الذي يرشده إلى معرفة نعم هذه الكائنات التي توافق مستواه ، فسيخدم ذلك العقل المتميز فيما خلقه الله سبحانه له من شئون الحياة الإنسانية والاتجاه السليم وعمارة أرض الله تعالى بالتوجه إليه في جميع الأحوال والأوضاع ، وطلب مرضاته في كل عمل ونشاط يرتبط به ، ومن تميزات هذه النعمة التي أُكرم بها دون سائر الخلق ، ومن خلال هذا التميز البشري ونعمة العقل يستطيع كل إنسان أن يتأمل قبل كل شيئ في القوة الخارقة التي خلق السماوات والأرض والليل والنهار ، وجعل الظلمات والنور ، ذلك لكي يتعرف حق حياته بإزاء حقوق الطاعات الكاملة والخضوع الشامل ، وإزاء الحياة الإنسانية التي يتمتع بها بأمر من ربه تعالى الذي أشار إلى هذا الواقع الأصيل في آخر ما أكرم به من دين ، وأشرف كتاب أنزله على خاتم الرسل والأنبياء فقال : ( إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَـاۤيَاتٍ لِّـأُوْلِى ٱلأَلْبَابِ . ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
إن نظرة واحدة على حياة أفضل الخلق ونشاطاته اليوم تؤكد أن ما أراده الخلاَّق العظيم رب السماوات والأرض والليل والنهار هو أن لا يتغافل عن الهدف الذي توخاه رب العالمين من خلال أفضل الخلق الذي عمّر به العالم بجميع أجزائه وقطاعاته من الأرض والسماء والبحار والجبال وبناء الكون بكامل أدواره الذي يفتح علينا أبواب الوحدانية والربوبية ويمهد لنا الطريق نحو الاتصال بالله تعالى في كل زمان ومكان والإقبال عليه في جميع الشئون البشرية والكونية ، إلا أن أمة الإسلام التي هي آخر الأمم والشعوب تغافلت عن الهدف الأساسي الذي لا يساويه شيئ في هذا الكون ، وانصرفت إلى أمور لا تمتُّ إلى أي جزء من تلك الغاية السامية التي أرادها الله سبحانه من خلق الناس في الصور العملية الحقيقية التي صرح بها في كتابه الأخير الذي أنزله كدستور عظيم وقاعدة جليلة على المستوى العالمي يستمر إلى يوم القيامة ، وذلك ما قد بيَّنه في غاية من الوضوح قائلاً في كتابه : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) .
ومن هنا نستطيع أن نتأكد أن الإنسان لم يُخلق في هذا العالم البشري إلا ليتقرب إلى ربه عن طريق التقوى ، وتقوى الله تعالى هي الخشية والخوف منه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ” لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ” ( رواه أحمد في مسنده ) .
إذن فإن العزة البشرية لا ينالها المرء بالحسب والنسب ، ولا بالحسن والجمال ، والفقر والغنى ، إنما يملكها بجوهرة التقوى التي يثمرها الحب الخالص لرب الخلق والأمر ، وبتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم التي درسها المجتمع البشري ونزل إلى أغوارها المعنوية التي ليست إلا في السيرة النبوية التي عاشها الصحابة الكرام ثم قلدها أتباع الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان من القرون الأولى وهي مستمرة إلى يوم القيامة عن طريق الأمة الإسلامية التي عاشت جيلاً بعد جيل .
أما إذا كان وجود الإنسان في هذا العالم البشري لمجرد نوع خاص من خلق الله تعالى الذي يتمتع بالعقل والشعور فحسب بإزاء المخلوقات فلا يتحقق الغرض الذي ربط به الإنسان وأكرمه بالسمع والبصر ( إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً . إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً ) .
وبقليل من التأمل الواعي يتبين الفرق بغاية من الوضوح بين الإنسان والإنسان ، فالأول من زمرة الصالحين والمتصلين بالمنعم الحقيقي الذي خلع عليه لبسة الإنسانية وأكرمه بالشكر الدائم المستمر على أدائه ضريبة هذه النعمة التي لا تساويها نعمة ، وهي ميزة الشرف والكرامة التي لا يأتيها الباطل في أي لحظة ، لا من خلفه ولا بإزاء حسنه وجماله ولا من عقله وذكائه ، ولا من واسطة تمييزه للنفع والضر ، إنما هي لمعة الإيمان والخضوع أمام تلك النعم العظيمة التي تتجلى في كل جزء من حياته المتصلة بالخالق العظيم .
ومن هنا يتراءى لنا أن نعمة الإنسانية أساس لجميع الموجودات المخلوقة في هذا العالم المادي ، كأن الله تعالى جمعها في الأرض لكي يعيش فيها الإنسان قبل كل مخلوق بالتميز البشري من العقل المتميز والمدارك العالية ويتعرف من خلال ذلك أن المسئولية التي حمّلها عليه لا يكاد يحملها أي شيئ من المخلوقات الأخرى مهما كانت عظيمةً وواسعةً أو كانت مما يتخوف به الإنسان على نفسه ، ذاك أن القوة الإيمانية الأصيلة التي يملكها تتغلب على كل طاقة مادية من الحكم والمال والعزة والجمال ، ذاك أن قوة الإيمان فوق كل طاقة بشرية وتميزات مادية يملكها الإنسان موقتاً من رب العالمين لمجرد الامتحان لهذا الجنس البشري ، ومن ثم نرى أن المحرومين نعمة الإيمان بالله ورسوله لا تطمئن قلوبهم في أي حال ، وهم يعيشون حياةً قلقةً ذات اضطراب منوع في جميع أوقات ليلهم ونهارهم ، وقد تمثل ذلك في حياة كبار الملوك وعظام العالم البشري ، تملأ حياتهم صفحات التاريخ بأحداث شداد لم يتمكنوا من مقاومتها وفارقوا العالم في أسوء حال من القلق والاضطراب وأنواع من الشقاء والعذاب ، ولم تغن عنهم قواهم المادية من الرعية والجيش وكنوز الأموال ، ومجتمعات القوة والعزة والوفاء وما إلى ذلك .
إذن لا مناص من الإيمان الخالص بالله ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وفي ظل الإيمان الظلال نلتجئ وندرس الحياة الإيمانية التي عاشها التاريخ الإسلامي الأول ، وبفضل ذلك التاريخ الإسلامي الذي درسه المسلمون في العهد الأول وعاشوه رأى العالم البشري والعائشون في السعادة الإيمانية التي طبقوها على أنفسهم وقاموا بتربية الأجيال على نفس تلك السعادة الإيمانية التي استحق بها المؤمنون نعم الدنيا وهي الأعمال الإيمانية ودعوة الناس إليها بكل إخلاص واعتقاد إيماني ، يقول الله تعالى : ( إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ . وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ) .
فما أحوجنا إلى بضاعة الإيمان والاستقامة التي تمهد لنا الطريق نحو استعمال القوى بكاملها لنشر الدعوة الخالصة إلى الإيمان وصالح الأعمال وإلى الإخلاص الكامل لله ولرسوله ، والإيمان بكتابه وتعاليم دينه ، فذلك هو الطريق الأصيل إلى مرضاة الله تبارك وتعالى ، ليس غير .
سعيد الأعظمي الندوي
11/5/1443هـ