(1) الشيخ محمد عباس الندوي المدني إلى رحمة الله تعالى
يوليو 11, 2022ميزان الله عصمة من الضياع
أغسطس 28, 2022التوجيه الإسلامي :
الصراع بين الحق والباطل
في ضوء سورة الكهف : دراسة عامة
( الحلقة الأولى )
بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
فضائل سورة الكهف :
وردت فضائل سورة الكهف في الحديث النبوي ، وهي تشير إلى تلاوتها يوم الجمعة بكل اهتمام ، قال صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق ( سنن الدارمي ، كتاب فضائل القرآن ، باب في فضل سورة الكهف : 3470 ) ، وجاء في حديث آخر أن سورة الكهف تعصم الإنسان من فتنة الدجال ، قال صلى الله عليه وسلم : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ( صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل سورة الكهف : 1919 ) .
بين الكهف والغار :
الكهف مكان متسع للسكن ، ومفتوح في الجبل ، بحيث يسكن فيه الإنسان ، وبنيت فيه حجرة يعرف بالكهف ، أما الفجوة الغائرة غير المنتظمة التي تكون في الجبل ، يستظل منها الإنسان ، ويأوي إليها وقت الحاجة ، تعرف بالغار ، ويكون الطريق إلى هذا الغار معوجاً ، ولا يكون مستقيماً ، لأن الجبل تكثر فيه الوهاد والنجاد ، وتكون فيه مغارات ومدخلات ، ومن هذا القبيل غار ثور وغار حراء في مكة المكرمة .
غاية قصص القرآن :
لم تُذكر قصص القرآن الكريم للاطلاع على شيئ جديد ، ولنبأ خارق أو كأسطورة من الأساطير ، بل لها علاقة وطيدة بالحياة الإنسانية ، علاقة لا تتقيد بوقت محدود ، بل تتسع هذه العلاقة إلى آخر حياة الإنسان ، وتكون هذه القصص مثالاً له إلى الموت ، ويمكن أن تعود مثل هذه الظروف في كل زمن بعد قصة أصحاب الكهف ، فيستنير الإنسان فيها قبسات من هذه السورة ، لأنه يمر بأحوال مضادة في حياته ، تارةً بالسراء ، وأخرى بالضراء ، فأمثال هذه القصص تهدي الإنسان إلى المنهج القويم في الحياة الإنسانية .
حكمة قصص سورة الكهف :
كانت قصة أصحاب الكهف عند اليهود أكثر شهرةً ، وذلك بأسلوب خاص ، وقد حرَّض اليهود مشركي مكة لاختبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن يسألوه عن أصحاب الكهف ، وكان اليهود يعرفون أن محمداً أمي ، فيكون غافلاً عن هذه القصة ، وإذا سأله المشركون فلا يمكن أن يجيب عنها ، فيفتضح أمام الناس ، لكن الله تعالى ذكر في هذه السورة قصة أصحاب الكهف بكاملها ، فحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامهم ، إن قصة أصحاب الكهف فارق بين المادية والروح ، ذكر الله فيها قصة جماعة ، استماتت في سبيل الله تعالى ، وتركت وطنها واختفت بالغار ، صيانةً لإيمانها وعقيدتها .
وردت في هذه السورة قصص أخرى ، منها قصة أصحاب الكهف ، وقصة موسى والخضر عليهما السلام ، وقصة ذي القرنين ، وقصة صاحب الجنتين ، ولم يكن من وراء هذه القصص غرض إلا ليعرف الإنسان الفرق بين الأسباب ومسبب الأسباب ، وبين الغاية والوسائل ، جعل الله تعالى في هذه الدنيا نظاماً تكوينياً ، فكما أن الماء يسيل إلى أسفل مكان لا إلى أعلاه ، كذلك يجري نظام العالم تحت حكمة إلهية ، ويُخيل أحياناً إلى الإنسان أن التدبير هو الأصل وراء هذا النظام ، وليس أمامه حقيقة ظاهرة ، هذا ما كشفه الله في هذه السورة ، وفي هذه السورة وردت قصص تدل على أن الله يغير شيئاً في نظام العالم ، عبرةً لأولي الأبصار ، وتكون وراء هذا التغير غاية دينية ، ليعلم الإنسان أن الله تعالى يغير في نظام الدنيا لمصلحة دينية .
كان صاحب الجنتين في هذه السورة يبخل بماله ، ولا يعطي الفقراء حقوقهم ، فطاف على جنته طائف من السماء وأحيط بثمرها ، ولا شك أن الله يذيق عباده العصاة من العذاب الأدنى قبل العذاب الأكبر ، ويكون معنى العذاب عقاباً ، أو أذىً ، فتهدف بعض الأزمات في الدنيا للاتعاظ وإيقاظ الناس من غفلتهم ، فينبه الله الإنسان على اختياره طريق الضلال ، ويجعل له نظاماً تكوينياً ، فمثلاً يكون الإنسان بعض الأحيان مريضاً ، أو مبتلاً بحوادث فيكون من ورائها التنبيه والزجر من معاصيه ، وقد كان عقاب صاحب الجنتين من إهلاك حرثه ليتوب إلى الله تعالى ، ويتأسف على ما فعل .
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصصاً خارقةً للعادة ، وليس لأي إنسان قدرة فيها ، ويتفكر الإنسان أيضاً فيها فيتضح منها ضعفه واستكانته ، وأن الله قادر مقدر لها قبل وقوعها ، فأحياناً ينزل أشياء ، ويجعل الإنسان يعمل فيها بوسائله ، فيكون حيراناً ، ذلك ليعلم أن كل شيئ بيد الله تعالى ، ويفعل ما يشاء .
قصص سورة الكهف تشتمل على ظواهر الحياة الإنسانية :
إن قصص سورة الكهف تحيط بجميع مراحل الحياة الإنسانية ، وهذه المراحل في حاجة إلى الإيمان بالله تعالى ، وتوجد في هذه السورة من القرآن الكريم قصص ونماذج لها ، فكان موضوعها الصراع بين الإيمان والمادية ، ما هو الإيمان ؟ وما هي المادية ؟ وجَّه القرآن الإنسان في هذه السورة إلى كيفية خروجه من أوحال المادية ، وكيف يتحلى بحلي الإيمان ويعيش حياته بهدوء وطمأنينة .
ترجع قصة أصحاب الكهف إلى زمن كان فيه للمشركين جولة وصولة ، وساد الشرك كل مكان ، ففي هذه الأحوال قام فتية آمنوا بشريعة عيسى عليه السلام ، وواجهوا الظلم والاضطهاد بسبب هذا الإيمان ، وقد أووا إلى غار ، وناموا فيه ، فسلط الله عليهم النوم إلى ثلاث مأة سنة ، ولما استيقظوا لم يقدروا مدة نومهم ، بل شعروا بأنهم ناموا كثيراً ، فسأل بعضهم بعضاً : كم نمتم ؟ فقال أحدهم : نمنا ساعةً ، ثم قالوا : نشعر بالجوع ، فماذا نفعل ؟ فأعدوا رجلاً لأخذ الطعام من السوق ، وأعطوه ورقاً ، وقالوا له أن يخفي أمرهم ، ولا يذهب إلى مكان يعرفهم سكانه ، وإلا يأخذونهم لأنهم خرجوا من مناطقهم خفيةً ، ويطلعون الآن على أننا فررنا منهم ، وإذا عرفوك حبسونا وعاقبونا عقاباً شديداً ، فاذهب إلى السوق سراً ، وهات بالطعام ، فذهب ذلك الرجل إلى دكان ، وأخذ الطعام ، ثم دفع إلى البائع ورقه ، وكان هذا الورق من قديم الزمان ، وكانت لهجة كلام المشتري أيضاً مختلفةً ، فانتشر هذا الخبر ، فإن سكان هذه البلاد سُرُّوا باكتشاف هؤلاء الفتية ، وقالوا : كنا نسمع من آبائنا وأجدادنا أن فتية منا قد غابوا فراراً بدينهم ، وذهبوا إلى مناطق شاسعة ، لا شك أن هؤلاء هم الفتية ، فثارت ضجة كبرى ، وأحاطهم الناس من كل جانب ، وقد تبدلت الآن الحكومة المشركة ، وتاب الناس من الشرك ، ودخلوا في الإسلام ، وفرحوا من وجودهم فرحاً كثيراً ، وقرروا أن يبنوا مسجداً قريباً من كهفهم تذكاراً لهم .
أثبت الله تعالى من هذه القصة أن الدنيا وإن كانت خاضعةً للأسباب ، لكن يأتي الله أحياناً بتدبير ديني بدلاً من تدبير دنيوي ، كما هو قادر على كل شيئ بدون تدبير وحكمة ، سلط الله تعالى النوم على أصحاب الكهف في زمن الكفر والشرك ، وأيقظهم في زمن الإسلام ، وما زالوا نائمين إلى ثلاث مأة سنة ، وما ماتوا ، فيدل هذا على أن الله يبعث الموتي ، ويحييهم مرةً ثانيةً ، وكان أصحاب الكهف في زمن عيسى عليه السلام ، فأشار الله بهذا إلى أن دين عيسى كان حقاً ، لكن أتباعه غيروا فيه ما غيروا ، واعتبروا عيسى عليه السلام ابن الله بدلاً من أن يؤمنوا به رسولاً ونبياً .
أصحاب الكهف :
أول ما ذكر الله تعالى في هذه السورة قصة أصحاب الكهف ، الذي تفانوا بكل شيئ في سبيل الدين والعقيدة ، وقاوموا كل نوع من التحديات ، فكان جزاؤهم من عند الله تعالى أولاً أنه حفظهم ورعاهم من كل مكروه ، وثانياً أراد الله تعالى أن يعرف الناس هذه الحقيقة : أن كل من يستميت في سبيل الله جعل الله له قبولاً في الدنيا والآخرة ، وقد جعلهم الله في نوم إلى ثلاث مأة سنة ، يحسبهم الناظر يقظين ، لكنهم كانوا نائمين ، وعندما هبوا من نومهم فكانت هناك سلطة للمؤمنين ، وتغير ت الأحوال ، فأكرمهم الناس إكراماً ، وجعل الله أصحاب الكهف مثالاً ، وخلد ذكرهم في القرآن الكريم ، ليعلم المسلمون وغيرهم أن كل من كان لله كان الله له ، وأكرمهم بالجزاء الأوفى وإن كان ذلك على سبيل المعجزة ، وكان من آية الله تعالى أنهم ناموا مدة ثلاث مأة سنة ، بدون غذاء وطعام ، ولم تأكل الأرض أجسامهم ، ولم تتأثر بها ، فقدر الله لهم غذاءً روحياً من عنده ، بحيث كانت أجسامهم مصونةً ، وكانوا مأمونين من كل خطر ، مما يستفاد من هذه القصة أن من كان لله أيده الله بنصره .
إن الله تعالى لم يترك العالم سدى ، ولم يخلقه عبثاً ، بل يدبر أمره فيه ، وينفذ قانونه ، وقد جعل الله تعالى نظام العالم للابتلاء والامتحان ذاك أن كل شيئ يكون فيه بالوسائل والذرائع ، وإذا كان الأمر بالعكس لم يكن للإنسان فيه عصيان وكفران ، وكان الإنسان مسيراً لا مخيراً ، وأحياناً يميز الله تعالى بين نظام الوسائل وبين أمره مباشرةً ، ليتضح أن الوسائل ليست هي الأصل ، بل المالك الحقيقي هو الله الواحد القهار .
دروس مستفادة من قصة أصحاب الكهف :
ترشدنا قصة أصحاب الكهف إلى أن الإسلام دين ناسخ للأديان ، لا يبقى معه دين ولا شريعة ، فإذا كان الوضع خطيراً كان من اللازم أن يستعد الإنسان للمجازفة بحياته ، ويستيقن بتغير الأحوال من الله تعالى ، ويعتقد أيضاً أن كل من كان طموحاً ، ذا همة عالية ، ظهرت نتائج عمله حسنة ، كما أشار الله إلى ذلك وهو يرفع شأن المؤمنين قال : وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( آل عمران : 139 ) .
أراد الملك المشرك أن يجبر أصحاب الكهف على الانصباغ بصبغته الشركية ، وإلا جعل لهم نكالاً شديداً ، لكن أصحاب الكهف ثبتوا على إيمانهم كالجبال الراسيات ، وقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ، لن نشرك بربنا أحداً ، وأعلنوا بكل قوة : لن نساوم الكفر والشرك ، ولا نصاحب المشركين ، ونحن مستعدون لذلك بكل نوع من التضحيات ، فتنازلوا عن كل راحة ومتاع ، وأووا إلى الغار ، فأكرمهم الله تعالى بجزاء أكبر ، وجعلهم من معجزاته الكبرى ، وحينما استيقظوا من نومهم كانت رياح الإيمان تهب ، ورايات الإسلام ترفرف في كل مكان .
تدل قصة أصحاب الكهف على قدرة الله الكاملة ، فهو قادر على كل شيئ في دقائق وثوان ، وإذا قارنا بين أوضاع بلادهم حينما أووا إلى الغار ، وبين الأوضاع حينما هبوا من نومهم عرفنا أن الأحوال تغيرت بمشيئة الله تعالى ، وقد أثبت الله بهذه القصة أمام الناس أن الله هو المؤثر الحقيقي في قلب الأوضاع ، وقد أحيا الله أصحاب الكهف إلى مدة طويلة ليتكشف هذا الواقع أمامهم وأمام عامة الناس ، وإلا يمكن أن يقبض الله أرواحهم حال نومهم ، وكان سبب نجاتهم في الآخرة أنهم آمنوا بالله عز وجل . ( للحديث صلة )