أسلوب الإمام الندوي في كتابة المقالات وميزاتها
أبريل 27, 2024دور النساء في تطوير الشعر العربي : الخنساء نموذجاً
مايو 4, 2024دراسات وأبحاث :
الرصيد البلاغـي للأحاديث النبوية
د . جمال الدين الفاروقي
ويناد – كيرلا
العربية هي اللغة الوحيدة التي تحمل تراث القـرون وعلومها ، وثقافة الأجيال وحضارتهم ، وتاريخ الشعوب وأخبارهم ، كما أنها هي الوحيدة من بين اللغات السامية الأكثر بقاءً على ظهر الأرض ، لأنها بقيتْ وقويَت وقامت على ساقيها في مـقرّ الثقافات السامية بعد أن اندرست آثار اللغات الأخرى مثل الكلدانية والأشورية والفينيقية . أما العبرية ، ومعها السريانية رغم كونها لغة العهد القديم والجديد ، إلا أن التوفيق الإلهي للبقاء والنماء ما رافقهما بقدر ما نالها العربية التي يتمثل بقاؤها وأبديتها في الضمان الإلهي للقـرآن الكريم ،المشار إليه في الآية ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] ، وما دام القـرآن يَبقـى ويُتلى على الأرض ، فالعربية معه يبقى ويستمرّ . وكانت العربية من أهمّ عوامل البناء الثقافي والحضاري في العالم عبر القرون ، كما أنها تتمثل اللبنة الأساسية في ترقية الأمم علميّاً وفكريّاً ، وقامت خازنةً للعلوم في القرون الوسطى حين كانت أوروبا في دياجير ظلمات الجهل .
وهناك عناصر – مثل اللغات الأخرى – تساهم في هيكل العربية ، مثل علم الأصوات وعلم النحو وعلم الصرف وعلم الدلالة وعلم العروض . وكل منها يقوم بدورها في صياغة هويّة اللغة وبلورة تصميمها من حيث الإعراب والاشتقاق والتناسب السياقي والقرض . أما علم البلاغة الذي تصبو إليه هذه المقالة ، فإنه يضفي عليها جمال التعبير ويجعلها في روعة البيان ورونق الخطاب ما يؤثر في القلوب ويصنع فيها الأعاجيب . والهدف من البلاغة أن نجعل الكلام مطابقاً لمقتضى المقام والأحوال ، وأكثر بكثير من سائر اللغات تتميز العربية بعدة خاصيات في هذا المجال . يتوقف ذلك على طبيعة المتكلم والمخاطب .
الخلفية البلاغية للحديث النبوي :
والقـرآن كان ولا يزال المصدر الدائم لإرساء القواعد البلاغية العربية ، لأنه كلام الله ويليه الأحاديث التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان كلامه مدعَماً بالوحي الإلهي الذي له قدسيته ونزاهته ، وقد اختاره الله لتبليغ رسالته من المجتمع الأكثر فصاحةً والأحسن بياناً ، والرسول بنفسه يشير إلى هذه الظروف المواتية وراء صقل لسانه وملاسة كلامه ، وهو يقول : ” إنّ الله اصْطفى كِنانَة من وَلد إسمعيل ، واصْطفَى قُريشاً من كِنانة ، واصطفَى من قُريش بَني هَاشم ، واصْطفَاني مِن بني هَاشم ” ، والقبائل التي احتضنته منذ ولادته مثل بني هاشم حيث وُلد الرسول ، وبني زهرة حيث كان أخواله ، وبني سعد حيث كانت رضاعته وقبيلة قريش التي فيها نشأ وبني أسد التي منها تزوّج ، وبني عمرو الذين هاجر إليهم ، كلّهم من أفصح قبائل الجزيرة العربية ، مما جعله عليه السلام يقول : ” أنا أفصَح العَرب بيد أني من قريش ، ونشأت في بني سعد بن بكر ” ، وعليه يمكن القول إن الحديث النبوي سيبقى بإذن الله ذخيرةً خالدةً لعلم البلاغة والبيان .
وانتماء الرسول إلى هذه الأنساب ذات الجذور العريقة في البيان يكفينا دليلاً على طابع الفصاحة وروعتها التي تميّز بها كلامه . وقد قام بدوره والداً وزوجاً وراعياً وقاضياً وقائداً ومعلماً ومتعلّماً ومربياً وخطيباً وحاكماً ، واستطاع تسجيل بصماته البلاغية في كل هذه المجالات . وكانت المفردات التي استعملها الرسول ذات جزالة وحصافة مع الوضوح في الدلالة رائعةً من جانب البيان ، وهي كفيلة بفتح القلوب المغلقة بتأثيرها الدائم ، كما أنها بعيدة عن التكلف المملّ ، حافظةً على الأساليب التي تلمس شغاف القلوب وخالية من الصناعات الزخرفية . ولا يكلّف السامع أدنى صعوبة للوقوف على معناها ومغزاها . وقد كان الرسول مُوفّقاً من الله بجوامع الكلم القائمة على الإيجاز المعجب ذات الوحدة الموضوعية مجنّباً التنافر والرعونة التي تصكّ الأسماع وتمجّ الأذواق ، يلفت نظر السامعين في الوقت الواحد إلى روعة الكلام وما يشمله من المتطلبات الإيمانية والقيم الأخلاقية .
وقد ورد في ” البيان والتبيين ” ما ذكره الجاحظ من خاصيّات الحديث النبوي من حيث البلاغة ، وهو يقول : ” وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه ، وكثر عدد معانيه ، وجلّ عن الصنعة ، ونزه عن التكلّف … كلام ألقى الله عليه المحبة ، وغشاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام ” . والله يقول لرسوله : ( وَقُل لَّهُمْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) ، وروح هذه الآية متمثلة في أقواله صلى الله عليه وسلم . والمخاطبون أمامه منهم المؤمنون والمنكرون والمتشككون ، إلا أن هؤلاء وأولئك تأثروا بسحر كلامه البياني ، فأما المؤمنون فزادهم إيماناً وتسليماً ، بينما كان المنكرون والملحدون فما زادهم إلا التمرد والتعنت .
المحطات البلاغية في الحديث النبوي :
والعرض النبوي في مختلف الأحوال متميز للغاية . وقد عمد الرسول صلى الله عليه وسلم في خطابه مع الناس إلى كل أنواع التواصل : الحوار والقصة والحكاية والخطابة والرسالـة . مما صار كلامه محلّ اهتمام لدى من يشتغل بالبلاغة العربية .
ومنها الصورة الإشارية التي تعتبر الأكثر شيوعاً من بين أساليب التواصل . وهي من التعبير غير اللفظي الذي يعتمد عليه المتكلم للوصول إلى ذهـن المخاطب ، ولغة الإشارة واحدة لدى الجميع مفهومة على حدّ سواء ، وهي جزءٌ من التواصل الجسدي ( Body Language ) . والإشارة علامات يلجأ إليها المتكلم حسب الحاجـة ، وهي تتمثل في تعبيرات الوجه واليدين وحركات العينين ، مما سيجعل المخاطب أكثرَ تجاوباً وأقدرَ تفاعُلاً في مختلف الأحوال . وغالباً يكون التعبير الإشاري داعماً للتعبير اللفظي ، بل يكون الأول أبلغ في النفوس . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ” أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة : وأشار بالسبابة والوسطى ، وفرَّج بينهما شيئاً ” .
العلاقة الروحية والقلبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم يجسّدها هذا الحديث في أروع صور العرض ، والإشارة باليدين للتعبير عن هذا المفهوم أكثر وضوحاً ، إذ ينقش ذلك المنظر فوراً في أذهان المخاطبين مما لا يمحى ولو مضى عليه زمان ، والإشارة تستحضر الصورة الذهنية لعلاقة القرب بالنبي صلى الله عليه وسلم في الجنّة ، كما أنه عليه السلام من خلال هذا التواصل الإشاري حقّق غايةً تعليميّةً كبرى ، ورغم ما مضت آلاف السنين على هذا التعبير النبوي لم ينهض أحد في العالم بتعريف رمزي ليمثل كفالة الأيتام ومسح دموعهم أجمل من هذا الخطاب الإشاري النبوي .
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم : ” المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وشبك أصابعه ” .
والحديث يشمَل أروع معاني التكافل الاجتماعي ، ولا يتمّ ذلك إلا بالتماسك والتضامن بين الأفراد . وقد صمّم الله أصابع اليدين لتكون دلالةً قويّةً على هذا التماسك ، وحين شبّك الرسول يديه أراد أن يُجسّد المعنى ويثبّته في أذهان السامعين بحيث لا ينسوْنه . واليدُ في مقدّمة الصور الإشارية ، إذ يستطيع المتكلم أن يثير السامعين أو يُرجعهم إلى السكوت والصمت بمجرّد الإشارة بيده ، والهدف من هذا التعليم الإشاري الحث على إيجاد الحبّ والوفاء وترسيخ روح الوحدة والجماعة وإقلاع جذور الأثرة والأنانية . كما يوحي إلينا هذا التعبير أن لا بقاء لأحدٍ مهما كانت درجاته المهنية وقدراته العلمية ، إلا في إطار الجماعة في هيكله البنائي المتماسك .
بلاغـة الإيقـاع الصوتي :
إن مما يتميز به أقوال الرسول الإيقاع الصوتي الذي يولّد الأنغام الرائعة ذات الأثر الكبير في النفوس ، ومع ذلك وهي تحتوي على المعاني ذات الخطاب العميق التي تلمس الوجدان . والإيقاع الصوتي نجده في المحسّنات اللفظية التي عمد إليها الرسول ، والترابط اللفظي والتماسك المعنوي يجعل المخاطب ينساق تلقائياً إلى فهم الدلالة منه . ومن هذا القبيل ما أثر عنه من الدعوات :
” اللهم إني أسلمتُ وجهي إليك ، وفوّضتُ أمري إليك وألجَأتُ ظهري إليكَ ، رغبةً ورهبةً إليكَ ، لا ملجأ ولا منجَى منك إلا إليك ، اللهمّ آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ ، وبنبيّك الذي أرسلتَ ” .
وهذا الدعاء مما يلتزم به المسلم قبل أن يأوي إلى فراشه ، واختار الرسول له ما يناسب جوّ الليل الهادئ الساكن ، حيث يتفرغ المسلم من ارتباطاته اليومية ويتخلّص من قلقها وتعبها راجياً الراحة النفسية من المولى القدير ، الذي من أجله تقوم كلمات الحديث ناطقةً بذاتها بالمفهوم المقصود . وقد تنوّعت فواصله في الحديث ما بين الكاف والتاء وفقاً للمعنى والسياق ، والإيقاع الختامي في كل فاصلة يتمثل في ” إليك ” ، لتلمس أثره في النغم الموسيقي الذي ينساب إلى النفس في لطف وخفة .
كما استخدم صلى الله عليه وسلم من الألفاظ ما كان أشدّ وقعاً وأنسب سياقاً للتواصل . ومن هذا القبيل : كلمة ” يأرز ” ، جاء ذلك في الحديث : ” إن الإيمان ليأرِزُ إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها ” .
والأرز يُراد به أن تَدخل الحيّة جُحرها على ذنَبها ، فآخر ما يبقـى منها رأسها ، مع أن طبيعة الحية حين تدخل الجُحر أن تبدأ برأسها ، والأرز يحدث في شأن الحية إذا خافت من عدوّها . وكذلك الإيمان حين يُضيّعه أهله ولم يكد يبقـى على الأرض من يرعاه ويحتضنه ، يرجع إلى المدينة آوياً ولاجئاً إليها . والإيمان في هذه الظروف أشبه شيئ بحيّة مذعورة ، والحديث إذاً فيه استعارة تصريحية تبعية ، والإيمان في هذا السياق جاء في باب المجاز المرسل لعلاقة الحالية فيه .
وكذلك كلمة ” يتغمّدنـي ” التي جاءت في الحديث : ” لن ينجي أحداً منكم عملُه ، قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال . ولا أنا ، إلا أن يتغمّدنيَ الله منه برحمته ” .
غمد السيف معناه أدخله في الغمد ، وتغمّده الله برحمته ، غمده فيها وغمره بها ، والمفهوم المجازي للكلمة يتمثل في إحاطة الله بعبده برحمته ورعايته من كل جانب ، كما أن الغمد يحفظ السيف من الصدأ ، كذلك إن رحمة الله ورعايته تحفظ المرء من السوء والمكروهات .
كلمة ” تحريش ” كما جاء ذلك في الحديث : ” إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم ” .
والتحريش يستعمل في اللغة لإغراء الأسد والطيور والحصان للإيقاع بقـرنه والتضارب بينهما ، وقد وردت هذه الكلمة للدلالة على التحريش بين الكلاب الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أفسد وأغرى بعضهم بعضاً . والتحريش هو الإغراء بين القوم وحملهم على الفتن والحروب .
النذير العريان :
جاء في الحديث قوله : ” إنما مَثلي ومثل ما بَعثني الله به كَمثل رجُل أتى قوماً ، فقال : يا قَوم ! إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم وصبَّحهم الجيش فأهلكهم ، واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ” .
جملة ” النذير العريان ” الواردة في الحديث اقتبسها الرسول من حادثة قد مضت ، وذلك أنه كان هناك رجلٌ يسمى الزبير بن عمرو الذي تزوّج من قبيلة بني زبيد ، وأرادت قبيلة زوجته أن تغير على قبيلة خثعم ، مما جعل بني زبيد يلقونه في الأغلال خوفاً من تفشي سرّهم ، ولكنه نجا منهم وأخبر قومه بغرض قبيلة زوجته قائلاً :
أنا المنذر العريـان ينبذ ثوبــه إذا الصدق لا ينبذ لك الثوب كاذب
حتى صار ذلك مضرب مثل ، وعمد الرسول إلى هذا المثل ليبين لقومه خطورة رسالته وصدق تبليغه ، ولهذا السياق بيان آخر كما أشار إليه ابن منظور : وخصّ العريان لأنه أبين للعين وأغرب وأشنع عند المبصر ، وذلك أن ربيئة القوم وعينهم يكون على مكان عال ، فإذا رأى العدوّ وقد أقبل ونزع ثوبه وألاح به ، وهذه الروعة التركيبية جاءت من خلال الاستعارة التمثيلية .
القيمة البلاغية في دلالة الألفاظ :
اعتنى الرسول صلى الله عليه وسلم باستعمال الكلمات ذات الدلالة المناسبة لكل سياق . ومن ذلك قوله : ” عتق نسمة وفك رقبة ” جاء ذلك في كلامه مع رجل سأله : يا رسول الله ! ” دُلّنى على عملٍ يقرّبني إلى الجنّة ويباعدني من النار ، قال : ” لئن كنتَ أقصَرتَ الخطبة لقدْ أعرضتَ المسألة : ” أعْتقْ النسمَة وفُكَّ الرقبة ” ، قال : أو ليسَا واحداً ؟ قال : لا ” عِتق النسمة أن تفرَّد بعتقها ، وفكُّ الرقبة أن تُعين في ثمنها ” .
ونبينا الكريم يخبرنا باهتمامه بعلم الدلالة ، الذي يخفى على الكثير ، والكلمات قد تكون متماثلةً في المفهوم ، إلا أن دلالة كل واحد منها تتغير . والحديث يُجسّد حرص الرسول على استعمال الدلالة الصحيحة في كل سياق الكلام . وهو في هذا المقام يوضّح أدنى فرق بين الكلمتين ، عتق وفك : مع أنهما كلمتان متماثلتان في اللغة . والعتق لا يحصل إلا بكمال المال الذي نخصّصُه للعبيد ، بينما يمكن الفكّ بمساهمة في تحريره ولو بقليل .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” لا يقولنّ أحدكم خبثتْ نفسي ، ولكن ليقل لقِسَتْ نفْسـي ” ، والرسول استعمل هنا كلمةً أقلّ حرجاً في الملامة الذاتية . ويقول العلامة الطيبي في شرح الحديث : لقست أي غثت ، واللقس الغثيان ، وإنما كره الرسول ” خبثت ” تجنباً للفظ الخبث الذي هو أشد بشاعةً وقباحةً ، والمسلم إذا زلّ وأخطأ فإنه فوراً يعروه الشعور بالإثم ، ويندم عليه ويلوم نفسه ، إلا أن الرسول يرشده لئلا يلوم نفسه كثيراً في مثل هذه الأحوال ، وعليه الرفق بذاته ، واختار من الكلمتين ما يوحي إلينا دلالة الرفق واللطف .
وصفوة القول أن العربية في غابرها وحاضرها فاز بقسط وافـر من أدب الحديث النبوي الشريف ، الذي يحتوي على ذخيرة لغوية ثمينة مما يجعل أدب الحديث مجال دراسة جدية لاستخراج عناصره البلاغية . والرسول إذاً عمِل مبلغاً لرسالة الله مربّياً الأجيال على وضاءة القيم والأخلاق ومدرّباً على وسامة اللغة وروائها .