الحنين إلى الوطن في شعر المهجر الأمريكي

النواحي البلاغية المتنوعة في كتب ابن القيم ( رحمه الله تعالى )
ديسمبر 4, 2021
العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي : نابغة الدهر وعبقري الزمان ( الحلقة الأولى )
يناير 2, 2022
النواحي البلاغية المتنوعة في كتب ابن القيم ( رحمه الله تعالى )
ديسمبر 4, 2021
العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي : نابغة الدهر وعبقري الزمان ( الحلقة الأولى )
يناير 2, 2022

في رياض الشعر والأدب :

الحنين إلى الوطن في شعر المهجر الأمريكي

الدكتور محمد طارق *

توطئة :

إن الحنين إلى الوطن قديم في الشعر العربي ، فنجده منذ العصر الجاهلي إذ كانت تدور حياة العرب من مكان إلى مكان آخر فيقف شعر الجاهلية على الأطلال ولامية العرب وهي تمثل خير تمثيل لموضوع الهجرة في الشعر العربي . واشتهرت قصيدة مالك بن الريب ، التي رثى فيها نفسه حين ألم به الموت في خراسان . تارةً يبكى الشعراء على منازل الحبيبة ، وتارةً يهيج الحمام أشواقهم وقد تهيجه الصَّبا ، وأشعار هؤلاء المهاجرين تدل على أنهم لم ينسوا وطنهم في أي يوم من الأيام . هل يستطيع أحدٌ أن ينسى وطنه ، وقد ترك فيه أمه وأباه وإخوته وأخواته ، وترك ملاعب صباه وآماله وأحلامه . كلا ! إن الوطن يكون جزءاً لا يتجزأ من وجدان المواطنين ، كما يقال : والفراق عن الوطن يعد من أشد الآلام لأن المكان الذي ولد فيه أي رجل وترعرع فيه وارتوى من فرات مائه يكون أجمل وأبهى له . وذلك هو السبب أن الرحلة عن الوطن يعد من أصعب لحظات الحياة وأنفسها .

أما الهجرة الكبيرة إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية فبدأت مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وكان مصدرها الرئيسي سوريا ولبنان بشكل أساسي .

مؤسسات المهجريين :

بين هؤلاء المهاجرين عدد كبير من الشعراء والأدباء فأسسوا عدة رابطات ثقافية وأدبية ، ومن بينها ” الرابطة القلمية ” التي أنشأها أدباء المهجر الشمالي أي الولايات المتحدة وشعراؤه في نيويورك في نيسان / أبريل من عام 1920م برئاسة جبران خليل جبران حيث كان ميخائيل نعيمة مستشاراً لها ، وكان من أعلام هذه الرابطة نسيب عريضة ، وإيليا أبو ماضي ، ورشيد أيوب وندرة حداد وغيرهم [1] . و ” العصبة الأندلسية ” التي أنشأها الشاعر المهجري ” ميشال معلوف ” في كانون الثاني / يناير 1932م في المهجر الأمريكي الشمالي في سان باولو في البرازيل [2] .

ومن أبرز أعلامها رشيد سليم الخوري ( الشاعر القروي ) وشفيق معلوف ، وإلياس فرحات ، وشكر الله الجر وغيرهم ، هذا ومع ذلك عرف المهجر عدا أعضاء ” الرابطة القلمية ” و ” العصبة الأندلسية ” من الأدباء والشعراء ، وبينهم غير قليل من أصحاب الشهرة في الأدب المهجري وكانت لهم مؤلفات ودواوين شعرية أيضاً .

والجدير بالذكر أن ثلة من الأدباء والشعراء اجتمعت في تموز / يوليو 1964م في سان باولو من البرازيل في منزل مريانا فاخوري وأنشأوا رابطة أدبية باسم ” جامعة القلم ” .

مدرسة شعراء المهجر :

جماعة هؤلاء الشعراء نظموا الشعر في شكل مذهب أدبي مستقل خاص تحت مدرسة خاصة ، فأصبحت هذه المدرسة مدرسة شعراء   المهجر . لها خصائصها ومذهبها في فهم الشعر وخطوات التجديد فيه ، واشتهرت هذه المدرسة وذاع شعرها وصيت شعرائها في كل مكان ، وكان بدؤها في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين ، ولكن صوتها آنذاك كان ضئيلاً لا يحس به أحد ، ومنذ أوائل العقد الثالث طارت شهرتها وذاع صيتها في الوطن العربي الكبير وفي كافة أنحاء العالم ولا سيما بعد تأسيس ” الرابطة القلمية ” .

وكان تجديد المهجريين في الأوزان الشعرية واضحاً فقد نظموا الشعر على طريقة الشعر المنثور أو النثر الشعري ، واستهوتهم الموشحات الأندلسية بجمالها فنظموا على منوالها الكثير من قصائدهم لكثرة أوزانها في تخيير قوافيها .

أما الجنوبيون فقد ظل أغلبهم في وجوب المحافظة على الديباجة العربية البليغة ، على الجزالة اللفظية وقواعد اللغة والعروض والبلاغة .

وقد نظم المهجريون في الفخر بالشرق والغرب ، والنزعة الإنسانية والكفاح في سبيل الحياة وفي وصف الطبيعة والتساؤل والتأمل وفي البكاء والألم كما نجد الحرية في التفكير والتعبير والمناقشة والتفسير لشئون الدين ، هذا ، ومع ذلك نظموا في الحنين إلى الوطن مع الطالع العاطفي الذي يتجلى رقة في العاطفة ، وفي الشكوى من ألم الغربة ومشتقاتها ، وفي الحنين إلى الوطن يبلغ الشاعر المهجري إلى أقصى عاطفته كما سوف نقدم بعض أشعار المهاجرين التي تشير إلى علاقة وطيدة شديدة بالوطن وحنين إليه تفيض بها أنفس الشعراء المهاجرين ، لأن الإنسان في الغربة يتذكر مراتع الصبا وضحكات الطفولة كجزء من كيانه مهما ابتعد عنه ، فلا بد أن يبقى أطلال بلاده في ذهنه .

بعض شعراء المهجر وأشعارهم في الحنين إلى الوطن :

كما ذكرنا أن هذه العاطفة المتعلقة بالحنين إلى الوطن توجد في أغلبية شعراء المهجر الأمريكي بشقيه : الجنوبي والشمالي ، وأعربوا عنها في أساليبهم الخاصة ، ومن بين شعراء المهجر الأمريكي الشمالي إيليا أبو ماضي ( 1889 – 1957م ) [3] ولد في قرية لبنانية [4] وله عدة دواوين : ” تذكار الماضي ” ، و ” ديوان إيليا أبي ماضي ” ، وصدر هذا الديوان سنة 1919م بعد أن يسكن الشاعر في البلاد الأمريكية و ” الجداول ” وصدر هذا الديوان سنة 1928م ، و ” الخمائل ” الذي صدر سنة 1940م و ” تبر وتُراب ” وقد صدر هذا الديوان بعد وفاة الشاعر ، وكانت في قلبه محبة لتربة مسقط الرأس كما نراه من خلال أشعاره ، ولم ينس الشاعر وطنه الأصيل ” لبنان ” في لحظة أو يوم حتى لا يجد طيوراً زهوراً مثل وطنه :

أرض آبائنا عليك سلام   أرض آبــــــائـــــــنـــــا عـــلـيــك سلام

وســقى الله أنفس الآباء   ما هجرناكِ إذ هجرناك ، طوعا

لا تظني العُقوقَ في الأبناء [5]

وقال :

إني مررت على الرياض الحالية     وســـمعت أنغام الطيور الشادية

فطربت لكن لم يحب فؤاديــــه   كطيور أرضي أو زهـور بلادي [6]

وقال :

الأرض سـوريا أحـــب ربـــوعــــهــــا  عـــنـــدي ولـــبــنان أعز جبالها

تشتاق عيني قبل يــغمضها الـردى  لو أنها اكتحلت ولو برمالـها [7]

ومن شعراء المهجر الأمريكي الشمالي ” نسيب عريضة ” [8] ( 1887 – 1946م ) [9] وكان أيضاً من أعضاء ” الرابطة القلمية ” فيطير قلبه نحو وطنه وينشد قصيدة بعنوان ” أم الحجار السود ” ومنها :

أعرفتها تلك الـــرُبـــوع العالية   ما بين لبنان وبين البــادية ؟

الذكريات وقد برزن علانية   نادَين عنك بحسرة المطرود

يا حمص يا بلدي وأرض جدودي

 

وقال في نفس القصيدة :

يا دهر قد طال الـــبُـــعـــاد عن الوطن هل عودة ترجى وقد فات الظعن

عد بي إلى حمص ولو حشو الكـفن واهتف : أتــــيــــت بـــعـــاثـر مردود

واجعل ضريحي من جحار سود [10]

 

هذه الأشعار تدل على علاقة شديدة بالوطن وحجارته وإنه يرتجف حينما يذكر وطنه لبنان وذكرياتها ، كما أن هذا الحنين الملتهب الذي يلج في صدور المهاجرين يصور لبنان وسوريا في نفوسهم بأروع الصور .

ومنهم ” رشيد أيوب ” ( 1871 – 1941م ) [11] هو شاعر لبناني ومهجري عُرف ” بالشاعر القروي ” وأُطلق عليه لقب ” الشاعر الباكي الشاكي ” واشترك مع زملائه في تأسيس ” الرابطة القلمية ” ، وقد جرى شعره على كل لسان في المهجر لعذوبته وسهولة حفظه كما يوجد في أشعاره الحنين إلى الوطن ويذكر رشيد أيوب في أشعاره الغدران والينابيع الجارية في وطنه ” لبنان ” وله يد طولى في الوصف كما يرى الثلج المتساقط فيطير بخياله إلى أرض لبنان وأهله قائلاً .

يا ثلج قد هيجت أشجاني  ذكـــرتـــنـــي أهــلي بلبنان

بالله قل عـــنــــي لــجيراني  ما زال يرعى حرمة العهد [12]

إن هؤلاء الثلاثة كانوا من شعراء المهجر الأمريكي الشمالي وأن هناك عدداً من شعراء المهجر الأمريكي الجنوبي ، ومن أبرز أعلامهم رشيد سليم الخوري المعروف بالشاعر القروي ( 1887 – 1984م ) وهاجر إلى البرازيل صغيراً .

وكان رئيس التحرير لمجلة ” العصبة الأندلسية ” والشاعر القروي يعد أكثر المهجريين حنيناً في شعره لا يرى في البرازيل شيئاً إلا ويلوح له فيه خيال وطنه كما يلوح له خيال سوريا في جريان مياه النهر في النسيم الذي يدغدغ الشاطئ الوسنان ويقول في قصيدته ” أحبابنا ” .

أحبابنا ! سكتت على الأغصان أصوات البلابل

وأتى الـرواة مــن الجبال ولم يعد في الحقل عامل

قوموا تعودوا لي الحمى عاد الــجـميع إلى المنازل [13]

ويريد بالحمى لبنان :

إن ” إلياس فرحات ” الذي هو من شعراء المهجر الأمريكي الجنوبي ولد عام 1893م في قرية ” كفرثيما ” للبنان حيث وصل إلى المهجر الأمريكي عام 1910م ، وصدر في عام 1925م الرباعيات ، حيث يعرب عن حنينه إلى الوطن قائلاً :

يذكر الربع القديم فينادي أي جنات النعيم من بلادي ؟ [14]

ثم جمال لبنان :

خصه المبدع بالحسن البديع زاهياً بين الروابي والبِطاح [15]

ويقول :

سلام على لبنان من متغرب يعيش بقلب عنه لم يتغرب [16]

هذه نظرة عابرة على شعر المهجريين الأمريكيين في الحنين إلى الوطن ولا أدعي بأنني قدمت صورة كاملة للموضوع ، إنما هي محاولة وجهد قليل في شكل مقال وجيز لتوضيح مشاعر شعراء المهجر حول الحنين إلى الوطن في الغربة .

المصادر والمراجع :

  1. الناعوري ، عيسى ” أدب المهجر ” ، ط 3 ، القاهرة : دار المعارف ، 1977م .
  2. خفاجي ، محمد عبد المنعم ، مدارس الشعر الحديث ” ، القاهرة ، مكتبة الإنجلو المصرية ، 1991م .
  3. ضيف ، شوقي ، ” دراسات في الشعر العربي ” ، ط 7 ، القاهرة : دار المعارف ، 1997م .
  4. عاصي ، حجر ، ” شرح ديوان إيليا أبي ماضي ” ، ط 1 ، بيروت : دار الفكر العربي ، 1995م .
  5. عطوى ، فوزي ، ” جبران خليل جبران ” ، بيروت : دار الفكر العربي ، 1989م .
  6. الحر ، عبد المجيد ، ” إيليا أبو ماضي ” ، ط 1 ، بيروت : دار الفكر العربي ، 1995م .
  7. الفاخوري ، حنا ، ” تاريخ الأدب العربي : الأدب الحديث ” ، بيروت : دار الجيل ؟
  8. الندوي ، ضياء الحسن ، ” عربي أدب ديار غير مين ” ( الأدب العربي في المهجر ) ، حيدرآباد ، مطبعة معين ، 1981م .
  9. الندوي ، أشفاق أحمد ، ” جبران خليل جبران ” ، لكناؤ ، 1980م .
  10. جورج ، صيدح ،” أدبنا وأدباؤنا ” جامعة الدول العربية ، 1956م .

* البروفيسور المساعد ، قسم اللغة العربية وآدابها ، بجامعة لكناؤ ، لكناؤ .

[1] ارجع للتفصيل : محمد عبد المنعم الخفاجي ، ” مدارس الشعر الحديث ” ، القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية ، 1991م ، ص : 85 ، والدكتور عيسى الناعوري ، ” أدب     المهجر ” ، القاهرة : دار المعارف ، 1977م ، ص : 22 – 27 .

[2] ارجع للتفصيل : محمد عبد المنعم الخفاجي ، ” مدارس الشعر الحديث ” ، القاهرة : مكتبة الإنجلو المصرية ، 1991م ، ص : 88 . والدكتور عيسى الناغوري ، ” أدب      المهجر ” ، القاهرة : دار المعارف ، 1977م ، ص : 27 – 31 .

[3] عبد المجيد الحر ، ” إيليا أبو ماضي ” ، بيروت : دار الفكر العربي ، 1995م ، ص : 39 .

[4] ولد في قرية المحيدثة في عائلة متواضعة ، ونشأ في ظل والديه : ” ضاهر أبو ماضي ” و ” سلمى ” وكانت أول دراسة له في مدرسة المحيدثة ثم في مدرسة أخرى في بلدة ” بكفيا ” على مسافة ميلين من قريته ، وكان يدير هذه المدرسة إبراهيم المندر ، وسافر إلى الإسكندرية سنة 1900م ، بين هجرته إلى مصر ( 1900 –1911م ) كانت له عودة إلى لبنان عدة مرات ، وسافر إلى الولايات المتحدة سنة 1912م وأسس مجلة ” السمير ” وجعلها نصف شهرية عام 1929م تم تغييرها إلى جريدة يومية ، وكان عضواً من أعضاء ” الرابطة القلمية ” وقدم إلى دمشق عام 1949م ثم رجع إلى الولايات المتحدة بدون زيارة لبنان ووافته منيته في الثالث والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر من عام 1957م .

[5] حجر عاصي ، ” شرح ديوان إيليا أبي ماضي ” ، بيروت : دار الفكري العربي ، 1991م ، ص : 45 .

[6] المرجع نفسه ، ص : 453 .

[7] جورج صيدح ، ” أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية ” ، جامعة الدول العربية ، 1995م ، ص : 40 .

[8] ولد في حمص في سوريا سنة 1887م وهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1905م ، وكان من أعضاء ” الرابطة القلمية ” وله ديوان وشعره يمتاز بالنزعة الإنسانية والتحرر من قيود الكلاسيكية العربية وأسس مجلةً أدبيةً باسم ” الفنون الأدبية ” وصدر له ديوان شعر بعنوان ” الأرواح الحائرة ” .

[9] حنا الفاخوري ، ” تاريخ الأدب العربي : الأدب الحديث ” ، بيروت : دار الجيل ، ص : 620 .

[10] شوقي ضيف ، ” دراسة في الشعر العربي المعاصر ” ، القاهرة : دار المعارف ، 1979 ، ص : 260 . وأيضاً : ضياء الحسن الندوي ،  ” عربي أدب ديار غير مين “( الأدب العربي في المهجر ) حيدرآباد : مطبعة معين ، 1981م ، ص : 200 – 201 .

[11] ولد في لبنان وتلقى فيها دروسه الابتدائية وسافر إلى باريس ومانشستر ، وفي سنة 1905م انتقل إلى نيويورك ، ودُفن في بروكلن وله دواوين باسم ” الأولويات ” ، ” وأغاني الدرويش ” ، و ” هي الدنيا ” .

[12] عيسى الناعوري ، ” أدب المهجر ” ، القاهرة : دار المعارف ، 1977م ، ص : 184 ، ص : 620 .

[13] المرجع نفسه ، ص : 82 .

[14] المرجع نفسه ، ص : 83 .

[15] المرجع نفسه ، ص : 84 .

[16] جورج صيدح ، ” أدبنا وأدباؤنا ” جامعة الدول العربية ، 1956م ، ص : 260 .