الحج ودعائم الوحدة الإسلامية !

هيهات لا يأتي الزمان بمثله !
مايو 28, 2023
الصحافة العربية الهادفة وتأثيرها على المجتمع !
يوليو 28, 2023
هيهات لا يأتي الزمان بمثله !
مايو 28, 2023
الصحافة العربية الهادفة وتأثيرها على المجتمع !
يوليو 28, 2023

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

الحج ودعائم الوحدة الإسلامية !

” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك ، والملك لا شريك لك “

هذه الكلمات التي تملأ أجواء أم القرى مرةً في كل عام ، وترتجُّ بها مكة بسهولها وجبالها ، حينما يقترب موسم الحج ، وتصل إليها مواكب الحجيج وقوافل الهائمين من كل فج عميق ، وهي كلمات تفيض بنغمة حلوة وموسيقى عذبة ، تتجلى فيها روح الحب والهيمان ، ولذة الإيمان والحنان ، يعلن بها الحبيب هيامه ، ويجهر بها وصوله إلى البلد الأمين ، وهو ينادي بوحدانية الله سبحانه   وتعالى ، مسارعاً بخطوات فسيحة إلى بيته العتيق لطاعة مالك الملك وصاحب الحمد والنعمة .

إنه يبث بهذه الكلمات شوقاً أخفاه في قلبه من زمان ، وحباً انطوت عليه نفسه من مدة ، وكاد يتحقق ما أضمره في قلبه من منن وأشواق وأحلام ، فبدأ يدعو ربه دعاء الهائمين ، ويثني عليه ثناء المحبين العاشقين ، ولا يتمالك نفسه من شدة الفرح الذي غمر قلبه مما أكرمه الله به وأنعم عليه ، وقد قرَّت عينه بزيارة ذلك البلد الذي طالما تمناه ، وبيته العتيق الذي أحبه ، ورؤية مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطليعة الأولى من صحابته رضي الله عنهم ، الذي وضع فيه أول بيت للناس ، مباركاً وهدىً للعالمين ، وحول هذا البيت تدور حياة المسلم في الدنيا ، فهو في صلاته يتجه إليه ويعتقده قبلة الله ، وقبلة الله ليس فوقها شيئ ، فيمتلئ قلبه بمهابة الله وعظمته وقدسية مكانه ، وهو يجله ويرى في إجلال البيت سعادةً لا يراها في غيره ، وهو يرجع إلى التاريخ الماضي يوم أسس هذا البيت في كل مكان قفر ، وواد غير ذي زرع ، فيرى فيه صورةً ، كلها جد   وجهاد ، وكلها حب وهيام ، وتضحية وفداء ، صورة المؤمن الصادق في دعواه ، الباحث عن ضالته في وحشة الصحراء وظلمة الليل ، غير مبال بما قد يصيبه من الضر والشر ، ويصيب أهله ومولوده الصغير من الألم والوحشة ما يكفي للقضاء عليهم وإرخاء الستر على قصة الحياة الرائعة التي بدأوها .

من هنا كان الحج ركناً عظيماً من أركان الإسلام ، يلعب دوره المهم في بناء الحياة الإسلامية المتكاملة ، وتحقيق السعادة التي يوجه إليها الإسلام أتباعه ، فإنه يركز بوجه خاص على نقطتين مهمتين : أولاهما : توحيد الله وإفراده بالعبادة والخضوع والاستسلام والتأكيد على هذه النقطة الأساسية والإلحاح عليها وإعلان البراءة الكاملة من كل ند وشريك ، وأخراهما : تتصل بوحدة الفكر والعمل التي تعين الهدف المنشود للإنسان المسلم في حياته الفردية والجماعية ، وتفتح له الطريق الواضح الذي يسلك عليه فيؤديه إلى الغاية المتوخاة ، ويوفِّر له المنافع الذي أشار إليها كتاب الله تعالى في سورة الحج : ( وَأَذِّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ) [ الحج : 27 ] ويتضمن قوله : ( لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ) كل نوع من المنافع العلمية والدينية والاقتصادية والسياسية والإعلامية بتقدير من الله تعالى .

والحج يمهد الطريق نحو معرفة أساليب العبودية والتجرد والاستسلام ، وتعميق دعائم الأخوة والعدل والمساواة بين بني البشر ، والمجتمع الإنساني وبالتالي إلى وحدة الصف ووحدة الفرد ووحدة الهدف ، وبه يتعرف الإنسان بوضوح أكثر أنه عبد في معنى   الكلمة ، فعليه أن يعرف طرق التوصل إلى ربه الواحد الصمد ، الذي خلع عليه لباس الإنسانية ، وأكرمه بعقيدة التوحيد ، وأضفى عليه نعمة الإسلام : ( يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [ البقرة : 21 ] .

إذا تدبرنا قليلاً في مناسك الحج وشعائره ومشاعره تحقق لنا بغاية من اليقين والإيمان أن الهدف الذي يركز عليه الحج بجميع أعماله وأركانه هو تثبيت دعائم ” الإسلامية ” التي هي الميزة البارزة والخصيصة الدائمة للإنسان المسلم ، فإنه يرسخ هذه الدعائم في الحياة والمجتمع ، ويعمقها في خفايا النفوس ودواخل الطبيعة ، ويربي عليها الإنسان المسلم ، لكي لا يعوقه شيئ عن التظاهر بإسلاميته في أي مناسبة ، ولا تحول دون ذلك ظروف أو أوضاع طارئة أو أصيلة .

نادى بهذه الإسلامية سيدنا إبراهيم عليه السلام في ذلك الوسط الجاهلي الوثني الذي كان أفراده عاكفين على عبادة الأصنام والأوثان والتماثيل ، ودعاهم إلى حقيقة التوحيد الذي لا قيمة للإنسان بغيره ، والذي هو محور نشاطه وأعماله في كل زمان ومكان ، ومع كل ظرف وحال ، ولكن هذه الإسلامية وهذا التوحيد قد تراكم عليهما الغبار ، ونسيت الأجيال القادمة مع ما لهاتين الظاهرتين من تأثير عظيم في حياة الإنسان ، وظلت الأجيال البشرية على هذه الغفلة والنسيان ، وتعيش في دياجير الشرك والأوهام الفاسدة والضلالات الشائنة ، احتجب عنها نور الهداية ، وانسدَّ أمامها طريق التوحيد ، حتى أصبحت فريسة النفس ورهينة الأهواء والخرافات ، ترفض توحيد الله وتقع في حبائل الشرك وتدعو لله أنداداً وأرباباً من دونه .

أما بيت الله تعالى الذي رفع قواعده سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من الله تعالى ، وجعل مهوى القلوب والأفئدة ومركز التوحيد ومنطلق الإيمان ومشع النور والبرهان ، فقد حلت فيه أوثان وأصنام ، وصار معبداً لأهل الشرك والضلالات ، ولم يعد فيه من يذكر اسم الله تعالى ويوحده ، فكان من تطهير البيت ، والعودة به إلى مركزه من التوحيد والهداية ، ومنطلقه من نور العقيدة    والإيمان ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام ورسالة التوحيد والدعوة إلى الله ، ونادى بالتوحيد في ذلك الوسط الثائر والظروف المضادة ، امتثالاً لأمر الله الذي أمره بذلك من غير خوف ولا وجل فقال : ( قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ . لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ) [ الكافرون : 1 – 6 ] .

الحج تخليد لذكرى حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام ، ذلك العبد المطواع والرسول العظيم الذي كان من أعظم الثائرين في عصره ، وأكبر المتمردين في بيئته ، والذي كانت حياته تحدياً لعبادة الأصنام والمادية الطاغية ، وكانت نموذجاً صادقاً لحياة المؤمن بالله والمتفاني في حبه مهما كانت الظروف ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ) [ النحل : 120 ] ، فالحاج الذي يحج الكعبة يعيد هذه الذكرى الحلوة ، ذكرى الهيمان والعشق ، وذكرى الاستسلام والطاعة ، وذكرى الثورة على الأوضاع الفاسدة ، وهو يعاهد الله سراً وعلناً بأنه سيحارب كل فتنة وكل وضع فاسد يحول في طريق الحق ، ويثور على كل عادة وتقليد ، يعتمد على الأسباب المادية ويوزِّع الإنسانية في قوميات ووطنيات وجنسيات محدودة مصطنعة ، ويتحقق في الحج معنى الوحدة الإسلامية التي يتوخاها الإسلام من خلال تعاليمه ودعوته ، وينهار بناء القومية والجنسية والوطنية المحدودة ، فتقوى صلة الإنسان بالإنسان ، وصلة الإنسان بالله    تعالى ، وتتحقق للبشرية سعادتها ، وللإنسانية عظمتها ، وللحياة كرامتها ، مادام الحج هو زاد التقوى الذي أمر به الله سبحانه في كتابه العظيم : ( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِى ٱلأَلْبَابِ ) [ البقرة : 197 ] .

وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب .

سعيد الأعظمي الندوي

14/ذو القعدة/1444هـ

4/يونيو/2023م