الحج طريق إلى وحدة المسلمين

معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 13, 2021
التراث في القرآن الكريم وفي الحديث
يوليو 31, 2021
معروف الرصافي وتأثر شعره بالقرآن الكريم ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 13, 2021
التراث في القرآن الكريم وفي الحديث
يوليو 31, 2021

الدعوة الإسلامية :

الحج طريق إلى وحدة المسلمين

الشيخ الطاهر بدوي *

وهذه الحقيقة ما تزال قائمةً بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل . من هم بغير الإسلام ؟ وما هم بغير هذه العقيدة ؟ إنهم حين يهتدون إلى الإسلام ، وحين يصبح المنهج الإسلامي حقيقةً في حياتهم ينتقلون من طور وضيع صغير ضال مضطرب إلى طور رفيع عظيم مهتد مستقيم . ولا يدركون هذه النقلة إلا حين يصبحون مسلمين حقاً ، أي حين يقيمون حياتهم كلها على المنهج الإسلامي . وإن البشرية كلها لتتيه في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا المنهج المهتدي .

لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال . فهذا هو الذي يذكر الله تعالى به المسلمين وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى : (  وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ) .

والحج اجتماع المسلمين العظيم ، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام ، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام ، عرايا من كل شيئ إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة ، ولا يميز فرداً عن فرد ولا قبيلةً عن قبيلة ، ولا جنساً عن جنس . إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة ، ونسب الإسلام هو وحده النسب ، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة . وقد كانت قريش في الجاهلية تسمى نفسها  ” الحمس ” جمع أحمس ( الأشداء في الدين الشجعان ) ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب . ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات ولا يفيضون أي يرجعون من حيث يفيض الناس . فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس . قال جل ذكره : (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

قال الإمام البخاري رحمه الله : حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وسائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : ( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ ) . يعني قفوا معهم حيث وقفوا ، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا .

إن الإسلام لا يعرف نسباً ولا يعرف طبقةً . إن الناس كلهم أمة واحدة ، سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب ، ليلتقوا في بيت الله إخواناً متساوين . فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب . ودعوا عنكم عصبية الجاهلية وادخلوا في صبغة الإسلام واستغفروا الله من تلك الكبرة الجاهلية ، واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس أو نطق بها اللسان ، مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال .

وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه ، أساس المساواة وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة ولا يفرقها جنس ، ولا تفرقها لغة ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً . وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع . ولنختم حديثنا بشهادة أحد المفكرين الأجانب وهو الدكتور ” فيليب حتى ” الذي يقول في كتابه ” تاريخ   العرب ” عن الحج عند المسلمين : ” ولا يزال الحج على كر العصور نظاماً لا يبارى في تشديد عُرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين ، وبفضله يتسنى لكل مسلم أن يكون رحالةً مرةً على الأقل في حياته وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعاً أخوياً ، ويوحد شعوره مع شعور سواه من القادمين من أطراف الأرض . وبفضل هذا النظام يتيسر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم أغنياء كانوا أم فقراء ، عظماء أم صعاليك أن يتآلفوا لغةً وإيماناً وعقيدةً . وقد أدرك الإسلام نجاحاً لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية خاصةً بين أبنائه ، فهو لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر إلا الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين ، ولا شك أن الاجتماع في مواسم الحج أدى خدمةً كبرى في هذا السبيل .

واعلم أن الله تعالى فرض الحج على المسلمين القادرين لحِكم كثيرة : منها اجتماع المسلمين في صعيد واحد يعبدون إلهاً واحداً مخلصين له الدين القيم الذي هو أساس الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة ، وأن من قواعد هذا الدين أن أتباعه إخوة يجب عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى فيعمل كل منهم لنصرة صاحبه وإن بعدت أبدانهم وتفرقت منازلهم ، وعليهم أن يذكروا في هذا الموقف أنهم بين يدي ربهم العلي القدير الذي خلقهم وفضلهم على كثير من خلقه وأنهم سيموتون ويقفون بين يديه في يوم لا ينفع فيه سوى العمل الصالح والتمسك بما أمر الله به في كل شأن من الشؤون .

ثم اعلم رحمك الله ! أنه مما يتبادر إلى الذهن من أمر الحج أن أصحاب السلطة في المسلمين لو أرادوا أن يستخدموه في إحداث الوحدة الإسلامية لنجحوا .

فإن اجتماع عشرات الألوف من الوفود في صعيد واحد من سائر أقطار الأرض واتجاه قلوبهم وآذانهم في ذلك الموقف المهيب لكل ما يلقي إليهم يستوجب أن يتأثر الكل بروح واحدة وأن يسري في نفوسهم تيار الجهاد بالنفس والنفيس ضد الكفر وأعوانه وضد الذين دنسوا ولا زالوا يدنسون شرف مقدسات الإسلام وأن يعلم الكل أن الحج يسقط بعدم  الاستطاعة .

فهل تتحقق الاستطاعة بلا أمن أم كيف يكون الأمن وعلى كل طريق من طرق الحج أعداء يتربصون بنا الدوائر ؟ وهل يتحقق الأمن بلا جهـاد ؟ كلا وألف كلا !! فبالجهاد يتحقق الحج ، وبالحج نعرف مغازي الجهاد . فإذا رجع الحجاج لأقطارهم وتشعبوا في قراهم وأمصارهم أذاعوا ما تعلموه بين ذويهم وكانوا لهم كأعضاء اجتماع عام مشكل من جميع الأجناس والأجيال يجتمع أعضاؤه في كل عام مرةً .

فأي تأثير تقدره لذلك الحدث الجلل حدث الوعي الشامل في حياة هذه الأمة الضخمة وأي نتائج جليلة ترجوها منه ؟ إذا سوعد نهوض هذه الأمة من رقدتها فسيكون الحج من أكبر عواملها ، فهذا هو الحج المبرور وهذا هو الذي يجازي عنه الحاج بالرضا والرضوان, وإلا كان الحج سياحةً لا تسمن ولا تغني من جوع !!!

اللهم ابسط على الأمة الإسلامية نعمتك وانشر عليها رحمتك وعافيتك من كل بلية وأن تجعل حج المسلمين مبروراً وسعيهم مشكوراً وذنبهم مغفوراً ، آمين .

* كبير علماء الجزائر .