البلاغة والإعراب والبيان في القرآن الكريم ( أول سور التغابن والطلاق والتحريم )
ديسمبر 4, 2021واقع العالم الإسلامي
يناير 2, 2022الدعوة الإسلامية :
الإيمان والمادية وصراعهما في الحياة الإنسانية
( الحلقة الأولى )
سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
وردت في الحديث النبوي فضائل سورة الكهف ، وبوجه خاص عن تلاوة هذه السورة يوم الجمعة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق ( سنن الدارمي ، كتاب فضائل القرآن ، باب في فضل سورة الكهف : 3470 ) ، وورد في حديث آخر أن هذه السورة تعصم من فتنة الدجال ، قال صلى الله عليه وسلم : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ( صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل سورة الكهف 1919 ) ، وقال الله تعالى في هذه السورة : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ( الكهف : 7 ) .
يتبين من دراسة هذه السورة مدى علاقتها بفتنة الدجال ، لأن المعاني والمفاهيم الذي ذُكرت في هذه السورة تشير إليها ، وفتنة الدجال هي فتنة المادية ، وقد قرر الله تعالى المادية لابتلاء الإنسان كما ورد ذكره في الآية السابقة الذكر ، خلق الله هذا الكون ، ووضع فيه أسباب العيش واللذة ، ولم تكن هذه الأشياء كالمعرض الدنيوي الذي يوجد فيه كل نوع من الأشياء ، للصغار والكبار ، ويقام لمجرد السمعة والتمتع ، فلم يخلق الله هذه الدنيا لمثل هذه الغايات ، بل جعلها دار ابتلاء وامتحان ، وقد أشارت الآية إلى أن كل ما على الأرض ، وما فيها من أسباب الزينة يهدف إلى الابتلاء والامتحان ، ومعنى الزينة أن يعجب الانسان بشيئ رآه ، وينتفع به ، فجميع الأشياء المادية تستأنس بها النفس ، وتسر بها ، وتستكمل منها حاجاتها ، وقد ازدهر الإنسان في هذا العصر ازدهاراً مادياً ، وما وصل إلينا من حضارة الغرب هو حضارة مادية ، فالفكرة المادية أن كل شيئ وجد بلا موجد ، وخلق بدون خالق ، وخُلق الإنسان للتمتع من هذه الدنيا ، فعليه أن ينتفع به انتفاعاً كاملاً ، وليس عليه شكر من أحسن إليه .
وإن فكرة الإسلام تغاير الفكرة المادية ، وهي تشرح أن هذا الكون لم يُخلق عبثاً ، ولم يُترك سدى ، بل هو تقدير العزيز الحكيم ، وكان وراء خلق الكون غاية ، وهي ابتلاء الإنسان ، يختبر الله تعالى الإنسان : من هو أحسن عملاً ، فقال : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ، ومن يعمل عملاً حسناً ، هل هو يعمل حسب هواه ونفسه ولمنافعه العاجلة أم يعمل لابتغاء الله تعالى ؟ وقد شرح الله تعالى في القرآن الكريم حقيقة حياة المؤمنين فقال : إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ ( التوبة : 111 ) ، فكان اشتراء الله أنفس المؤمنين وأموالهم بدل أن لهم الجنة ، وقد منح الله تعالى الإنسان بعد هذا البيع خيار استعمالها ، كما يمنح بعض بعضاً شيئاً على سبيل العارية ، ثم متى شاء أخذه منه ، كذلك اشترى الله منا أموالنا وأنفسنا ، وهي ملك لله تعالى ، لكنه لم يأخذها منا ، بل أمرنا باستعمالها ما دُمنا أحياءً في هذه الدنيا ، فإذا انتقلنا إلى الله رُدت هذه الأنفس والأموال إلى الله تعالى ، الواقع أن هذا الكون خلقه الله تعالى تحقيقاً لهذه الغاية ، فكان خلق الإنسان في زمانه وفي أوضاعه بلاءً عظيماً له ، ليعلم هل يحسن عمله أم لا ؟
تشير سورة الكهف إلى هذه الفكرة بين الإيمان والمادية ، فإن قصصها الأربع تكشف هذه الحقيقة ، وهي أن كل شيئ في الدنيا لم يخلق فجاءةً ، ولم يجعله تمتعاً ، بل خلقه الله تعالى ، وذلك بحكمته البالغة ، وإن ما يوجد في الدنيا من العلوم والتكنولوجيا ، والماكينات الحديثة التي يستفيد منها لم يخلقها الإنسان ، بل اكتشفها بعلم الله تعالى ، وبين الخلق والاكتشاف بون شاسع ، مثال ذلك أن رجلاً قد أودع في غرفة أمتعة وأقمشة كثيرة لم يكن لديك علم بها ، لكنك حينما تفتح بابها تطلع على هذه الأمتعة ، فالواقع أنك لم تصنع هذه الأمتعة ، ولم تضعها في هذه الغرفة ، بل اطلعت عليها بعلمك ، وبدأت تستعملها ، فعليك أن تفكر في هذا الشأن : من وضع هذه الأمتعة في الغرفة ، ولماذا وضعها ؟ لا بد من الاطلاع على هذين الأمرين ؟ ثم لك الخيار في أن تستعمل هذه الأمتعة ، أو لا تستعمل ؟ كذلك طرح الله تعالى هذه الأسئلة : من خلق هذه الدنيا ؟ ولماذا خلقها ؟ ثم يكون لك خيار في أن تستفيد من متاع الدنيا ، وتستحق أن تقضي بها حاجتك .
فإذا تم للإنسان الاطلاع على هذه الأسئلة انكشف له جلياً أن الله خلق هذا الكون ، فبالتالي يجب عليه الشكر لله تعالى ، ويعرف كذلك غاية خلق هذا الكون ، فيسدد خطاه ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى غاية خلق الإنسان والدنيا فقال : إنكم خُلقتم للآخرة ، والدنيا خُلقت لكم ( شعب الإيمان : 10581 ) ، شرح هذا الحديث هدف خلق الإنسان والدنيا ، فكان من واجبات الدنيا أن تقضي حاجة الإنسان وتنفعه ، لكن عليك أن تفكر في الآخرة وتعمل عمل الآخرة ، فأصبحت الدنيا ذريعةً لنيل غايتنا ، فلا نسرف في العمل ، ولا نغدر ، ولا نغصب حق شخص ، ولا يضر بعضنا بعضاً ، ونستفيد من الدنيا وفق حاجاتنا إليها ، لأن الله خلق هذه الدنيا لنا ، وخُلقنا للآخرة ، فتكون الآخرة من أولوياتنا ، فنستفيد من الدنيا مثل ما تكون لازمةً لبناء آخرتنا .
بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة ، حيث كان الكفار ماديين ، يؤمنون بالله ، لكنهم يعتقدون أن الله تعالى قد فرغ من خلق جميع الأشياء ، فكل ما يوجد في الدنيا تحت أمرنا ، ولا نكون مسئولين أمام أحد ، هذه هي فلسفة الحضارة المعاصرة ، وفكرتها أن كل ما في الكون خُلق بدون خالق ، لم يخلقه أحد ، ونملك حق استعماله كيفما شئنا ، لأننا نملكه ، فليس لدى هؤلاء عقيدة توحيد الله وإفراد الألوهية له ، فإنهم يقومون بتأويل كل شيئ تأويلاً مادياً ، وفي نهاية المطاف يكونون عاجزين وحيارى عن حل هذه المشكلة ، ولم يكن لديهم جواب عنها ، فإذا سألهم سائل : كيف كان نظام هذا الكون الكبير والدقيق اندهشوا بمجرد هذا السؤال ، ولم يردوا عليه جواباً ، إلا أن الأذكياء منهم يقولون : يتجلى من التأمل في نظام الكون أن وراءه خالقاً وصانعاً ، فلا يؤمنون به ، ولا يعتقدونه رباً وإلهاً ، لأن أساس فكرتهم كان مادياً .
أكرمنا الله تعالى بهذا الدين بواسطة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرح لنا عقائد التوحيد من نواح شتى ، وأخبرنا في ضوء قصص هذه السورة أنكم تنظرون في الظاهر أن كل شيئ في هذا الكون يجري بنفسه ، كالماء الذي يسيل من مكان منحدر ، لكن الواقع أنه يجري تحت أمر الله تعالى وقدرته ، يصاب الإنسان بمرض ، ويكون معافى في جسده ، كل ذلك بإذن الله تعالى ، وأعمار الناس ونظام ولادتهم من أسر وسلالات ، وفي مواضع وأمكنة وأوضاع وأزمان ، كل ذلك من تقدير العزيز الحكيم ، الذي ذكره الله تعالى بالكتاب ، قدر الله هذا الكون قبل خلقه ، ثم خلق ، فهو يسير حسب ما قدر وهدى ، ولم يترك الكون بعد إنشائه هملاً ضائعاً ، بل يجري كل شيئ بإذن الله ، وكل دقيق وجليل في علمه ، وهو قادر على أمور العباد ، حتى الأدوية التي نستعملها تنفع بإذنه ، وإذا أراد الله سلب من العلاج بالدواء صلاحية النفع وإفادة الصحة ، هذا ما يعتقده أهل الإيمان .
أما الفكرة المادية فهي تضاد فكرة أهل الإيمان ، فإن زعماء ها يزعمون أنهم صنعوا كل شيئ ، فإنهم يعتبرون الاكتشاف إيجاداً وخلقاً ، وبين الإيجاد والاكتشاف فرق كبير ، فإنهم لم يخلقوا شيئاً ، بل أعطاهم الله تعالى إياه ، فليعلم كل واحد منا أننا ما خلقنا شيئاً ، بل خلق الله كل شيئ ، فإنه أكرمنا بهذه الأشياء للاستفادة منها ، ومنحنا حق التصرف فيها ، نستعملها حسب مشيئته ، مثلاً المحصول الزراعي لا ينبت من الأرض إلا ما أذن الله تعالى له ، ولا يتصرف فيه أحد شيئاً ، فإذا حاول الإنسان في إنبات زراعات كثيرة فالله قادر على إتلاف هذه الزراعات في دقائق وثوان ، فلا يستطيع أن يقول إنسان : هو ينبت مقداراً كثيراً من غلة الطعام ، ولا بستاني يدعي : إنه يثمر في أشجاره ثماراً كثيرةً .
ذكر الله تعالى في هذه السورة قصة صاحب الجنتين ، كان له بستان كبير ، ومحصول زراعي ، وكان فرحاً مسروراً ، فبدأ يتبختر ، ويقول : هذا من عند نفسي ، ووعظه صاحبه وقال له : ليس من المناسب أن تكون معجباً بما لك ، ومغروراً بنفسك ، هذا كله من الله سبحانه وتعالى ، فكما أن الله أعطاك هذا المال ، كذلك هو قادر على سلبه وإتلافه ، فأثار قول صاحب الجنتين غيرة الله سبحانه وتعالى ، وأحيط بثمره ، وطاف على بستانه طائف من السماء ، فاحترق ، وقال : يا لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَداً . وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً . هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً . ( سورة الكهف : 42 – 44 ) .
( للحديث صلة )