المسلمون في رباط دائم
مارس 3, 2024دور الإسلام الإصلاحي في تشريع الصوم
أبريل 27, 2024التوجيه الإسلامي :
الأمانة والتكاليف
بقلم : الدكتور غريب جمعة *
ما هي الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال ؟
الأمانة هي التكاليف الإرادية المختارة ، بل يتسع مفهومها ليشمل كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته .
وهذه الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها مع الإشفاق منها ، ( والإشفاق هو الحب مع الخوف ) وهذا الإشفاق هو الذي جعل الكائنات كافةً تتهيب التكاليف الإرادية المختارة الذي لا يأمن مخلوق على نفسه من الانحراف عنها والتقصير فيها مادام يملك حرية الإرادة في الانقياد لها أو تركها . وهذا موطن الخوف والحذر ، وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شاني كله لا إله إلا أنت ” ( أخرجه أبو داود وأحمد ) .
يقول الله تعالى : ( إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) [ الأحزاب : 72 ] .
والمعنى : إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام ، فلم تطقها ، وأبت تحمل مسؤوليتها وخافت من حملها ، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك ، ولكن كُلف بها الإنسان فتحملها مع ضعفه وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول القدر مما تحمله [1] .
روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا : حفظُ أمانةٍ وصدقُ حديثٍ وحسنُ خُلقٍ وعِفَّةٌ طُعمةٍ ” . ومن العلماء من يرى أن الآية من المجاز أوضرب مثل .
وسواء أكان العرض حقيقةً أم مجازاً وضرب مثل ، فالمقصود من الآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان لخطورة المسؤولية عنها فلا يفرط فيها وهو بين خيارين : إما العصيان فالعذاب وإما طاعته فالثواب والله غفور رحيم . ( المسند : ٦٦٥٢ ) وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح ) .
أما التكاليف الجبرية القائمة بالأكوان كافة ، فليس وراءها تبعة ، لأن الجبر هو إنابة فطرية في الكائن فلا يخشى منه أي إعراض أو تقصير في حقها . بل يأتيها طائعاً مختاراً فرحاً بها ، وهذا يفسره قوله تعالى : ( ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ) [ فصلت : ١١ ] .
ومن أجل ذلك فالأمانة أمرها خطير ، وشأنها عظيم ، فينبغي لهذا الإنسان الذي يملك حُرية الإرادة في الأخذ بها أو الإهمال فيها أن يكونا مطيعاً مقبلاً عليها حفياً بها مقدراً لنتائجها الكبيرة المباركة التي تحصل له بسبب الإقبال عليها والأخذ بها .
نعم . . . هناك من يعرض عنها بحكم حُرية الإرادة المختارة ، هذه الإرادة الجزئية التي جعلها الله لامتحان عباده واختبارهم وهم صنف من الإنس والجن .
وفي شأن الفريقين يقول الله تبارك وتعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ) [ الحج : 18 ] . ويقول تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ ) [ الأعراف : 179 ] .
فأنت ترى أن جميع الأكوان بأجرامها وكائناتها يسيرها الجبر الإلهي ، ما عدا البشر الذين مُنحوا حُرية الإرادة لذلك ذكر منهم من أطاع وانقاد وآمن وأتمن وأدركه الرشد الخير المبارك . وهؤلاء كثير .
وكثير أبت نفوسهم إلا غروراً وعصياناً وسيراً وراء أهوائهم وشياطينهم . وقد أطلق على المطيعين كثيراً مع أنهم الأقل تمجيداً لهم وتنويهاً بشأنهم وإعلاناً عن قبول أعمالهم وإقبالهم على ربهم .
وهذه الآية تشير إلى رحمة الله بعباده الصالحين ورفع قدرهم وإشعارهم بأن لهم الحسنى وزيادة ، وإن قلوا في أعين الناس فهم عنده جل جلاله كثير .
ولذلك لا مناقضة بين هذه الآية وقوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) [ الأنعام : ١١٦ ] . وقوله : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) [ الأعراف : 102 ] .
لأن المقام هنا لبيان الفريقين في علم الله الأزلي .
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإحسان في أداء الأمانات التي بيننا وبين الله والتي بيننا وبين خلق الله .
* جمهورية مصر العربية .
[1] التفسير المنير ، الجزء ٢٢ ، ص : ٤٥١ وما بعدها .