الزمخشري وتأبيد ” لن ” دراسة نقدية تحليلية
فبراير 7, 2023مناهج ابن جرير الطبري في الاستدلال بالشواهد الشعرية
مارس 14, 2023دراسة شعرية :
ديوانه وأدبه وحبه الإلهي :
كان ابن الفارض الصوفي شاعراً تجلت دقة حسه ورقة نفسه ورهافة شعوره في شعره كما تمثلت في ذوقه ووجدانه ، فهو جمع شخصه بين نبعين صافيين ينهل منهما ويصدر عنهما ، أحدهما نبع الوجد الروحي ، وثانيهما نبع الطبع الشعري [1] .
وديوان ابن الفارض ديوان شاعر صوفي عربي صميم من دم عربي صميم ، إنما يعد تصويراً رائعاً للوحدة ، وتعبيراً بارعاً عن إدراكها ، وترديداً جميلاً لأنشودتها التي يشدو بها الشاعر الصوفي العربي في كل قصيدة من قصائده ، بل في كل بيت من أبياته [2] .
إن ديوان ابن الفارض بما فيه من أناشيد الحب الإلهي وما يصوِّره من مراحل السلوك ودرجات المعرفة ، وما يصفه من أذواق وأحوال ، وما يدعوه إليه من إقبال على الوحدة ، ورد كل ما في الكون من صورة متكثرة وظواهر متعددة إلى مبدء واحد ، ليس من خصائص العقل العربي أو الشعر العربي في شيئ ، بل هو من أخص ما يمتاز به الجنس الآري . وديوان ابن الفارض تحفة أدبية له خصائصه الفنية ، بقدر ما هو تراث روحي له قيمته الفلسفية [3] .
عرف ابن الفارض بأنه شاعر الحب ، والناس في ذلك طائفتان أهل الظاهر وأهل الباطن . فأهل الظاهر هم القائلون بأنه لا يخرج عن سبيل العشاق أو الغزليين الذين وصفوا الجمال الإنساني ، ولا سيما جمال المرأة وتأثيره في نفوس المحبين . وقد عزا إليه بعضهم ، ولعله بسماع الغناء من جوار له ، وأنه كان يرقص لذلك ويواحد [4] .
ونظر كثير من الناس إلى ديوان ابن الفارض وأعجبوا به ، ولعل أهم هؤلاء ابن أبي حجلة الذي وصفه فقال فيه : ” هو من أرق الدواوين شعراً ، وأنفسها دراً براً وبحراً ، وأسرعها إلى القلوب جرحاً ، وأكثرها على الطلول نوحاً ، إذ هو صادر عن نفثه مصدور وعاشق مهجور وقلب بحر النوى مكسوراً ” [5] .
والموضوع الأساسي الذي يدور حوله شعر ابن الفارض في ديوانه هو الغزل ، وهناك موضوعات أخرى أهمها الحديث عن الخمرة التي ليست كالخمريات المعروفة عند أبي نواس وغيره ، بل إنه يرمز فيها رمزاً صوفياً لا يفسر إلا تفسيراً باطنياً .
ولعل قصيدته اليائية هي من أشهر قصائده التي ترفع على أجنحة الحب إلى العلى ، ثم تذوب في الفضاء الواسع تاركةً وراءها نغماً لطيفاً يرجعه الشعر فيطرب السامعين .
ويمكن أن نقسم هذه القصيدة إلى عنوانين ، لعل أبرزها ” سائق الأظعان ” فيقول [6] :
سائق الأظعان يطوي البيدَ طَيْ منعما عرِّج على كثبان طي
فالسائق الذي يتحدث عنه الشاعر في البيت الأول هو الله تعالى ، والأظعان الناس الذين يحثهم الشاعر للوصول إلى الله تعالى عن طريق كثبات طي ، وهي كناية عن المقامات المحمدية التي عددها كرمال الكثيب .
ولابن الفارض أيضاً قصيدة خمرية ، شهيرة رائعة [7] . وهذه القصيدة مبنية على اصطلاح الصوفية ، قد مزج ابن الفارض بين معاني الخمر والصبابة . فالخمرة عنده رمز للمحبة الإلهية ، والسكر هو الدهش الذي يصيب المريد نتيجة الوجد والشوق للمحبوب [8] .
وقد ذكر ابن الفارض في عبارته الخمرة بأسمائها وأوصافها ، ويريد بها ما أراد الله تعالى من المعرفة أو من الشوق والمحبة . فسمي بهذه التسمية لأن وصف ابن الفارض المدامة أو الخمرة عبارةً عن المحبة الإلهية أو المعرفة الإلهية . ومطلع القصيدة :
شربنا على ذكر الحبيب مدامةً سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
إن الشاعر وصف المدامة بالمحبة الإلهية أو المعرفة الإلهية . والكلمة الدالة على ذلك هي ” ذكر الحبيب ” ، والدلالة الأولى في قول الشيخ رشيد بن غالب من شرحي البوريني والنابلسي في شرح ديوان ابن الفارض ، يريد بها ما أراد الله تعالى على ألبابهم من المعرفة أو من الشوق والمحبة [9] . الحبيب في عبارته عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد يريد به ذات الخالق القديم جل وعلا ، لأنه تعالى أحب أن يعرف فخلق . فالخلق منه ناشئ عن المحبة وحيث أحب فخلق ، فهو الحبيب المحبوب والطالب والمطلوب ، والمدامة المعرفة الإلهية والشوق إلى الله تعالى [10] .
إنّ أهمية الطور لا ترجع إلى ما تمتاز به الحياة الصوفية لابن الفارض من الفتح والكشف فحسب ، وإنما هي ترجع أيضاً ، إلى ما نظمه الشاعر فيه من شعر تبدو عليه المسحة البدوية ، وتتردّد في أبياته الصور الحجازية ، ومنها القصيدة التي مطلعها :
أبـَــــرقٌ بـدا من جـــــانــــب الـــغَور لامعُ أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع [11]
أنارالغضا ضاءت وسلمى بذي الغضا أم ابتسـمت عمّا حكته المدامع [12]
وهذه الفترة تعتبر فترة انقطاعه عن الكشف والفتح الذي يشير إليها :
نقلتني عنها الحظوظ ، فجُذّتْ واراداتـي ، ولـم تدُم أورادي
آه لـــــو يـــــسـمـــح الـــزّمـان بعـودٍ فـعسى أن تعود لي أعيـادي [13]
ولا يعرف لابن الفارض آثار أدبية أو صوفيةً غير ديوانه ، وهو صغير الحجم ، وعدد أبياته ألف وثمان مأة وخمسين بيتاً (1850) ، ويعد تحفة أدبية وعلى صغر حجمه من أحسن الدواوين العربية من ناحية الموضوع والأسلوب ، ويدور على موضوع واحد فهو الشعر الصوفي في الحب والخمر [14] .
لديوان ابن الفارض خصائصٌ فنّية وصوفية ، ولعل أظهر ما يمتاز به شعر ابن الفارض من الناحية الفنية هو الإسراف في الصناعة اللفظية أو الإغراق في المحسّنات البديعية ، على سبيل المثال :
سهم شهم القوم أشوى وشوى سهم ألحاظكم أحشاى شى [15]
وهذا من الناحية الفنية ، أما من الناحية الصوفية : فقد كان ديوان شاعرنا ثمرةً صالحةً ، ذا نزعة صوفية واضحة لما امتازت به نفس الشاعر من رقة الشعور ودقة الحس وسموّ العاطفة التي سيطرت على نفسه سيطرة قويّة ، ومن هنا كان ديوان شاعرنا أنشودة جميلة من أناشيد الحب ، وهتافاً صادقاً رددته نفس الشاعر في رياض القلب [16] . وابن الفارض من أشهر الشعراء المصريين المتصوفين إطلاقاً ، وتائيته تحدد خصائص تفكيره الصوفي ، ومن تائيته الفريدة :
فكل الذي شاهدته فعل واحد بــــمــــفرده لكن بحجب الأكنية
إذا ما أزال الــستــر لــم تر غيره ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
الحبّ عند ابن الفارض على ثلاث مراتب :
(1) حبٌّ طبيعي : وهو حب العوام ، وغايته الاتحاد في الروح الحيوانية .
(2) حب روحاني نفسي : وغايته التشبه بالمحبوب مع القيام بحق المحبوب ومعرفة قدره .
(3) حب المحبة : وهي من أعلى مقامات العارفين .
للمحبّة ظاهر وباطن ، ظاهرها اتباع رضا المحبوب ، وباطنها أن يكون مفتوناً بالحبيب عن كل شيئ ، ولا يبقى فيه بقية لغيره ولا لنفسه ، والواقع أن فلسفة الحب الإلهي عند المسلمين إنما هي إسلامية المنشأ والتأثير . وقد اتّجهت الصوفية إلى المحبة خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته ، ولكن ابتغاء وجهه الكريم وحده ، حيث تقول :
سرُّكــــــم عــــــنـــــدي مـــــا أعــلنه غير دمع عـــن دمـي عـن دمـي
مــظهراً ما كنت أحفي من قدي ـم حــــديـــــث صـانه مني طـي
عــــــبـــــــرة فــــــيـــض جفوني عبرةً بــــي أن تــجري أسعى واشيي
كاد لولا أدمــــــعـــــــي أستــــغـفرا له يخفى حبكم عن ملكي [17]
وهكذا نرى أن في شعر ابن الفارض غزلاً يمكن أخذه على أنه إلهي بقدر ما هو إنساني ، ويظهر أن الشطر الأكبر من ديوانه من هذا الغزل ذي الوجهين ، ويستثني ” حلمي ” عن هذا الحكم القصيدتين الصوفيتين ” التائية الكبرى ” و ” الخمرية ” ، من ديوان ابن الفارض الحب الذي يهتف به الشاعر فيهما على أنه حب إلهي لا شبيه فيه ولا غبار عليه .
وبهذا الصدد ، يظهر لنا أن أشعار ابن الفارض في حبه الإلهي تندرج في قسمين أو نوعين من الحب ؛ أوّلهما : الحب الإلهي الإنساني ، وثانيهما : الحب الإلهي الخالص .
الأول : الحب الإلهي الإنساني : وهذا ما نلاحظه في أكثر أشعاره التي كتبها عندما يخاطب فيها محبوبته أو محبوبه ، فمثلاً يقول :
ما رأت ، مثلـك ، عينــي حسناً وكمثـلي ، بك صبّاً ، لـم تـري
نسـبٌ أقـرب ، في شـرع الــهـوى بيننــا ، مِــــنْ نــــســــبٍ مِن أبـوي [18]
الخاتمة :
ابن الفارض من الشعراء الكبار في العصر الفاطمي الذين أثروا المجال الشعري في عصره عندما خفت الشعر العربي كله ، وهو أول شاعر اهتم بالشعر الصوفي لأن في قلبه حباً شديداً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . وهكذا نجد في قصائده الصوفية حباً لله وحباً للرسول صلى الله عليه وسلم . وأما من حيث المضمون فقد غلب على شعره طابع التزكية وإن ألبست معانيه أثوابا من المعاني التقليدية في الغزل والنسيب والخمريات وما شابهها . فاهتم علماء التزكية بشعر عمر بن الفارض من وجهة نظر الصوفية وتعاليمهم وما تردد في هذا الشعر من المعاني الأخرى من العشق الإلهي وما إلى ذلك . وقد عبر ابن الفارض عن الحب والوجد الإلهي بصور شتى من التعبيرات التي استعارها من شعراء الحب العذري أحياناً .
* باحث قسم اللغة العربية جامعة بابا غلام شاه بادشاه راجوري ، جامو وكشمير .
[1] الحب الإلهي في التصوف الإسلامي ، شخصيات منتخبة ، رابعة العدوية وابن الفارض ، ص 195 .
[2] المرجع السابق ، ص 199 .
[3] ابن الفارض والحب الإلهي ، ص 85 .
[4] شذرات الذهب ، 5/152 .
[5] المصدر السابق ، 5/151 .
[6] ديوان ابن الفارض ، شرحه عبد الغني النابلسي ، ص 19 .
[7] ابن الفارض والحب الإلهي ، ص 101 .
[8] شعر التصوف بين الشيخ الجزيري وابن الفارض ، ص 167 .
[9] شرح ديوان ابن الفارض من شرحي الشيخ بدر الدين الحسن بن محمد البوريني والشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي ، 2/245 .
[10] المرجع السابق ، 2/245 .
[11] ديوان ابن الفارض ، ص 209 .
[12] المصدر السابق ، ص 225 .
[13] المصدر السابق ، ص 181 .
[14] نيكلسون ، 1951م ، ص 137 .
[15] ابن الفارض والحب الإلهي ، ص 83 .
[16] المرجع السابق ، ص 85 – 86 .
[17] ديوان ابن الفارض ، ص 20 .
[18] شرح ديوان ابن الفارض ، ص 115 .