من الفن إلى الدعوة
فبراير 7, 2023وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر
مايو 28, 2023صور وأوضاع :
إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
محمد فرمان الندوي
زلزال تركيا وسوريا وما جاورها من البلدان تنخلع منه القلوب بمجرد سماعه ، وتقشعر منه الجلود برؤية مشاهده عَبر أجهزة الإعلام ، ويبكي دماً كل من يحمل قلباً نابضاً بهذا المنظر الرهيب الرعيب ، وهو زلزال ما رأت الدنيا مثله في أقرب زمن ، وقد تحولت المباني والقصور الشامخات ، والفنادق الناطحات للسحاب إلى بلاقع وقفار ، وأما النفوس والأرواح التي ذهبت ضحيته فهي تضاعف أضعافاً مضاعفةً ، أضف إلى ذلك الجرحى والمصابين والمنكوبين بهذا الزلزال ، فإن عددهم يزداد من عشرة ملايين ، وقد أحدث الزلزال تغييراً في شكل الأرض ، ومما يزيد الإنسان إيماناً وثقةً بالله أن عُمال الإسعاف والإنقاذ لا يزالون يُخرجون من تحت الأنقاض رجالاً ونساءً أحياءً ، وأطفالاً ورضعاء على قيد الحياة ، بعد مرور عشرات من الساعات والأيام ، ولا شك أنه ” هُوَ ٱلْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِـى ٱلْمَوْتَىٰ ، وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” ( الحج : 6 ) .
تاريخ الزلازل عبر التاريخ :
رأت الدنيا منذ بدايتها أنواعاً من الزلازل والقلاقل ، وسلسلةً من الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن ، فهؤلاء قوم نوح أصيبوا بطوفان عارم على وجه الأرض ، ولم يبق من هذا الطوفان إلا من ركب سفينة نوح عليه السلام ، وابتلي قوم ثمود بصيحة واحدة ، فكانوا كهشيم المحتظر ، وامتحن قوم شعيب بالرجفة والزلزلة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وذهب سيدنا موسى عليه السلام بسبعين رجلاً من قومه إلى الطور ، وتكلم موسى عليه السلام ربه ، لكن القوم قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً ، فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة ، فأتلفت أرواحهم ، فماتوا ، ثم أحياهم الله بمناجاة ودعاء موسى عليه السلام ، وأما قارون فكان من قوم موسى ، وكان يملك مفاتيح كنوزه التي تنوء بها العصبة أولو القوة ، لكن ارتجفت الأرض ، فخسف الله به الأرض ، هذه بعض نماذج للزلازل التي وقعت زمن الأنبياء الماضين ، وقد أحصى الإمام جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء أمثلةً للزلازل عبر التاريخ إلى ثمانين زلزلة ، وذكر الملك سنجر إلى أخيه الملك مسعود عام 539هـ في العهد العباسي أن بغداد وضواحيها قد أصيبت بالزلازل والفتن الأرضية التي توقف بسببها الصلوات الخمس والجمعة في المساجد ، يقول السطان سنجر : ” فقد ظهر عندنا من الآفات السماوية والأرضية ما لا طاقة لنا بسماع مثلها ، فضلاً عن المشاهدة من العواصف والبروق والزلازل ، ودام نحو عشرين يوماً ، وتشويش العساكر وانقلاب البلدان ، ولقد خفت على نفسي من جانب الله وظهور آياته ” .
نظرات متباينة عن الزلازل :
تتعدد اتجاهات الناس نحو حدوث الزلازل والفتن ، فيكتشف علم الطيبعة أن الزلازل اهتزاز أرضي مفاجئ ، ينتج عن الحركة المستمرة للصفايح الصخرية ، بذلك تتكسر الكُتل الصخرية فتنشأ موجات شديدة ، ويأتي كل ما على الأرض من المباني والعمارات من القواعد ، فتخر السقوف على الناس ، وأما هذا الزلزال الحادث فقد ذهب الناس فيه مذاهب شتى ، واختاروا طرائق قدداً ، فقال بعض : هذا زلزال صناعي ، ومكر جماعي خُطط ودُبر ضد تركيا وسوريا ، وقال آخرون : هذا زلزال طبيعي وجيولوجي يحدث حيناً لآخر ، وقال آخرون : مناطق تركيا وسوريا مناطق الزلازل والحوادث ، لأنها تقوم على أربع صفايح ، وأمثال ذلك من النظرات والاتجاهات المادية ، لكن نظرة القرآن إلى هذه الزلازل أنها لا تحدث إلا بأمر من الله تعالى ، وهي علامة لغضبه ، وأمارة لسخطه ، ودليل على قدرته الخارقة ، وعقوبة إلهية للطغاة المجرمين ، ونوع من المنبهات والموقظات ، والعذاب الأدنى قبل العذاب الأكبر ، قال تعالى : ( فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ( التوبة : 70 ) ، وقد أشار الله إلى حقيقة الزلزال في سورة الإسراء : ( وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ( الإسراء : 16 ) .
الزلازل من أشراط الساعة :
القيامة والساعة من ثوابت الدين ، ودعائم العقيدة الإسلامية ، وهي حقيقة كالشمس في رابعة النهار ، والقيامة لها أشراط وعلامات ، وهذه العلامات تنقسم إلى العلامات الكبرى والصغرى ، فالعلامات الكبرى هي طلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وظهور المهدي ، وخروج الدابة وخروج الدجال ، وخروج يأجوج ومأجوج وأمثال ذلك ، والعلامات الصغرى هي قبض العلماء ، وانتشار الفحشاء وكثرة الزلازل والفتن كقطع الليل المظلم ، وقد روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا اتخذ الفيئ دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وتعلّم لغير الدين ، وأطاع الرجل امرأته ، وعقَّ أمه ، وأدنى صديقه وأقصى أباه ، وظهرت الأصوات في المساجد ، وشربت الخمور وظهرت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها ، وساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل اتقاء شره ، فليرتقبوا بعد ذلك ريحاً حمراء ، وزلزلةً وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع ( سنن الترمذي : 2211 ) ، فالزلازل والفتن تُذكِّر الإنسان بيوم القيامة ، لأن يوم القيامة تنفطر فيه السماء وتنشق الأرض ، وتنتثر الكواكب ، وتبعثر القبور ، وتسيَّر الجبال ، بل تحمل الأرض والجبال فتدكان دكةً واحدةً ، فيومئذ وقعت الواقعة ، كذلك الزلازل حينما تنزل فتخرَّب المباني والقصور ، ويهلك الحرث والنسل ، ويكون الناس تحت الأنقاض والأكوام من القاذورات والمهملات ، فلا ملجأ ولا مأوى من الله إلا إليه ، ولا شك أن عقيدة الآخرة إذا دخلت شغاف القلوب ، وبدأ الناس يفكرون في الحساب والنقاش ، ويرجون لقاء الله تعالى ، رجعوا إلى حياة الجيل الأول الذين كانوا نماذج عاليةً في المنشط والمكره والسراء والضراء ، وانحلت مشاكلهم وعاشوا سعداء مطمئنين ، لا يكدر صفوحياتهم شيئ من علائق الدنيا ومهمات العاجلة .
إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ :
إن حياة الإنسان محفوفة بالابتلاءات والمشاكل ، ومملوءة بالأزمات والكوارث ، فلا تخلو ناحية من حياة الإنسان إلا ويقع الإنسان فريسةً لها ، وهذه الابتلاءات تتنوع وتتعدد ، فتارةً تكون الابتلاءات بالخير ، وأخرى تكون بالشر ، وأحياناً تأتي بالسراء ، وأخرى تأتي بالضراء ، والتاريخ الإنساني يشهد أن أهل الإيمان هم أشد الناس ابتلاءً وامتحاناً بالمصائب والمشكلات من الكافرين والفاسقين ، ويكفي للدلالة على الموضوع ذكر أصحاب الأخدود الذين أحرقوا عشرين ألفاً من المؤمنين في حفرة من النار ملتهبة متوقدة ، لكن الله عز وجل قد أعد لهم من الجزاء الأوفى والأكمل في صورة جنات النعيم ما لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة ، فالحكمة الأولى من وراء هذه الزلازل هو ابتلاء من الله تعالى ، أما الحكمة الثانية فهي تنبيه الناس وإيقاظهم من الغفلة ، وإخبارهم بأن الله يملك قدرةً كاملةً وسلطةً قويةً ، لا تعادلها أي سلطة ، فلا تسقط ورقة ، ولا تهب ذرة ، ولا تقطر قطرة إلا بأمر من الله تعالى ، قال تعالى : ( وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام : 59 ) .
وقد أصبح الناس أمام الزلازل والشدائد أصنافاً وأنواعاً : صنف تاب إلى الله توبةً نصوحاً ، واستغفر من ذنوبه وسيئاته ، لأن الاستغفار هو الذي ينجي الإنسان من المهالك والمخاطر ، وإذا كان الاستغفار من الذنوب واستقام الإنسان على هذا المنهج أجَّل الله تعالى عنه العذاب والهلاك ، وقد اختار قوم يونس هذا المنهج فنالوا رضا الله تعالى ونجوا من عذابه ، وصنف قسا قلبه وتكثف عليه الرين وتلوثات الذنوب ، فلا ينتبه من هذه الزواجر ولا يتعظ من المنبهات ، فهو في خطر دون خطر – لا قدر الله – وقد أشار الله إلى هذا المعنى ، فقال : ( أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ ) ( الأعراف : 99 ) .