أبدية الوحي الإلهي وراهنيته

التعايش السلمي : وجهة نموذجية شاملة يتقدم بها القرآن الكريم
مارس 15, 2022
تحديات المسلمين في مجتمع المهجر ومعالجتها من منظور إسلامي
مارس 15, 2022
التعايش السلمي : وجهة نموذجية شاملة يتقدم بها القرآن الكريم
مارس 15, 2022
تحديات المسلمين في مجتمع المهجر ومعالجتها من منظور إسلامي
مارس 15, 2022

الدعوة الإسلامية :

أبدية الوحي الإلهي وراهنيته

د . جمال الدين الفاروقـــي ، وينــاد ، كيرالا

الإنسان المعاصر رغم ثقافته الواسعة وتضلّعه في العلوم والفنون يهوي في الأزمة الفكـرية والبلبلة المعنوية ما لم يسبق له مثيل في الماضي . نراه يغذو ويروح بالإنكار والإلحاد ، ويقبل عليه بعقله وفكره ، زعمـاً منه أن الدين قد انقرضت أيامه ، ولم يعد قادراً على مسايرة تطلعات الإنسان المتحضّر . وفي المقابل يتغاضى ويتجاهل عن الفوضى الثقافي والانهيار الخلقي الناتج عن موقفهم الإلحادي متمثلاً في إهمال القيم الدينية والتعاليم الربانية . والإنسان المتحضر والمثقف بسبب تكبره ومطاولته وعناده يمرّ الآن بمراحل حرجة أشدّ خطراً على كيانه وأسوأ عاقبةً على مجتمعه . والكثيرُ من الماديين في العالم المعاصر يدعو البشرية إلى الحريّة المطلقة التي تؤدي بالإنسان إلى الطغيان والفساد كما تشير إليه الآية ” كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ ” ، وفكرة الاستغناء تنطلق دائماً من ظاهرة الإنكار والإلحاد التي تحرّر الإنسان من كل الالتزامات .

العلوم والتكنولوجيا – مهما كبرتْ وعظمـت – قد تساعد على تحسين مستوى العيش المادي وتنسيق الأمور ، إلا أنها في أي حال من الأحوال لا تضمن للبشرية السعادة الأبدية والسلامة الأخروية ، ولا توفّر له أسباب الأمن والاستقرار في هذه الدنيا . وهنا يتجلّى أمامنا أهمية الوحي المنزل ودوره القيادي في توجيه الإنسان في كل عصر ومصر . ورغم ما مضى عليه أربعة عشر قرناً إلا أنه كان ولا يزال يبقى حيّاً ناضراً مزدهراً ملبياً لكل تطلّعات الإنسان – مما يفتح أمامنا المجال واسعاً لندرس أهمية الوحي الإلهي وأثره في قيادة الفـرد والمجتمع ، بحيث يمكن إثبات مصداقية كلام الله تعالى .

وهذا الوحي المتمثل في القـرآن الكريم ملؤه إرشادات وهداية من الله للإنسان الذي يريد النجاح والسعادة الأخروية . ولا يتحقق ذلك النجاح إلا بالتمييز بين الحق والباطل والخير والشر . وهذا التمييز هو أساس الثقافة الإنسانية الخالدة في كل مراحل التاريخ البشري ، ما ناله البشرية إلا من الوحي الإلهي الذي هو الوحيد قادراً للسير مع الزمن وإلى ما وراء الزمن . وقد رأينا الأيديولوجيات والنظريات تدهورت قبل هذا واندثرت آثارها وخرّ سقفها على أهلها ، وما استطاعوا من قيام ، ولن يستطيعوا ذلك ما لم يهتدوا بنور الوحي الذي يلمس دائماً ضمير الإنسان ويزوّده بالثقة والتفاؤل ، ويدعمه بالإيمان والتوكل .

كرامة الإنسان ومـذلته :

الإنسان وصفه الله بكلمة ” الخليفة ” وذلك للدلالة على المسؤوليات والواجبات التي يجب القيام بها في الحياة . والخلافة المشار إليها في عدد من الآيات القرآنية تتمثل في الأمانات التي حملها الإنسان نحو ذاته ومجتمعه وربه ونحو هذا الكون . وهذه الأمانة تتطلب الالتزام الدائم بالقيم والأخلاقيات أكثر من الاهتمام بمظاهر القوات البدنية والجسمية ، وينطلق هذا الشعور من المزاج الطبيعي الذي أودعه الله في خلق الإنسان وتكوينه ، وإليه تشير الآية ” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ” . والإنسان إذاً بين جاذبية اثنين : وحي الله الذي ينوّر عقله ويثبت جنانه ويضيئ طريقه إلى الأمام ، ووحي الشيطان الذي يزيّن له المحرمات والخبائث ويجعله يلهث وراء المنكرات بحثاً عن الأسباب التي تجعل الحياة أكثر لذة ومتعة . الأول ما تدعو إليه فطرته السليمة ، وذلك الدين القيم ، بينما الثاني ما يجعله يتخبط في سعيه ويتعثر في سيره ، بعمي البصر وصمم الآذان حتى يكون منتهاه إلى الذل والهوان ثم إلى النار .

والإنسان بطبيعته ميّال إلى الشر ، ونفسه أمارة بالسوء ، ولن يستطيع التغلب على هذه السلبيات إلا بالعقلية الواعية التي يمدّها روح الوحي الإلهي المتمثل في الإيمان بالله والاستسلام له والإنابة إليه في السراء والضراء . والإيمان يعمل في الإنسان بدرجة أسمى وأعلى من درجات تفـوّقه العقلي والعلمي . وهو الوحيد الذي يكفل بإبقاء حب الاستطلاع وقدرة التمييز بين الحق والباطل والحرص على الصالحات .

هل يكون القـرآن معارضاً للعـلوم ؟

شاع بين الناس أن القـرآن – الوحي المنزل – يعارض العلوم ، والمرء لا يمكنه الجمع بينهما ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، لا يكـون القرآن ولن يكـونَ معارضاً للعلوم ولا منافياً لاكتشافاتها . بل وأكثر من ذلك يقوم العلم ( Science ) داعياً إلى القرآن ، والقرآن داعماً له . وقد كانت الفلسفة اليونانية منذ القدم المصدر الرئيسي للعلوم والمعارف ، وكان عليها اعتماد أرسطوطاليس وسقـراط وأفلاطون وغيرهم ، مما أقبل عليه البشرية جمعاء حيث إنهم لم يجدوا مصدراً آخر للتحصيل العلمي . ولم يلبث أن اضمحلت النظريات الفلسفية وصارت متروكةً في مزابل التاريخ ، وحل محلها العلوم ( Science ) التي أساسها التجارب العلمية وتطبيقاتها والنظريات المستنتجة منها . وكانت هي أقـرب إلى الحق عقلياً ومنطقياً مما أصبحت هي الأكثر قبولاً لدى المثقفين ، ولكن لم يكن هذا وذاك الكلمة الأخيرة والنهائية في مجال العلوم والمعارف ، والكثير من المشاكل المستعصية التي فاجأها العقل الإنساني لا تجيب عليه هذه النظريّات العلميّة المتطوّرة بصورة مقنعة . بل وقفت واجمةً صامتةً أمامها . كما أن العديد منها تعرض لتغييرات وتبديلات عبر السنوات والأجيال . ولم تستطع الفلسفة والعلوم بعدها أن تبقـى مصدراً أساسيّاً مقبولاً . وسبب ذلك واضح بسيط : كل هذه النظريات من الممارسات العلمية التي قام بها الإنسان مثلنا – الإنسان الأكثر تعرضاً للأخطاء ، قد يخيل إليه الحق باطلاً والباطل حقاً ، ولن يستطيع أي إنسان أن يفكّر ويتأمّل ويكتشف بصورة أزلية وأبدية الأمورَ التي يحتاج إليها الأجيال القادمة . وإنما في إمكانه أن يطالع الأحداث التي تحيط به والظروف التي يعيشها مما ستكون مختلفاً تماماً عن تجارب السابقين واللاحقين وظروفهم .

والوحي الإلهي تنطلق مسيرته من حيث تفشل الفلسفة والعلوم ، بل يقوم هو بتصحيح المفاهيم وتنقيح التجارب العلمية وتزويدها بالصحة والموثوقية . لأنه جاء من لدن حكيم خبير لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض . والإنسان في ماضيه الغابر وحاضره الزاهر أشد حاجـةً إلى الإلهام الرباني للسير في درب الحياة مع الثبات والاستقامة – ذلك الإلهام الذي يمنحه الوحي الإلهي بتنوير عقله وتقويم أعماله . والعلوم بمعنى ( Science ) عبارة عن البحوث والدراسات التي يقوم بها الإنسان في المخلوقات الكونية التي يديرها الله ويدبّرها بتمام التنسيق والترتيب في وظائفها . والقـرآن كلام الله ، وكيف يكون التعارض بين كلام الله وأفعاله ؟ حاشا لله ! ودعوى وجود التعارض بينهما مجرد تهمة وافتراء رمى بها المتزمتون والملحدون دين الله وكتابه لإبعاد المثقفين عنه . وهذا الكون الذي نتفيّأ بظلاله ونستضيئ بضيائه ويتربى على هوائه ومياهه لدليل قاطع على عدم وجود أيّ تعارض بينهما .

والدراسات العلمية في جميع أدوار التاريخ كانت مجرد دراسات موقتة جزئية ، دون أن يخضعوا بأنفسهم للواقع الملموس ، والوحي الإلهي هدفه واحد وحيد : البحث عن الحق والالتزام بالقيم طول الحياة . وإذا نجح الإنسان في ذلك أزاح الستار عن أوهامه وشكوكه وجعل ممارساته العلمية أكثر إنتاجاً وإثراءً .

الترميز الإلهي للدماغ البشري :

أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن الدماغ البشري تم تكوينه وتجهيزه وتخطيط آلياته وتنسيق وظائفها بحيث يناسب ويوافق الإرشادات الإلهية ، وهذا يدل على الترميز المعجز الرائع الذي أودعه الله في خلق الإنسان . ( Devine Encoding ) ، وقد تصدى لهذه الدراسات المبدعة اثنان من أساتذة جامعة بنسيلوانيا الأمريكية ، وهما الدكتور يوجين والدكتور ينو برغ ( Dr. Eugene, Dr.New Berg ) حيث قاما بتطوير مفهوم دراسي جديد باسم علوم الأعصاب المدعمة بالمفهوم الإلهي ( Neuro Theology ) . وأكدوا بدراساتهم وجود الانسجام والوئام بين المفاهيم الإلهية والتكوين الدماغي ، كما أوضحوا أن الظاهرة الجينية للدماغ خاضعة للتدخل الإلهي وتدبيره وترميزه المسبق ( The Week Magazine March 2001 ) .

ونقول : إن القـرآن هي الصورة الكتابية للدلالة على هذا الترميز الإلهي ، يؤكد للإنسان أنه مراقب من الله ، وأن الله أمامه بالمرصاد . ولم يدوّن في العالم ولن يدونَ كتاب يعجزه أو يدحضه أو يكون بديلاً   له . ويكفينا لذلك الشهادة الإلهية : ” ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ” . وكان من مشيئة الله تعالى أن سيبقى هذا الكتاب حاملاً بين دفتيه ملامح الوحي المنزل إلى أبد الآبدين ، تمثلها الآية ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ”        ( الحجر ) ، وذلك لينبه الإنسان في كل عصر إلى هذا الترميز الدماغي وأنه لا يعجز الله شيئ من كيد الكائدين ومكر الماكرين .

والقرآن دائماً يخاطب أفكار الإنسان ويناجي تطلعاته ، إن عاطفة الحب والغضب والمقت والحقد والحزن والقلق التي يضمرها الإنسان والتي لا يستطيع أحد أن يكون بمعزل منها ، يتناولها الوحي ويصقلها وينقّحها لتكون أكثر فاعليةً وإبداعاً . والحب في غياب نور الوحي يسبّب الفوضى والشذوذ الجنسي وتسود الخلاعة والمجون ، أما إذا غمره ذلك النور سوف يبقـى فاعلاً ملموساً ذا أثر بالغ في حياة الفـرد والأسرة والمجتمع . وكذلك سائر العواطف الإنسانية . ولم تحظ أعمال المفكرين من أمثال أفلاطون والداروين وتوماس مور وكارل ماركس وغيرهم باهتمام البشرية مثلما حظي به القـرآن . والعديد من المنصفين من غير المسلمين أدلوا بشهاداتهم بهذا الصدد .

ومنذ القـدم كثرت التساؤلات عن الخلق والتكوين ، وهو المجال الذي يحيّر العقول ويدهش الألباب ، ويتخذه الكثير من الملحدين سبباً للخروج من نطاق الدين والتمرد بمقوماته التشريعية ، والقـرآن يقدم جواباً شافياً حاسماً لهذا السؤال ، ويقول : ” أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ ”       ( الملك ) ، وكل التبريرات العلمية والمحاولات التجريبية تتضاءل أمام إعجاز هذه الآية .

الموقف العلمي للقرآن الكريم :

وقد انتهج القرآن في جميع آياته وتوجيهاته التربوية والتعليمية المنهج العلمي المدعم بالإيمان . يتجلى ذلك حين نستعرض آياتها بالتحليل والموازنة والتقويم . والبحوث العلمية القائمة في العالم اليوم مجرد دراسات عقلية ومنطقية ، لا يلجأ رجالها إلى الإيمان ، بل يرونه خسةً وذلةً لهم . ومعلوم لدى الجميع أن عقل الإنسان يتعرض للزيع والانحراف في غالب الأحيان ، ونفسه لا تستقر على حال ولا تطمئن إلى شيئ . وأبرز الميزة الفكرية للوحي هو أنه يمدّه بالإيمان ويقنعه بضرورة الاستسلام لله تعالى لئلا يحيد عن سواء الصراط ، وإليه يشير قوله تعالى : ” يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ ” ( إبراهيم : 27 ) .

وهناك توجيه قرآني آخر يجدر الوقوف لديه : وذلك قوله تعالى :   ” كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ” ( الأنعام : 125 ) ، ” وَمَا تُغْنِى ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ” ( يونس : 101 ) ، وهذه الآيات وأمثالها تدل دلالةً واضحةً على تراكم الأنجاس العلمية في نفس الإنسان وعقله ما لم يطمئن إلى الإيمان ويقبل على الطاعة . والعلوم رغم ما فيها من الحداثة والروعة تحجزه عن الاسترشاد والتنوير الذاتي ، بل يطاول رجالها في بعض الأحيان بتكبرهم واختيالهم كما هو يتمثل ذلك في حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ” لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا خلق الله الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ”         ( صحيح مسلم ) ، هذا هو المطاولة الفكرية التي تنجس الإنتاجات العلمية ، والإيمان بالله ليس يكفيه الاستدلال المادي والاستنباط التجريدي ، ولا يمكننا مواجهة مثل التساؤلات بإعلان ما في ضميرنا من الإيمان والإنابة . والقرون الغابرة في التاريخ حاول أفرادها تعتيم بهاء الوحي وإشراقه بما كان لديهم من العلوم المكتسبة حتى صارت هي بلاءً لهم ووبالاً عليهم . والله يشير إليهم ويقول :  ” فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( غافر : 83 ) ، وأساس العلوم المكتسبة هو التجارب التي يتوصل إلهيا الحواس الخمس ، حتى في تلك التجارب يطلب منا القـرآن التسلح بالموقف المدعم بالإيمان . كما يرشدنا الذكر الحكيم أن نجعل كل هذه التجارب والعلوم حكمةً خالدةً في الأذهان بحيث لا تنسى ولا تمحى ، وهذا لا يتم إلا بالتنوير الذاتي الذي يمنحه الوحي . ويكشف القرآن صورة من تكبروا أمام الحق وتحدوا التدخل الرباني في حياتهم ، ولم يزدهم موقفهم الإنكاري إلا الهوان والازدراء . وإليه يشير قوله تعالى : ” وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( الأحقاف : 26 ) ، والآية تؤكد للعالم المعاصر أن العلوم الكونية قوامها الوحي الإلهي – المصدر الأبدي والأكمل للتفوق العلمي والتميز الفكري .

شمولية العلوم الإلهية :

ويحاول المنكرون أن يجهروا بمواقفهم السلبية ، ويكاد يقول أحدهم : ” ينبغي أن تكون العلوم الإلهية وتطبيقاتها مثلما يتناول الإنسان علومه ، وأننا لا نقبل من الله أي تدخل إلا بما نرضى به لأنفسنا ” . وقد ساقهم هذا الموقف إلى هوة الأزمة الفكرية . وفي الحقيقة لا يمكن الاطلاع على كنه العلوم وشموليتها إلا بالبصيرة والباصرة التي يقودها وينورها الوحي . وانظروا إلى شمولية العلوم الإلهية المتمثلة في الآية : وَلَوْ أَنَّمَا فِى ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( لقمان : 27 ) ، والآية دليل على قصور الإنسان في البحث عن العلوم والمعارف التي يملأ الكون والكائنات ، حتى ولو أنفق عمراً كاملاً للتحصيل العلمي فيما يحيط به لما يستطيع ذلك إلا بمقدار ما يأخذه الطير بمنقاره من ماء البحر . ويقول تعالى أيضاً : ” وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء : 85 ) ، جاء ذلك في معرض الكلام عن ماهية الروح ، التي لا يمكن دراستها بمجرد الوقوف على العلوم المادية ، ولا يتطرق إليها إلا بالاعتماد على الإيمان . وما أحسن ما قال العالم الكبير آلبرت أنستين (Albert Einstein  (1955م) ) بعد أن عكف على العلوم وخاض سهولها وأغوارها ، إلا أنه تيقن بنفسه في نهاية المطاف أنه لم يبلغ بعلمه وفهمه عُشر معشار ما في هذا الكون ، وهو يقول : ” العلوم بدون ديانة تكون عرجاء ، والديانة بدون علوم تبقى عمياء . (Science without        ( religion is lame, and religion without science is blind .

والموقف الديني السديد يتطلب الجمع بين التنوير الديني والتجديد العلمي ليمكن المسلم أن يأخذ من الأول النافع الصالح ، ومن الثاني الجديد الرائع ، حتى نُثبت أمام العالم أن الوحي الإلهي هو الوحيد المتصف بالراهنية والأبدية .