التعليم النبوي : طرقه وأساليبه ووسائله
مايو 28, 2023المؤامرة الغربية ضد المرأة المسلمة
يونيو 23, 2023الدعوة الإسلامية :
مشروعية الحوار وأهدافه والحاجة إليها
بقلم معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله العمار *
تضمن القرآن الكريم الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن موضوع الحوار ، والحجج العقلية التي يستخدمها القرآن الكريم ، فلما أراد الله عز وجل خلق آدم عليه السلام ، حصل حوار عظيم بينه وبين الملائكة الأبرار عليهم السلام ، وبقي هذا الحوار خالداً يُتلى إلى قيام الساعة ، حيث قال الله : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ . قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) [ البقرة : 30 – 33 ] .
والمحاورة هي سنة الأنبياء مع أقوامهم ، فقد حدثنا القرآن الكريم في الكثير من الآيات الشريفة عن الحوارات التي عقدها الأنبياء عليهم السلام مع الأقوام الذين بُعثوا إليهم ، حيث كان تبليغ رسالتهم ودعوة الناس إلى الحق إنما يقوم أساساً على الحوار الهادئ .
وقد وهب الله نوحاً عليه السلام جلداً وصبراً في جداله مع قومه ، لإقناعهم بالحق ، ولبث فيهم زمناً طويلاً ؛ يجادلهم بشتى الصور والوسائل ، فنراه في حواره مع قومه اعتمد الحوار العلمي إلى أبعد الحدود ، وخاطبهم بالتي هي أحسن ، قال : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ . فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْى وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ . قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ . وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ . وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ) [ هود : 25 – 31 ] .
وقال سبحانه وتعالى : ( قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً . وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً . ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً . ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً . فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ) [ نوح : 5 – 10 ] .
وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فسيرته العطرة زاخرة بالمواقف الحكيمة التي حاور فيها قومه وحاجَّهم ، وقد كان له النصيب الأوفى والأكمل من معنى قول الله تعالى له : ( ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ) [ النحل : 125 ] .
أهداف الحوار :
للأهداف أهمية كبيرة في الحوار ، إذ أن هدف الحوار هو ثمرته المطلوبة . كما أن الهدف من الحوار يحدِّد موضوعاته وأساليبه . ثم إذا كانت الأهداف مشروعةً فإن معرفتها مهمة لمعرفة مدى نجاح الحوار ، لأن نجاح كل شيئ متعلق بتحقيقه لأهدافه الموضوعة . وهكذا يصبح الحوار من المناهج الشرعية المعتمدة لتحقيق الأهداف التالية :
– تثبيت العقيدة الإسلامية بالبراهين العقلية التي اعتمدها القرآن الكريم في مناهجه للدفاع عن العقيدة الصحيحة .
– كشف المناهج الجدلية السوفسطائية والأدلة المناقضة لما يقتضيه العقل السليم .
– الحرص على الوصول إلى الحق ، وتضييق هوة الخلاف ما أمكن . وتقريب وجهات النظر . فإننا نعيش في عصر كثرت فيه الخلافات ، وليست المشكلة في وجود الخلاف ، إذ وجوده أمر طبيعي ، ولكن المشكلة في ما قد يؤدي إليه الخلاف من فرقة وتباغض وتناحر ؛ عندما يعجز المختلفون عن التفاهم بالمحاورة أو يغفلون عن ضرورة الالتقاء لتقريب وجهات النظر أو يقللون من قيمة الحوار المعرفي الجاد .
– بيان الباطل الذي عليه الخصم ، والرد على الشبهات والطعون الموجهة ضد الإسلام ، وذلك لإظهار الإسلام كما هو من كمال وجمال ، ولإقامة الحجة على المخالف ، ولإظهار الباطل على حقيقته حتى يحذره الآخرون ، ولتستبين طرق الضلالة كما قال سبحانه وتعالى : ( وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ ) [ الأنعام : 55 ] .
أهمية الحوار والحاجة إليه :
يمكن معرفة أهمية موضوع الحوار من خلال كثرة استعمال الحوار في الكتاب والسنة ، وكثرة وقوعه من الأنبياء ، بل تكراره واستخدامه في التاريخ كله فلا يخلو منه زمان ، ولم يستغن عنه نبي ، ولا عالم ، ولا داعية .
وقد أكد القرآن الكريم في كثير من آياته على أهمية الحوار وقد قامت عليه الدعوة إلى الله تعالى منذ أن خُلِق البشر ، يقول سبحانه وتعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ) [ البقرة : 30 – 31 ] . فالآية توضح الحوار بين الله سبحانه وتعالى خالق الكون ، وهو الذي على كل شيئ قدير ، وبين ملائكته .
كما أكد على أهمية الحوار والجدل بين أصحاب وجهات النظر المختلفة ، وأصحاب الحضارات المختلفة . فقد علّم القرآن أتباعه كيف يجب أن يكون الحوار ، قال سبحانه وتعالى : ( وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ) [ العنكبوت : 46 ] . وذلك لأن الأسلوب الهادئ الحكيم هو الذي يستميل قلوب المخالفين ، ويجعلهم يستمعون للرأي الآخر بقلوب مفتوحة ، ولهذا قال ابن خطيب الري : ” وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيئ من السب ، والشتم لقابلوكم بمثله كما قال : ( وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) [ الأنعام : 108 ] ويزداد الغضب ، وتتكامل النفرة ، ويمتنع حصول المقصود .
أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء ؛ أثر في القلب تأثيراً شديداً ، فهذا هو المراد من قوله : ( وَقُل لِعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ الإسراء : 53 ] ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال : ( إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَعُ بَيْنَهُمْ ) [ الإسراء : 53 ] جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرةً ممزوجةً بالبذاءة ؛ صارت سبباً لثوران الفتنة ” [1] .
وقد أكد القرآن الكريم على ذلك فيما أورده من مواقف متعددة من حوارات الأنبياء مع أتباعهم . فالأنبياء وهم المؤيدون من الله تعالى يتخذون أسلوب الحوار مع بعض أقوامهم المعاندين الذين يرفضون دعوة هؤلاء الأنبياء . فهذا حوار نبي الله إبراهيم عليه السلام مع النمرود : يقول الله سبحانه وتعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّىَ ٱلَّذِى يُحْيِـى وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـى وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 258 ] . وغيرها من أنواع الحوارات .
وكان منهج الحوار مع الحضارات هو سبيل الدولة الإسلامية في التعامل مع الشعوب الواقعة تحت لوائها ، فالكل يعملون في مناخ يتسم بالحرية والتسامح والسلام والطمأنينة ، وامتزجت شعوب كثيرة اختلفت لغاتها وأديانها وعاداتها وتقاليدها وصارت التعددية سمة المجتمع الإسلامي تعددية في الأديان واللغات والمذاهب ، ونتج عن ذلك حضارة خاصة سداها العروبة ولحمتها الإسلام .
ولم تقف الفتوح الإسلامية من الشعوب المغلوبة موقف القهر ، أو نفي الثقافة ، أو إلغاء الهوية الخاصة ؛ مثلما فعل التتار ، كما لم يحاول العرب فرض ثقافتهم بالقوة ، مثلما فعل الغرب الاستعماري في الشرق .
ولأهمية الحوار ، أعطى الإسلام كل طرف قيمته ، يقول سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن النصارى : ( إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ) [ آل عمران : 33 ] . كما يصف أشد الناس عداوةً لنا اليوم بما كان عليه الصلاح منهم البارحة : يقول سبحانه وتعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [ السجدة : 24 ] .
وإضافةً إلى كثرة استعماله كما تقدم ، فإن أثره الإيجابي في الواقع ، أكبر دليل على أهميته ودوره ، ومن ذلك الحوارات المصيرية الحاسمة الكثيرة التي كانت سبباً في كبت الفتن ، وتوحيد الكلمة ، وإنهاء النزاع والخلاف ، كالحوار الذي كان بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة ، والذي انتهى بمبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة . وهذا يدل على أهمية الحوار وضرورته .
ولا يمكن إنكار أهمية حوار الحضارات ، فهذا الحوار ليس فقط للدفاع عن الذات في مواجهة الآخر ، وإنما هو خطوة نحو تصور جديد لعالم متكامل في الشرق والغرب ، تجتمع فيه الخصوصيات الحضارية التي أسهمت في رقي الإنسان ، لذا فهو حاجة إنسانية لأجل التعايش الإنساني ، ولمقاومة أسباب التخلف والأمراض والحروب ، كما أنه أسلوب حضاري لاختيار منهج متميز لتكوين مشروع حضاري واحد يسهم في تحقيق النمو والتكافل ، وخلق الظروف المناسبة للسلام الذي تسعى إليه البشرية [2] . ولقد قدم الإسلام تجربته الحضارية مستمدةً من مصادره الأساسية ، وهذه التجربة لم تتوقف ، بل هي قادرة على الإبداع عن طريق الاجتهاد المتجدد .
فالحوار وسيلة للتعبير عن الرأي ، وأسلوب حياة ، وتأطيره لتحقيق التعايش من خلال منهجية شاملة تلتزم بالأصول والضوابط الشرعية ، ويعتبر الحوار إحدى المبادئ الفطرية التي أوجدها الله سبحانه وتعالى في الإنسان ، والشريعة الإسلامية – من سنن الله – لا تصطدم مع الفطرة . كما أنها أولت الحوار أهميةً كبيرةً كوسيلة للتعبير عن الرأي ، وعن ما يدور في مخيلة الفرد ؛ لتحقيق الأهداف والمصالح الإسلامية .
* وكيل وزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد سابقاً ، المملكة العربية السعودية .
[1] التفسير الكبير ، فخر الدين الرازي ، ج 20/232 .
[2] التصور الإسلامي لمنهجية الحوار الحضاري ، د . محمد فاروق النبهان ، ص 23 ، وانظر : حوار الحضارات لغارودي ، ص 155 ، 170 .