لمن الحق اليوم

حقيقة الإيمان بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم
مارس 3, 2024
عظمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ( الحلقة الأولى )
أبريل 27, 2024
حقيقة الإيمان بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم
مارس 3, 2024
عظمة النبي صلى اللّه عليه وسلم ( الحلقة الأولى )
أبريل 27, 2024

الدعوة الإسلامية :

لمن الحق اليوم

بقلم : الدكتور اشرف أبو أحمد *

يختلف الناس والمجتمعات فيما بينهم على من هو على صواب ومن هو على خطأ ، ومن هو على حق وغيره على باطل ، وإزاء تمسك كل طرف بما هو عليه ، وتوهمه بأنه هو الصائب ، واستماتته في الدافع على ما يعتقده ، تبدأ بينهم المناوشات والتي قد تتصاعد إلى مشاحنات ومشاجرات ، وقد تتطور إلى معارك وحروب يرصد لها كل طرف ، ما أوتي من قوة وعتاد ، ليكبد الطرف الآخر أقصى ما يمكن من خسائر ، غير مكترث بما يسفكه من دماء ، وينتهكه من أعراض ، ويهدمه من مبانٍ ومنشآت ، يندى لها جبين الإنسانية كلها ، ويبكيه تاريخها على مر العصور ، وقد يتوقف ما بينهم عند حد التقاطع والتباغض أو كظم الغيظ والغضب الصامت ، حيث يكبت كل طرف آراءه وانفعالاته ، مؤثراً السلامة والحفاظ على علاقاته بالطرف الآخر ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً . ويتبلور مثل هذا الاختلاف في كثير من أمور حياتنا الأسرية ، بل والمجتمعية فتمتد لتشمل نظام الحكم والقائمين عليه وهيئاته ومؤسساته والأحزاب من بينها ، وتطال كذلك أهل الملل والنحل ، والدول المتقدمة والمتخلفة في مجتمعنا الدولي الكبير ، لا يختلف فيها الصغير عن الكبير ، المرأة عن الرجل ، الجاهل عن المتعلم ، العاطل عن العامل ، الغني عن الفقير ، الرئيس عن المرؤوس ، وسواء كان ذلك في علياء الأمور أو سفاسفها ، والجاد منها أو الهزل .

بدايةً من الأسرة حيث يبدأ سجال بين الآباء والأبناء منذ نعومة أظافرهم ، فالطفل في إصراره على شراء لعبة أعجبته ، يظن أن الحق معه ، لأنه من حقه أن يتمتع بطفولته ، وأن على والده أن يستجيب لرغبته ، ولا يدير بالاً لظروف والده وإمكانياته المادية ، وعلى الجانب الآخر يرى الأب أن لديه أولويات أهم من هذه اللعبة ، تحول دون تنفيذ رغبة الابن ، وأنه على صواب في ذلك . وهذا المراهق الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشر بعد ، يرى أن نظرته للحياة صائبة ، بل وأصوب وتفوق نظرة والديه ، والذي عمر أي منهما أضعاف مضاعفة عمره ، وقد شدت الحياة من عضدهما ونضجا بتجاربهما واستويا بخبراتهما ، ويستمر الحال هكذا في غالبية أمور حياتهم ، وصولاً لمرحلة الزواج ، حيث يرى كل من الابن أو البنت ، أن من حقهما اختيار شريك الحياة كما يحلو لهما ، غضين طرفهما عن قليل أو كثير من الاعتبارات ، بينما يرى الأب أنه من حقه أن يطمئن على أبنائه مع من يناسبهم وعائلتهم مادياً وخلقياً واجتماعياً ، ومثل هذا السجال يحدث كثيراً بين الزوج وزوجته ، والأخ وأخيه ، وبين الأقارب داخل الأسرة الواحدة ، وبين الجيران في المسكن أو الحي الواحد ، عند مناقشاتهما لمختلف أمور تسير معيشتهم ، كما يراها كل فرد بما يحلو له .

الطالب في المدرسة أو الجامعة لا يرضى عن المعلم ، وطريقة تدريسه ، ويظن أنه لا يعطي للمهنة حقها ، في حين أن هناك كثيراً من العوامل ، والتي لا دخل للمدرس فيها ، تجعلهم غير مهيئين لاستيعاب ما يدرس لهم ، والمعلم يرى أن مهنته لا تكفل له حياةً كريمةً ، فيضطر إلى جلب طلابه للدروس الخصوصية ، لتعويض ما ينقصه من حاجات معيشية ، وملزماً بتفضيل من يدفع على غيره شرحاً واهتماماً . وفي مجالات العمل المتنوعة ، يلاحظ الاختلاف بين العاملين وبعضهم ، وبين العاملين وصاحب العمل أو القائم عليه ، ومثال ذلك عندما يوقع رب العمل جزاء على مرؤوس له لأي سبب ، مثل التأخير مثلاً ، يرى أنه يحترم قوانين عمله ، ويطبق اللوائح وإذا لم يفعل ذلك يكون مقصراً ، بينما يرى المرؤوس أن رئيسه يخلو من الإنسانية ، ولا يقدر ظروفه ، وربما يكون تأخيره لسبب خارج عن إرادته . ومثال آخر حيث يرى كل عامل أن العمل لا يقوم له قائمة إلا به هو ، وعلى كتفيه هو دون غيره ، ومع ذلك يرى أن زملاءه مميزين عنه في المكافآت والمراكز ، فينتاب كلا منهم مشاعر سلبية تجاه العمل وبعضهم البعض . وفي نفس المجال نجد الصراف أو المحصل الذي يقتطع لنفسه مبالغ قليلة من استحقاقات الممول أو المورد أو الموظف ، يظن أنه على صواب ، فهذه المبالغ ستجمل معه في النهاية مبلغاً هو في حاجة إليه ، ولن تؤثر كثيراً في أي منهم ، في حين يرى كل منهم أنه لا يستحق ذلك لأنه يأخذ راتباً على وظيفته . الطبيب عندما يغالي في تكاليف علاجه للمريض يظن أنه على صواب ، فقد اجتهد وتعب حتى وصل إلى ما هو عليه من مكانة علمية واجتماعية ، وجاء الوقت ليجني ثمار جهده ، والمريض يرى أنها مهنة سامية ، وليس بضاعة معروضة في مزاد لمن يدفع أكثر ، ومن حقه أن يتمتع بكل رعاية واهتمام ، ولا يكون حقل تجارب لصغار الأطباء وقليلي الخبرة . وينطبق هذا أيضاً على كل صاحب مهنة عندما يغالي في أجرة عمله ظناً منه استحقاقه لذلك ، في ظل ارتفاع أسعار الخامات والمنتجات ، وتزايد الطلب على حرفته ، لسعة خبرته وحسن سمعته ، بينما يظن العميل أنه يطالب بأكثر مما يستوجب ، وأن ما يقوم به لا يستحق كل هذا الأجر . وفي مجال التجارة لا يخفى على أحد حدة الجدال الدائر بين البائعين والمشترين ، على مر الأزمنة والعصور ، ودائماً وأبداً التجار في مرمى الاتهام بالجشع والطمع واستغلال الأزمات ، بينما التجار يلقون أسباب ذلك على المسئولين عن ارتفاع أسعار المنتجات الأولية سواء لقلة الناتج المحلي أو لقلة المستورد ، وغلو تكلفة الشحن والنقل والتخزين ، وزيادة أجرة العاملين في مختلف الخدمات المساعدة في نفس المجال . ولا يفوتنا التنويه عن العلاقة بين المالك والمستأجر سواء للعقارات أو للأراضي ، حيث يرى المالك أن ثبات قيمة الأجرة وكذلك التخفيضات التي تناوبت عليها ، لا تتماشى مع التغيرات الاقتصادية وفيها إجحاف شديد له ، وفي كون العقار أو الأرض استثمار له ، بينما يرى المستأجر أن ما دفعه من أجرة في الفترة السابقة يعادل بل يفوق ثمن العقار أو الأرض ، رافعا شعار الأرض لمن يزرعها والعقار لمن هو واضع يده عليه ، وفي منحى آخر نجد المختصمين في القضايا ، وهم كثر أكثر مما تستوعبهم المحاكم والقائمون عليها ، فلا يوجد بيت مدر ولا وبر إلا وله في المحاكم قضية ، كل خصم يدعي ويظن إنه على حق ، وخصمه على باطل ، وإن حكمت المحكمة لطرف لا يرضى الطرف الآخر بالحكم ، وتظل تساوره الشكوك حول مصداقيته . وهكذا كل علاقة مهما كان نوعها تجمع بين طرفين أو أكثر يشوبها منغصات وما يعكر صفاءها ، بسبب تنازعهم للحق فيما بينهم ، فكل طرف ينسبه لنفسه ويسلبه من الآخر ، سواء بسند شرعي أو بغير سند .

وعلى مستوى الدولة ترى إنها على صواب ، فيما تفرضه من قيود على بعض أو كل الحريات المفروض تمتع مواطنيها بها ، وعلى كل ما تفرضه من ضرائب ورسوم ، لتوفير الخدمات العامة من بنية تحتية ومحطات المياه والكهرباء وإصلاح الطرق والخدمات التعليمية والصحية وغيرهم ، والمواطن يرى أن مثل هذه القيود تأتي بنتائج عكسية على استقرار البلد وحبه لها وانتمائه إليها ، ويرى فيما تجتبيه وتنفقه من أموال لا يعود عليه وعلى سائر الطبقات الفقيرة بأي نفع أو فائدة . وعلى غرار ذلك تسير الأحزاب ، فكل حزب يرى أنه على صواب في منهجه ومبادئه ، وأنه وحده يمتلك الحلول لمشاكل البلد بل وللكون أكمله ، وأنه أولى من غيره في إدارة شئون البلد ، لامتلاكه من الكوادر والشعبية التي تحقق له ذلك ، ولكن تتخذ ضده إجراءات غير مشروعة لمنع وصوله لما يستحق . والفرد عندما ينتمي لحزب يكون ولاؤه الأول والأخير لهذا الحزب ، يدافع عنه حتى إذا كان على خطأ ، غير مدرك أن هذا الحزب لم يؤسسه سوى أفراد مثله ، رأيهم يحتمل الخطأ والصواب ، وليسوا ملائكةً منزهين ، ولا يوجد فيهم أحد معصوم . وكذلك أصحاب وأهل النظريات والمناهج والبرامج الفلسفية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية ، وصفوة رجال الفكر والعلم والثقافة ، بينما تختلف اتجاهاتهم وتتباين مآربهم ومشاربهم ، حسب البيئة التي نشأوا فيها ، والطبائع التي انطبعوا بها ، والثقافة التي تحصلوا عليها ، ومن ثمة تتفاوت حدة الاتفاق والاختلاف بينهما في أطروحاتهم . تجد كلا بما لديهم فرحون ، كل من هؤلاء بما هم به متمسكون ، فرحون مسرورون يحسبون أن الصواب معهم دون غيرهم ، ومنهم من يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أولئك الذين يعمرون دنياهم بخراب آخرتهم . ووصولاً لأهل الملل حيث يعتقد كل أهل ملة أنهم أهل الإيمان وحدهم ، وغيرهم من أهل الملل الأخرى أهل كفر أو شرك ، وعدا أهل التوحيد الحق ، فهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق ، قال تعالى : ( وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ كَذٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) [ البقرة : 113 ] أي قالت اليهود ليست النصارى على شيئ من الدين الصحيح ، وكذلك قالت النصارى في اليهود ، وكل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، كذلك قال الذين لا يعلمون من مشركي العرب وغيرهم مثل قولهم ، أي قالوا لكل ذي دين : لست على شيئ ، فالله يفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين ويجازي كلاً بعمله . وقال تعالى : ( وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) [ التوبة : 30 ] ، والله عز وجلَّ الواحد الأحد المنفرد بالكمال ، له الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال المقدسة ، لا نظير ولا مثيل له ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، لا في أسمائه ولا أوصافه ولا في أفعاله ، قال تعالى : ( قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ . ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) [ الإخلاص : 1 – 4 ] ، وزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فرد عليهم القرآن في قوله تعالى في سورة المائدة الآية 18          ( وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ) بل ادعى كل من اليهود والنصارى أن الجنة خاصة بطائفته لا يدخلها غيرها ، فرد عليهم القرآن في قوله تعالى : ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ البقرة : 111 ] ، بل وداخل الملة الواحدة افترق أهلها للعديد من الفرق ، كل واحدة منها تعتقد أنها على العقيدة الصحيحة ، ومثيلتها على العكس منها ، قال عليه الصلاة والسلام :      ” افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل : ما هي يا رسول الله ! قال عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه وأصحابي ” .

وعلى مستوى الدول ، فمنها من يرفع شعار القوة فوق الحق ، ولا يعنيها أكانت على حق أم على باطل ، وما يعنيها هو احتلال الدول المسالمة ، والاستيلاء على أراضيها ، ونهب ثرواتها ، وإبادة أهلها أو تهجيرهم ، ومنها من يظن أنه على حق كالاتحاد السوفيتي سابقاً والذي انتهج الشيوعية منهجا له وأسلوب حياة ، وكان يعتبر القوى العظمى الثانية في العالم إلى أن انهارت الشيوعية وانهار كل شيئ معها ، واستقلت دول كثيرة عنه كل منها قائم بذاته ، والآن تظن الدول الغربية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوربا ، وتنتهج الرأسمالية منهجاً لها وأسلوب حياة أنهم على حق ، ويبررون ذلك بتقدمهم وتفوقهم في كافة الميادين ، وخضوع كثير من دول العالم لهم ، استسلاماً أو قهراً ، ولكن الأيام دول ، فقد كانت قبلهم حضارات أقوى بكثير ، وسادت الأرض قروناً طويلةً ، واستسلم لها معظم سكان العالم ، ولكنها دامت فترةً ثم طواها التاريخ ، وكتب عليها النسيان ، قال تعالى :   ( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِى ٱلأَرْضِ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) [ غافر : 82 ] ، وقال تعالى في سورة القصص الآية 78 ( أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ) ، والقرآن يكرر لنا ما شابه ذلك في قوله تعالى في سورة الكهف 35 – 36 ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً . وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ) أي دخل إحدى جنتيه فقال : ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبداً ، وما أظن القيامة حاصلة ، ولو فرض ورجعت إلى ربي لأجدن خيراً من هذه الجنة ، عاقبةً لي ، لأنني من أهل النعيم في كل حال ، وقد عاجله الله بالعقاب ، وأحاطت المهلكات بثمار جنته ، وأهلكتها وأبادت أصولها ، فأصبح يقلب كفيه ندماً وتحسراً على ما أنفق فيها ، وتمنى أن لم يكن يشرك بربه أحداً ، ولم تكن له عشيرة تنصره من دون الله ، قال تعالى في سورة الكهف الآيات 42 – 43 ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَداً . وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ) وهذا نفس خطاب كثير ممن يملكون القوى والثروة ويسخرون التكنولوجيا والتقدم العلمي لامتلاك الأرض ومن عليها والكون ومن فيه ، يسيرون على نفس الدرب ظناً أن قوتهم لن تفنى ، وثرواتهم لن تباد . وهؤلاء وأولاء وأولئك إذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، بأي صورة من صور الفساد التي يملأون أركان المعمورة بها ، كان جوابهم إنما نحن مصلحون ، هكذا يظن كل شخص بنفسه إنه هو المصلح ، وهو لا يشعر بحاله ، قال تعالى في سورة البقرة الآيتان 11 – 12 ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) أي أنهم يعتقدون أنهم يصلحون في الأرض ، والقرآن يصفهم بأنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ، ويا لها من مصيبة أن تفسد في الأرض ، ولكنك لا تشعر بما تفسده ، ولا تشعر بأنك من المفسدين ، ولا تدرك من شأن نفسك شيئاً ، مع أن أثر الفساد ظاهر في العيان ، مرئي لكل ذي حس ، ( إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) [ ق : 37 ] وعدم شعور الشخص بحاله ، ومدى شناعة فعلته ، وإحساسه بجرمه ، يصل به إلى هلاكها ، قال تعالى : ( وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ الأنعام : 26 ] ، وقال عز وجل : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ آل عمران : 69 ] ، وقال جل وعلا : ( وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ الأنعام : 123 ] ، وقال تعالى : ( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ النحل : 21 ] ، ومن هؤلاء الناس من وصفهم القرآن الكريم بقوله تعالى : ( وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ . يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ . فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) [ سورة البقرة : 8 – 10 ] يخدعون أنفسهم وما يشعرون ، فما بالكم بشخص يخدع نفسه ، يخدعها بأن يوحي لها أنه على الحق ، وأن ما يقوم به هو الحق بعينه ، وما عليه غيره وما يقوم به هو الخطأ ، ويعتقد ذلك ويصدق نفسه ، ويعيش على ذلك ، فمثل هذا ومن على شاكلته ، شخص القرآن حالتهم بقوله تعالى ( فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) هؤلاء انتكست قلوبهم وانعكست بصائرهم ، فأصبحت تعتقد وترى الفساد صلاحاً والصلاح فساداً ، والحق باطلاً والباطل حقاً ، والشر خيراً والخير شراً ، والإنسان عندما يمتلئ قلبه بالجحود والعناد لا يفيد معه أي دليل على الحق . والباطل مهما علا وطال أمده ، فسيأتي زمان يخبو فيه ويخمد ، ويعلو الحق ويرتقى ، قال تعالى : ( بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) [ الأنبياء : 18 ] ، وقال تعالى : ( وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ ) [ الأنفال : 7 – 8 ] ، وقال تعالى : ( لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) [ سورة الزخرف : 78 ] ، وقال تعالى : ( مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ . كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ . وَكَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ) [ غافر : 4 – 6 ] .

وأخيراً : فإن الاختلاف في الرؤى طبيعة بشرية ، فكل شخص له رؤيته الخاصة للأشياء والأحداث ، تنبع من عقيدته وتربيته والبيئة التي  تحيطه ، ومن الجميل أن نحترم الآراء المختلفة ، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ، وليس من الضروري أن يكون كل اختلاف سيئاً ولا كل مختلف معناً عدواً لنا ، والأصوات عندما ترتفع بالنقد والترجيح ، والتقديم والتأخير ، بل والتجريح ، مسموح به ومعفو عنه ، متى قامت على حسن نية وابتغاء مرضاة الله ، وفي إطار من الآداب العامة ، لكن أن يصفك من تختلف معه في الرأي ، بأسوأ الألفاظ ، ليس لأن رأيك خطأ أو صحيح ، بل لأنك خالفت رأيه ، فهذا من مسببات تطور وتصاعد الخلافات إلى ما لا تحمد عقباه ، وكذلك فإن احترام الشخص لذاته وفكره ولمن يحدثه ، والبعد عن الكبرياء والنظرة الدونية لمن يخالفه ، يكسبه احترام الناس ومحبتهم ولا يفقد مهابتهم له .

ومن هنا فإننا نناشد الأمة في عقلها وقلبها ، في شبابها وشيوخها ، في رجالها ونسائها ، في حكامها ومحكوميها ، في علمائها وفقهائها ، في مثقفيها ومفكريها وحكمائها ، أن يجتمعوا حول كلمة سواء ، توحد كلمتهم ، وترص صفوفهم ، وتؤلف بين قلوبهم ، لتصون للوطن حرمته ، وللناس كرامتهم وللحياة أمنها ولأمتنا حضارتها وللعالم كله السلامة والتعاون ولتحقيق الهدف الذي من أجله خلق الكون بأسره .

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .

* جمهورية مصر العربية .