الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا : رائد من رواد الأدب الإسلامي
نوفمبر 3, 2021السيد علي الهمذاني وأسلوب دعوته في كشمير
نوفمبر 3, 2021رجال من التاريخ :
عبد العزيز جاويش
الشيخ الذي رفض منصب شيخ الإسلام
الدكتور غريب جمعة – جمهورية مصر العربية
( الحلقة الأولى )
هو عبد العزيز بن خليل جاويش الذي ولد بمدينة الإسكندرية عام 1263 من الهجرة الموافق 1876م ، وانتقل إلى جوار ربه عام 1347هــ الموافق 1929م رجل يعلوه الوقار في غير غرور وتحيط به المهابة في غير صلف ، وفيه تواضع هو زينة العلماء وأدب هو حلية الكبراء ، إذا رضى كان حديثه كالماء الزلال ينساب في سلاسة موج وحلاوة نغم وعذوبة طعم مع ابتسامة وضيئة وبريق لعينيه جذاب .
وإذا غضب كان أسلوبه كصيب من السماء فيه رعد عاصف وبرق خاطف وصواعق محرقة ، يصدع بالحق في وجه من يحادثه كائناً من كان لا يبالي أوقع على السجن أم وقع السجن عليه بسبب ما جهر به من حق يصفع الباطل مهما كان قائله ويزرى بمن يصاوله . كافح في ميدان العمل السياسي والصحفي والتربية والتعليم فكان نموذجاً مشرفاً من النماذج الإسلامية التي ترجو الله واليوم الآخر ، ولا تلهث وراء دنيا فاتنة أو تبغي حظوةً عند كبير أو وزير .
التحق عبد العزيز بالأزهر عام 1892م حيث أمضى فيه عاماً وبضعة أشهر ، وكان من بين من استمع إليهم الشيخ محمد عبده ، وكان لا يكتفي بما يسمعه في الأزهر بل يتردد على صحيفة ” المؤيد ” ثم التحق بدار العلوم وتخرج فيها ، وتم تعيينه عقب تخرجه مدرساً بمدرسة الزراعة عام 1897م .
وبعد فترة قصيرة تم اختياره مبعوثاً إلى إنجلترا ليدرس في إحدى الجامعات بلندن حيث مكث بها ثلاث سنوات رأى فيها عن قرب ما بلغته التربية الإنجليزية في مدارس إنجلترا من امتياز وتفوق على ما سواها مما كان سبباً في نهضة البلاد حتى بلغت المستوى الذي مكن أبناءها من السيطرة على أبناء الدول الأخرى واستعمار بلادهم في قارات الدنيا حتى قيل عن بريطانيا : المملكة التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها .
وقف الرجل أمام هذا التميز والتفوق متأملاً ، ووازن بينه وبين انحدار مستوى التعليم في مصر على أيدي المحتلين الأجانب وعندئذٍ أدرك تمام الإدراك أن أساس النهضة لأي أمة من الأمم هو إصلاح التعليم حتى تبقى حرةً كريمةً عزيزةً الجانب . وعاد الرجل إلى مصر وفي رأسه خطة بينة المعالم واضحة الأهداف لإصلاح التعليم .
وبعد عودته إلى مصر أسندت إليه وظيفة التفتيش على المدارس وكان لوزارة المعارف في ذلك الوقت مستشاراً إنجليزي يدعى ” دنلوب ” هو المتصرف في مناهج التعليم والحاكم بأمره في الوزارة . ولنقرأ ما قاله واحد من الأجانب الإنجليز في حق دنلوب وحق سياسته التعليمية هو المستر ” بويد كارينز ” .
” على المستر ” دنلوب ” تقع تبعة فساد التعليم المصري والرجوع به القهقهري وإخراج موظفين جل اعتمادهم في أثناء دراستهم على الاستظهار والحفظ لا على القوى العقلية السامية الأخرى من التعقل والموازنة والابتكار والاستنباط . وقال : إن الطالب المصري يعتمد في تحصيله على ذاكرته وعلى التكرار الآلي للحقائق المحفوظة ، لا على ذكائه وتفكيره فينشأ عن ذلك ضيق أفقه وجهله بالحوادث المعاصرة وحاجته الشديدة للمعلومات العامة وللسرور والإقبال على ما يدرس ” .
ويعلق على ذلك الأستاذ عمر الدسوقي في الجزء الثاني من كتابه القيم ( في الأدب الحديث ) بقوله : ” وهكذا لم يكن دنلوب مخلصاً لمصر بل كان استعمارياً من النوع الذي يسيئ لبلده وللبلد المحكومة على السواء ، فسياسته التعليمية لم تكن هي التي تنتهبها إنجلترا في تعليم أبنائها وتربية شبابها ، لأن الإنجليز قد اشتهروا بنوع من التربية فيه كثير من المزايا التي تبعث في الشباب الحرية في العمل والتفكير والاعتماد على النفس والمغامرة في الحياة وارتياد مجهولاتها . وبفضل هذه التربية الاستقلالية التي لا تحدها نظم مدرسية صارمة ولا قوة قوانين ظالمة ولا مناهج غاصة بالتافه من المعلومات ، وإنما عمادها طبيعة الجو وطبيعة الطفل ودراسة ميوله وغرائزه وتنمية ملكاته إلى أقصى حد تستطيع أن تصل إليه .
لقد استطاعوا بفضل ذلك كله أن يكونوا في طليعة الأمم وأن تتسع إمبراطوريتهم وتجاربهم ولم يرضوا بالحياة الضنكة في ديارهم إذ قتر عليهم في أرزاقهم بل جابوا البحار والصحاري والغابات واستوطنوها واستغلوها ثم لما كثرت مصالحهم طالبوا دولتهم بحمايتهم ، فبسطت سلطاتها على كثير من بقاع الأرض .
هكذا نجحت سياسة دنلوب في إغلاق منافذ التفكير وتشويه معنى الكرامة والحرية وتحول الطلاب إلى آلات تحفظ دون فهم ، وبالتالي أصبح دور المدرسة هو تخريج جماعات من الموظفين يسدون فجوات النقص في الوظائف الحكومية والإدارات المهنية المختلفة ، أما تخريج جيل يحب العلم ويديم الإطلاع ويحدد غايته وهدفه كما رأى الشيخ ذلك في بلاد الإنجليز فذلك ما لا يفكر فيه دنلوب أبداً . كانت هذه هي الظروف التي تسلم فيها الشيخ عبد العزيز وظيفته لذلك لم تكن مهمة التفتيش سهلة في هذا الجو العابس الكئيب المريب ، وعلى المصلح الغيور أن يتحمل الرهق والعنت لكي يؤدي مهمته على الوجه الذي يخدم وطنه بأقصى ما يستطيع .
وكان لا بد من الصدام مع دنلوب وقد حدث في الفعل حينما قدم الشيخ تقريراً عن مدرسة المعلمين ( مدرسة عبد العزيز ) يطالب فيه دنلوب بأن تكون هذه المدرسة على غرار نظيرتها في إنجلترا . ولكن دنلوب أجاب – في صلف وحمق – أتريد أن تجعل مدرسة المعلمين المصرية على غرار مدرسة المعلمين الإنجليزية ؟ ومضى الرجل في طريقه معتمداً على ربه متسلحاً بعزم لا يعرف الكلل ، وهمة لا تعرف الملل ، حيث بدأ حملته الشديدة على التلقين الشفوي دون فهم وتمحيص ، وكانت توجيهاته التربوية صارمة حيث أمر أن تهتم المدارس باللباب الخالص من العلم الذي لا يؤدي إلى التقدم والارتقاء وتخريج طلاب مؤهلين لأن يصبحوا علماء المستقبل وحتى لا تذهب توجيهاته أدراج الرياح ألف كتاباً أودعها فيه وجعل عنوانه ( غُنْية المؤدبين ) فكان أول رائد مصري يفرق بين معنى التربية ومعنى التعليم ، ويدعو إلى الحوار والتحليل والاستنباط أثناء الدرس وهاجم الإلقاء الخطابي مع الاستظهار اللفظي كما يدعو إلى أن يكون المدرس قدوة صالحة لطلابه بسلوكه وأخلاقه وليس كتاباً جامداً بمعلوماته .
واستمع إلى قوله في ذلك : ” ويهمنا أن يكون المعلمون في سيرهم وأخلاقهم مثالاً حسناً من جميع الوجوه لتلاميذهم ولكل من جاورهم من الناس وعليهم أن لا يقتصروا على تعليم تلاميذهم المواد المقررة في فهرس مواد التعليم بل يجتهدوا في تعويدهم المحافظة على الأوقات على الجد والطاعة والتأمل في الأمور والذوق في المعاملة والشفقة بالناس ” .
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله . . . .