درس التربية الإسلامية وواجب الرباط على ثغر المصطلحات والمفاهيم الشرعية ( الحلقة الأولى )
سبتمبر 12, 2022درس التربية الإسلامية
أكتوبر 17, 2022الدعوة الإسلامية :
ثلاثية الأبعاد لعلاقات المسلم
د . جمال الدين الفاروقـي
وينــاد ، كيرالا
إن مصير الإنسان في الدنيا والآخرة يتوقف على ثلاث علاقات هامة ، وهي التي تضمن له سعادته في العاجل والآجل : علاقته بالله ، وعلاقته بأخيه الإنسان ، وعلاقته بهذا الكون . والشريعة بما فيها من العقيدة والعبادات والمعاملات تقوم داعمةً لهذه العلاقات ، والحفاظ عليها ضروري لتسير الحياة مسارها الصحيح القويم ، وكل ما جاء في القـرآن والأحاديث النبوية يمكن توزيعه إلى إحدى هذه الثلاث . وهي تتطلب أن يكون الإنسانُ ملتزماً دائماً بأوامر الله ونواهيه ، والحرص على هذه الالتزامية تجعله أكثر سعادةً وأحسن أداءً وأدومَ حركةً . والخروجُ عنها يجعله في غاية الشقاوة والمعيشة الضنك . وقد يظن البعض أن الحرية وكرامة الإنسانية في عدم التقيّد بالقوانين والشرائع ، ويرون الإباحية هي الحياة كلها ، كما يرون الدين وآدابه قيوداً وأغلالاً تعوق انطلاقهم . والواقع الذي نلمس في تجاربنا الذاتية أن الإنسان الملتزم هو الذي يحرز كل النجاح والفلاح ، وأن الذين يلهثون وراء الإباحية المطلقة يورّطون أنفسهم ويسقطون في نهاية المطاف في مزالق الضلال والخسران ، ومن هذا المنطلق يقول السيد/ ويل ديوراند ( Will Durant 1885-1981 ) المفكـّر الغربي الشهير : ” الإنسان سيكون حرّاً تماماً حين يشعر أنه خاضع للقوانين والسلوكيات ” . والمقالة ترصد هذا الموضوع على أساس مرجعيات الدين التي هي الأولى والأحرى لتكون معياراً ومنهجاً للدراسات العلمية .
وتتمثل هذه العلاقات الثلاث في الآية الكريمة : ( وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ) ( القصص : 77 ) . إن الفكـرة عن الدار الآخرة تربط الإنسان بربه ، والقيام بالواجبات الدنيوية والإحسان إلى الآخرين يعلقه بأخيه الإنسان ، كما أن الابتعاد عن الفساد والدمار يتمثل فيه علاقته بالكون .
العلاقة بالله :
وهي أبرز العلاقات الثلاث وأهمّها ، والأساس الذي يَبنى عليه الإنسان تصرفاته الفكرية والعملية . وما من إنسان إلا وأودع في سجيته نزعته نحوها ، والقـرآن يشير إليها : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ ) ( الأعراف : 172 ) ، وتبقـى هذه الشهادة مطبوعةً في عقلية بني البشـر ، المسلمين منهم والمنكرين ، وهذه العقلية نسميها ” الفطرة ” التي لا يشوبه شرك ولا كفـر . بل يغمرها الطاعة والالتزامية ، كما ورد ذلك في الآية : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 30 ) ، والإنسان الذي يريد الكرامة والشرفَ ، يكفيه التوجّه إلى الله مستلهماً تلك الفطـرة التي أودعها الله فيه مسبقاًَ دون أن يتأثر بالعوامل الخارجية ، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أيضاً يشير إلى انطلاق هذه العلاقة موضّحاً أهمية الفطرة ، ويقول : كل مولودٍ يولد على الفطرة . . ” [1] ، وشيخ الإسلام ابن تيمية يعلّق عليه ويقول : ” فالصواب أنها فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهي فطرة الإسلام ، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة [2] .
الإيمان للتنوير العقلي :
ومن هذا المنطلق يمكن القول : إن الإنسان ، بغض النظر عن انتماءاته الفكرية يربط قلبه مباشرًا بالله تعالى ، والاعتراف بهذه العلاقة يوحي للإنسان ضرورية معرفة صفات الله وقدرته ، التي هي الأخرى توثق علاقته بالله ، ليتيقّن بذاته أنه في مراقبة الله تعالى ، مما يجعله يراعي الأمور ويعدّ نفسـه لئلا يحيد عن جادة الطريق . وهنا تنمو هذه العلاقة وتتدرج إلى الإيمان ، الذي هو الأساس في العقيدة ، والحياة – مهما كانت فيها من الخيرات والبركات – لن تكون ثابتةً ناصعةً إلا بالتسلح بهذا الإيمان المندفع من الفطرة المذكورة . ولن يتمّ الإيمان في شكله الصحيح إلا بالتذلل لله والإنابة إليه والتوكل عليه والاعتصام به والإخبات له . وهذا الإيمان هو الذي يوفّر للإنسان تنويره العقلي ، يستمد منه الثبات والقوة والتفاؤل والثقة بالذات ، ولا يضرّه مهما تراكمت حوله من الظلمات ، ما دام يمتلك لنفسه هذه الصفات الداعمة للإيمان . وهناك يبقـى الإيمان هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها . والعلوم مهما تطوّرت وتجدّدت لا تزوّد الإنسان بمثل هذا التنوير ، لأنها محيطة بالشكوك والتساؤلات ، لا يكاد يجيب الواحد على بعضها حتى يرفع الآخر انتقاداته عنه . وهي في أي حال لا تتيح الفرصة لدى الإنسان ليطمئن إلى قلبه ويعمل على أساس ما يوحي إليه ضميره . والعالم اليوم ، رغم الانفجار العلمي الهائل ، يظل يتخبط في وادي الضلال والطغيان ، وذلك من أجل الإعراض عن المقوّمات الإيمانية ومحاولة الصراع مع السلوك الديني .
الاعتراف بالألوهية :
وعلاقة المرء بربه من حيث اعترافه بالربوبية تدفعه مباشراً إلى الاعتراف بألوهية الله تعالى ، وهو الأحد الصمد الذي يستحق كل العبادات ، ولا أحد يشاركه فيها ، وقد كان المنكرون في عهد البعثة يقرون ربوبية الله تعالى ، كما يشير إليه الآية : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( لقمان : 25 ) ، وإنما كان إنكارهم وجحودهم في شأن تخصيص العبادة لله ، وقالوا : ” أجعل الآلهة إلهاً واحداً ” . ومفهوم التوحيد بأن الله هو وحده المستحق للعبادة يأتي جزءاً من النظام الإلهي الذي يتوقف عليه حركات الكـون ، والله يقول : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ، فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء : 22 ) ، ورغم ما ينحرف الكثير من الناس في كل زمان إلى الإشراك بالله ، إلا أن الحقيقة التي خضع لها الكون والكائنات هي الإقرار بالتوحيد . وهذا الإقرار يزيد الإنسان شموخاً ورسوخاً في تصرفاته العقلية والفكرية .
وهناك أمر هامّ يجدر الإشارة إليه ، وذلك أن الإنسان ما لم يعترف بتوحيد الله ، فلا ينفعه إيمانه بالربوبية ، والله يذكّرنا ماذا سيكون عاقبته ، ويقول : ( وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ( الحج : 31 ) ، والآية تشير إلى السقوط والتدهور العقلي الذي يحدث في حق المشرك ، يصيبه من الوهن والعجز والتوتر حتى يستطيع الطائر المسكين أن يخطفه ، أو يتمايل حسب اتجاه الرياح حتى يكون مصيره في هوة الأخطار التي لا يمكن النجاة منها . وصفوة القول إن علاقة الإنسان بالله لا يتم إلا بالإقرار بالألوهية التي تنبع بشكل أساسي من شعوره بالربوبية . وإذا كانت الثانية معقولةً ومقبولةً فألأولَى أحرى من ذلك .
والإيمان بالله يتطلب اليقين الذي ينبعث من صميم القلب ، والذي يكتسبه الإنسان من تجارب حياته وتفاعله مع الأمور الكونية ، ولا يمكن الوصول إلى هذا اليقين بمجرد التعمق العلمي ، وعليه يقول ابن مسعود رضي الله عنه : ” اليقين الإيمان كله ” . وهناك درجات لليقين ، ومنها : علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين . ولا يكتمل الإيمان ولا يرسخ إلا بالوصول إلى الدرجة الثالثة ” الحق اليقين . والعلامة ابن القيم يعطينا مثالاً رائعاً لمعرفة هذه الدرجات ، وهو يقول : رجل يحمل إلينا العسل ، ويقول : عندي عسل . وهناك نصدّقه علم اليقين ، لأننا ما جرّبنا عليه الكذب ، ثم هو يُخرج لنا قارورةً ملؤها عسل ، حيث يزيدنا إيماناً به ، إذ أننا رأيناه عين القين ، وبعد قليل نأخذ شيئاً منه ونتذوّقه حتى علمنا بأصالته وصفائه ، وذلك حق اليقين . وهذا هو الأمر بالذات فيما يتعلق بمعرفة الله والإيمان به ، الكون وما فيه من باب علم اليقين ، وتجاربنا الذاتية كل يوم نشهدها بعين اليقين ، والتأمل والتدبر كلما يسع لنا الفرصة يدفعنا إلى حق اليقين الذي لا يبقى معه الشكوك والترددات ، ولا يتحير الإنسان بما يسمع من القيل والقال . وليس بعد الحق إلا الضلال والطغيان .
دور العبادات :
والعبادات تأتي بعد الإيمان داعمةً لعلاقة المرء بربه ، وقد شرع الله ورسوله عدداً من العبادات بما فيها الصلاة والصوم والزكاة والحجّ وما إلى ذلك مما يقوم به المسلم بصورة تعبّدية ، يعني بغض النظر عن فوائده المادية ، فهو يؤدّيها بمجرّد أن الله فرضها عليه . وكل منها يقوم بدورها بترسيخ العلاقة بالله ، والذي يصلّي مثلاً يناجي ربه – على حدّ قوله صلى الله عليه وسلم . يتضرع إليه بقلبه وقالبه ويُسمِعه بلواه وشكواه . والصوم يتيح له الفرصة للبقاء على تقوى الله في السرّ والعلن ، كما أن الزكاة تنمي المال وتزكي النفس ، والحج المبرور يُخرج صاحبه نقياً نزيهاً مثل يوم ولدته أمه . وإذا أضيف إلى هذه العبادات النوافل التي يؤديها المسلم بصورة تطوعية تكون العلاقة بالله أقوى وأوثق ، وإليه يشير الحديث : ” وما تقـرّب إليّ عبدي بشيئ أحبّ إليّ مما افترضتُ عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويدَه التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه ” [3] .
والحديث يسلّط الضوء كاملاً على متانة علاقة المرء بربه ، ولم يحصُل ذلك عبثاً ، بل يتطلب التفرغ إلى العبادات والعكوف على الحسنات والمبادرة إلى مرضاته تعالى ، والنوافل المشار إليها في الحديث تشتمل على كل ما وضعه الدين من البر والإحسان والمعروف ، وما من عمل صالح يقوم به المسلم ، صغيراً كان أو كبيراً إلا ويبقى ذلك رصيداً ثميناً عند الله .
ويلاحظ هنا أمر آخر ، وذلك إن المسلم يندفع إلى العبادات بفضل التقوى ، كما أنها تولّد فيه مزيداً من التقوى كلما يقوم بها بالإخلاص وحضور النفس ، هذا إلى جانب التزكية التي يتركها العبادات في نفسه . والإنسان أحوج إلى هذه التقوى للإقلاع عن الذنوب والآثام منه إلى العبادات وفعل الخير ، وقوة المسلم الجسمية والعقلية تتجسد في تقواه بينما التزكية تبقى له زينةً وجمالاً . وهذه الثلاثة – الإيمان والتقوى والتزكية – ضرورية للمسلم ليُنقذ نفسه من الهبوط الروحي الذي يصيبه من بين مغريات الدنيا ودافعاته ، كما أنها توطد العلاقة بالله ، حيث يصبح المسلم بفضلها مستجاب الدعاء ، قريباً إلى الخلق والخالق .
كما أن الإنسان الذي يخضع لربه بالعقيدة والعبادات لا يقنط من رحمته حين تعضه المصايب ودارت به الدوائر ، بل يكون سلوكه بالثقة والتفاؤل ولا يغيب عنه نور الأمل ، ويدرك أنه لم يصبه شيئ إلا ما كتب الله له ، والمسلم الحقيقي هو وحده يستطيع إبعاد كل ما يسبّب اليأس والقنوط في حياته . والرسول صلى الله عليه وسلم يؤكـد لنا دور الإيمان وأثره في مثل هذه الأحوال ، ويقول : ” إن لكل شيئ حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ” [4] . ويا حبّذا لو كان الإنسان المعاصر الذي يتعرّض للإحباط والتوتر النفسي ، يتوجه إلى خالقه بقلب ملؤه الإيمان والتوكل !
العلاقة بالإنسان :
بعد العلاقة بالله يأمر الدين الحنيف بإحكام العلاقات مع بني آدم كلهم ، والقـرآن اهتمّ بالجوانب الإنسانية بقدر ما اهتمّ بالعقيدة والعبادات ، بل الأول قد يكون أعظم أجراً عند الله ، والأخطاء التي تحدث بين العبد وربّه يغفرها الله على أساس شعوره بالإثم وإنابته إليه ، أما الحقوق الإنسانية إذا فرّط فيها أحد أو أفرط فسوف يحاسبه الله عليها ، ولا يكون شيئ من عباداته بديلاً عنها . والذي يسهو في صلاته يكفيه أن يسجد سجدتين قبل التسليم ، والذي يفوته يوم من رمضان يكفيه أن يصوم أي يوم آخر ، وقد يجبر ذلك بالكفارة عنه أيضاً ، أما إذا كذب وخان الآخرين ونال من شرفهم وكرمهم فلا يكفيه مئات السجود والصوم لمحو ذلك الإثم ، ولن يغفر الله له إلا إذا أصلح ما بينه وبين أخيه الإنسان . والأحاديث النبوية وردت بكثرة كاثرة بهذا الخصوص . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ” المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ” [5] . والأوامر الدينية بخصوص بر الوالدين وتربية الأولاد وحقوق الجيران وتعظيم الكبار ومواساة الفقـراء وإسداء الخير إليهم ومسح دموعهم . . كل ذلك من باب توثيق العلاقة بين الأفراد . وما دامت العلاقات بين الأفراد واهيةً خاويةً يبقى المجتمع مريضاً سقيماً .
والعالم رغم تطوّر العلاقات فيه بين الدول ، إلا أنه يشكو من تدهور العلاقات بين المواطنين رجالاً ونساءً ، وأطفالاً وشباباً ، يتعرضون للإهانة والظلم وهضم حقوقهم وتهميشهم من الاتجاه الاجتماعي السائد . والكثير من المواطنين يشعرون ” بالدونية ” . والمئات من الصراعات والحروب الدموية والكفاحات حدثت في التاريخ وحتى في يومنا هذا من أجل هذا السلوك غير الإنساني . ولا يزال روح الأنانية والعنصرية والاستغلال والاستبداد والكراهية تحكم القلوب وتسيطر على المجالات التشريعية والإدارية والقضائية ، والدستور المصمّم لبلادنا على مفهوم الديمقراطية واللا دينية ، رغم ما يتحلى به من القيم ومبادئ التضامن وروح المساواة وحرية المواطنين واحترام الآخر ، إلا أن نزعات العنصرية والطائفية التي يروّجها قوات الفاشية ويحتضنها الحزب الحاكم ، كادت تقضي عليها ، مما صار المئات ضحاياها كل عام . والحل الوحيد لإنقاذ البشرية من هذا المأزق إنما هو الرجوع إلى مفهوم ” وحدة الجنس البشري ” المتمثل في قوله تعالى : ” إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ” ، والآيات السابقة لها في سورة الحجرات ترشدنا إلى نبذ أدنى أسباب التباغض والتنافر والنزاع والشجار بين أفراد المجتمع ، وما من أديان أو أيديولوجيات فكرية تضمن لأتباعها سلامتهم وصيانة أعراضهم مثل ما تضمن هذه الآيات القرآنية .
وأضاف إليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قائلاً : ” إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ” . والمجتمع لا يحرز النجاح والتقدم المنشود إلا بالتمسك بروح التكافل والتضامن والتعايش والترابط . وأهمّ شيئ في توثيق العلاقات الفردية هو عمل الإحسان بعضهم إلى بعض ، ونزعة هذا الإحسان نابعة من العبادات نفسها ، وما دامت العبادات خالصةً لوجه الله غاسلةً شوائب الأخلاق ، فإنها تبقى مصدراً سَرْمدِياً للإحسان ، كما يلمح ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ” الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” [6] . والإحسان المنطلق من روح العبادات لا يرجو فاعله أي مقابل من المستفيدين ، وإنما دافعه إليه نفس ذلك الدافع في شأن العبادات ، وهو الأجر من الله ، والذي يحسن إلى الآخرين على أساس المعايير المادية يأمل منهم البديل عاجلاً أو آجلاً ، وإنما هو علاقة قائمة على فكرة تجارية ، تبقى وتستمر ما دامت رابحةً .
العلاقة بالكون :
ويأتي في المرتبة الثالثة علاقة الإنسان بالكون ، ينطلق ذلك من إدراكه أن الله سخّر له هذا الكون وما فيه من الكائنات ، وهذا العيش الرغد الذي يتمتع به فوق المعمورة ليس من كسب يده ولا ثمرة ذكائه . بل إن الله هو الوحيد الذي أودع في هذا الكون كل متطلبات الحياة دون أن يتعرّض الإنسان لأي خطر ، والسماوات بطبقاته المختلفة تقوم سقفاً فوق الإنسان ، يحفظه من الأشعة فوق البنفسجية الضارة ، كما أن الغازات الجوّية تم ترتيبها وتكييفها بحيث يستفيد منها الإنسان ، والأرض بمثابة مهد وفراش له ، وهي كذلك خزانة إلهية للثروات والموارد المائية والمعدنية التي هي قوام الحياة والأحياء . وإلى هذه الجوانب تشير الآية : ( أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِى ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان : 20 ) ، وهذه النعم الإلهية تطلب منا أن نكون على حذر وحيطة كلما نأخذ منها ونتمتع بها ، كما أن من أهم ما يتميز به الكون التوازن بين مكوناته الطبيعية : النجوم والأفلاك والمجرات تتحرك وتجري بهذا التوازن المنتظم ، والله يقول : ( مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ ) ، إلى جانب الملايين من الدواب التي بثها الله في الكون ، وهي الأخرى مما يضمن لنا السلامة والبقاء .
والله جعل الإنسان خليفةً في الأرض بهدف تعميرها وتطويرها مستخدماً عقله ومهاراته الإبداعية . والخلافة تحمل الإنسان مسؤولية كبرى ، وهي المتمثلة في كلمة ” الأمانة ” التي أشفقت منها السماء والأرض والجبال . والشعور بالأمانة يوحي إلى الإنسان اتجاهين : اتجاه سديد متوازن ، ومفاده الانتفاع بخيرات الكون واستخدامها ليقوت نفسه وذويه دون فساد وإسراف وتبذير ، والذي يبذّر الموارد الطبيعية ينتمي إلى زمرة الشاطين على حد قوله تعالى . والاتجاه الثاني : امتلاك هذه الخيرات ووضعها حكراً على نفسه ، منغمساً في الملذات دون مراعاة لحقوق الآخرين ، وهذا السلوك بدون شك يفسد الكون والكائنات وتقضي على الموارد الطبيعية التي ينبغي أن تبقى في الأرض حتى إلى آخر إنسان يعيش على ظهرها . والذي نشاهده اليوم من الفساد والدمار في مكوّنات الطبيعة جاء نتيجة لشرَهِ الإنسان وتسارعه وراء تطلّعاته الذاتية الفجة . وما نسمعه الآن من التحرّر العالمي وظاهرة التصحّر والثقوب الحاصلة في طبقات الأوزون وجفاف موارد المياه ومشكلة التلوث البيئي ، ليس وارء ذلك إلا النيات الخبيثة التي يحتضنها الإنسان المثقف ليجعل حياته أكثرَ متعةً وأبقى لذةً .
والقـرآن يشير إلى حدوث محنة قاسية سوف يشهدها العالم حين تفسد الأعمال ويكون الإنسان باغياً طاغياً ، وذلك ليس في صورة الزلزال والعواصف والخسف والمسخ ، بل بإزالة الدواب من فوق الأرض ، فلا يستطيع البقاء بعد ذلك ، وإليه تشير الآية : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) ( النحل : 61 ) ، وإذا رفع الله هؤلاء الدواب البرية والبحرية والبحرمائية لتختل الطبيعة ويفسد النظام البيئي . وسيكون ذلك أدهى وأمـرّ على الإنسان من وقع القنابل والدبابات .
والترياق الوحيد المؤثر للسعادة في الدنيا والآخرة هو الحفاظ على العلاقة بالله إيماناً وعبادةً ، وبالإنسان إيثاراً وإحساناً ، وبالكون حمايةً ورعايةً . ومن كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ .
[1] رواه البخاري ، رقم الحديث 1385 .
[2] مجموع الفتاوى ، ابن تيمية 245/4 .
[3] رواه البخاري ، رقم الحديث 6502 .
[4] رواه الإمام أحمد ، رقم الحديث 2749 .
[5] رواه مسلم .
[6] رواه البخاري ، رقم الحديث 50 .