أوربا وإخفاقها في إسعاد الإنسان
مارس 14, 2023التوجيه الإسلامي :
القرآن الكريم وافتراءات النصارى
سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
( ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا . قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً . مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً . وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً . مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً . فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف : 1 – 6 ) .
بدأ الله تعالى هذه السورة بحمده ، وهو أجدر بالثناء والحمد ، فإنه أنزل كتاباً هو كلامه ، وكرم الإنسان ونعمه ، بحيث منحه هذا الكلام ، ولم تكن السماوات والأرض والجبال تتحمل هذا الكلام ، قال تعالى : ( لَوأَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ) ( الحشر : 21 ) ، لكن كان فضل الله على الإنسان بأنه جعل القرآن سهلاً ، ولم يجعل فيه عوجاً ، فجميع آياته قيمة وسهلة ، يستطيع الإنسان أن يفهم معانيها ، وهي صحيحة وموافقة للواقع ، ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من الخوض والتأمل فيها ، لكن كلام الإنسان يخيل إليه أنه صحيح أو خطأ ، ويشك فيه رجل آخر ويرتاب ، لكن كلام الله بريئ من هذا وذاك ، والله أقوى وأكبر من كل شيئ ، وأقدر على كل ما يعلمه الإنسان ، فهو يستعمل قوته أحياناً ضد المجرمين ، فليتفكر عباده في هذا الشأن .
يبشر القرآن أولئك الذين يعملون الصالحات ، وقد أخبر الله تعالى عباده بأنهم إذا عملوا عملاً صالحاً أعطوا جزاءً حسناً ، وهذا الأجر ليس موقتاً ، بل يدوم إلى ما شاء الله ، وينعم أصحابه بجنة النعيم .
غاية المعجزات الإلهية :
إذا حدث أمر خارق للعادة من الله تعالى سُمي معجزةً ، وقد أكرم الأنبياء الكرام بالمعجزات ، فكانت معجزة عيسى عليه السلام أنه إذا مسح بيده مريضاً أصبح المريض بريئاً من المرض ، وأصبح الأعمى بصيراً ، ولم يكن ذلك بالأدوية والمعالجة بها ، لكن وقع ذلك خرقاً للنظام ، فكان معجزةً من الله تعالى ، ويعطي الله الأنبياء هذه المعجزات ليستيقن الناس بكلام الأنبياء ، ويؤمنوا بدعوتهم ، لأن الأنبياء قدموا أمام الناس شيئاً كان خلافاً للعادة ، وخارجاً عن قدرة الإنسان .
جعل الله تعالى القرآن معجزةً ، وهو كلام لا مثيل له في العالم ، كان في العرب شعراء كبار ، كانوا يعتزون بشعرهم ، وينطقون بكلمة لا يتكلم بمثلها أحد ، لكن لما اطلعوا على القرآن دُهشوا وتحيروا منه ، ولم يقل أحد منهم : إنني أتحداه وأحاكي أسلوبه ، رغم أن القرآن تحداهم علناً وجهاراً بقوله : فأتوا بمثله إن كنتم صادقين . وبالنظر إلى هذا قال الله تعالى في بداية هذه السورة : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، قيماً ، وذلك ليعلم الإنسان أن نظام العالم بيده الله تعالى ، وهو الذي يدبر أمره ، ليس معنى ذلك أن الله خلق العالم ، ثم وكله إلى أحد ، بل هو يراقب كل وقت نظام العالم ، وهو يسير حسب مشيئته ، ويقدر الله على تغييره أيضاً .
فصاحة العرب وأسلوب القرآن المعجز :
كان العرب أكثر تطوراً في اللغة العربية ، وأكبر علماً بدقائقها ، وكانوا يتذوقون بالكلام العربي ، فأنزل الله عليهم كتاباً أرفع شأناً في اللغة والفصاحة والبلاغة ، بحيث اضطروا إلى أن يقولوا بأنفسهم : ما هذا قول البشر ، وهذه سنة الله في باب المعجزات أن القوم إذا كانوا ماهرين في فن أنزل الله معجزةً وفقاً لهذا الفن ، لئلا يقول القوم : إنه لا يمكن ذلك ، وقد شاع الشعر والأدب العربي في العرب ، وكانوا يقدرونه حق قدره ، والشيئ الثاني الذي كان شائعاً في العرب هو الكهانة ، وكان الكاهنون يتكلمون بجمل مسجعة للإخبار بالغيب ، فاختار القرآن الكريم كلاماً أعلى قدراً من هذين الصنفين ، فاحتار العرب منه ، وكان مذبذبين في تسميته بالكهانة والسحر والشعر ، وقالوا : هذا الكلام أرفع من هذه الأقسام ، فلا نستطيع أن نأتي بمثله .
جعل الله تعالى القرآن آخر الكتب السماوية ، وسيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم آخر النبيين ، وأنزل عليه آخر الشرائع الإلهية ، وقد بعث الأنبياء في كل قوم ، وجاءوا بشرائع مختلفة حسب أزمنتهم ، لكن الله أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم شريعةً كاملةً ، تساير ركب الحياة الإنسانية ، وإن تغير الزمان وتبدل ، بل تقدم هذه الشريعة حلولاً ناجعةً للقضايا التي تأتي في المستقبل ، لأن العصر الذي يبدأ كان عصر العلم والمدنية ، وكان أساس سائر التطورات في هذا العصر على العلم والمعرفة ، فأكد الله تعالى في هذه الشريعة على العلم ، وبدأ نزول أول وحي على محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم ، قال تعالى : ( ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ . خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ . ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق : 1 – 5 ) .
غايات نزول القرآن :
من أهم غايات نزول القرآن في هذه السورة أن هذا القرآن يبشر المؤمنين ، الذين يعملون الصالحات ، ووعد الله بهم الأجر الحسن ، ويدوم هذا الأجر دواماً لا ينتهي ، لا يمكن أن يتصور الإنسان في هذه الدنيا عن شيئ أنه يبقى عنده إلى مدة ، ويستفيد منه ، لكن من حسنات الآخرة أن كل ما يكرم به الإنسان في الجنة يخلد خلود الزمان ، ولا يخطر على باله خوف الموت .
الغاية الثانية لنزول القرآن في هذه السورة أن الله ينذر الذين اتخذوا لله ولداً ، وسيواجهون عذاباً شديداً في الآخرة ، كيف يعتبر هؤلاء لله عز وجل ولداً ، وما هو الأساس الذي يقوم عليه دعواهم ، ما لهم به من علم ، ولم يحدث أمر يتقولون بالنسبة إليه ، إن دعواهم على القياس والظن ، وقياسهم هو أنهم فرضوا لسيدنا عيسى عليه السلام أموراً خارقةً ، بانتمائهم إلى ابن الله ، رغم أن عيسى عليه السلام كان نبياً من أنبياء الله وعباده المقربين إليه ، كذلك أفرط اليهود في شأن يعقوب عليه السلام ، واعتبروا سيدنا عزيراً ابن الله تعالى ، رغم أن معنى المقرب والحبيب لا يسمح بأن يجعل ولداً لله ، فجميع الأنبياء هم عباد الله تعالى ، هو الذي خلقهم ، ورزقهم ، فلن يكونوا أبداً جزءاً من الله ، لذلك قال الله : ما لهم به من علم ولآبائهم ، وليس لهم دليل على هذا ، هنا وقفة تأمل أن الله الذي خلق الكون ، وأعطى الإنسان كل ما سأله ، يسيئ الإنسان إليه إساءةً ، فالله قادر على أن يهلك هذا المسيئ في ثانية واحدة ، ويصيبه بأكبر مصيبة ، لكن هؤلاء المسيئين لا يخافون الله تعالى ، بل يتكلمون عنه بكلمات قبيحة نافرة .
الفرق بين العلم والظن :
نزلت الآية الرابعة في هذه السورة لإنذار الذين اتخذوا لله ولداً ، ثم قال تعالى : ما لهم به من علم ولا لآبائهم ، إنهم يقولون هذا القول بالظن والتخمين ، فالعلم باللغة العربية هو الشيئ الحقيقي ، وإذا لم يكن ذلك الشيئ واقعاً ملموساً لا يكون علماً ، بل يكون ظناً ، فاستعمل القرآن هنا كلمة العلم ، معناه أن هؤٔلاء الناس وآباءهم كذلك ليس عندهم علم ، ولا أساس قوي ، بل يقولون كل ذلك بالخرص الظن ، ثم قال : كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، إن يقولون إلا كذباً .
تسلية قرآنية للنبي صلى الله عليه وسلم :
ثم قال الله مخاطباً سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً . أي أنك تشتغل بأمور الدعوة ونشر الإسلام كل وقت ، كأنك تهلك نفسك ، فلا حاجة إلى الهلع والإضراب من ضلال الناس ، بل كل ما يجري في هذا الكون كان مقرراً عند الله تعالى ، وهو يعلم : مَن المهتدي ومن هو الضال عن الصراط المستقيم ، لكنه أرسل رسولاً لئلا يكون على الناس حجة : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فبعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل معه القرآن ، فإذا لا يؤمن بعد ذلك أحد فقد أتم الله الحجة ، وبلّغ الرسول الأمانة .
فتُوجِّه هذه الآية سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يجزع نحو إيمان الناس ، ولا يثبط همته عدم إيمانهم ، فإن الله يعلم : ما يعمل الناس ؟ لأنه خلقهم ، وأكرمهم بجميع النعم الظاهرة والباطنة ، وهو خبير بطبائعهم وفطرهم ، وهو خلق الطبائع اللينة والشديدة ، وهو مطلع على فِطرهم ، وهو يعلم ماذا سيكون غداً ، كما يعلم أحوال الماضي ، فليس الماضي والمستقبل عند الله منفصلاً ، فإنه ينظر الماضي والمستقبل معاً ، هو يعلم ما لا يعلم الإنسان ، ولعلكم تفهمون هذه الحقيقة بالمثال أنك جالس في غرفة ، وليس عندك علم بما هوخارج الغرفة ، فإذا دخل رجل الغرفة فأنت تعرف الرجل الذي دخل ، لكن هذا الرجل إذا لم يدخل الغرفة ، فلا يمكنك أن تعلمه ، لكن الرجل الذي كان خارج الغرفة ، يعلم مَن دخل الغرفة ومن لم يدخل ، كذلك جعل الله الماضي والحال والمستقبل ، فإن هذه الأزمنة الثلاثة أمام الله ككتاب مفتوح ، وهو يعرف ماذا يحدث وما لا يحدث ، بالنسبة إلى هذا قال الله تعالى لنبيه : لا تجزع ولا تضطرب ، ولا تبخع نفسك بعدم إيمان المشركين ، فإذا لم يؤمنوا بعد دعوتك إلى الله فليس عليك أي مسئولية .
لا شك أن الله رحيم كريم ، لا يضل أحداً بعلمه وقدرته ، فإذا ضلَّ وانحرف أحد كان له وجه ، يمنح الله عباده خياراً إلى حد ، ولم يحصل هذا الخيار للحيوانات ، فلا يمكن لحيوان أن يغرس غرساً ، أو يزرع ثمراً ، أو ينبت عشباً ، ويبذر بذراً ولا يحفر حفرةً ، ولا يجري سقيا ماء ، فهو عاجز تماماً ، فإذا وجد عشباً أكله ، وإذا رأى بركةً شرب منه الماء ، لكن الله جعل الإنسان مخلوقاً ، يستطيع أن يعمل ما شاء ، كأن الله منح الإنسان قدرةً وخياراً إلى حد ، ولم يكرم الإنسان بهذا الخيار إلا ليعلم الله أن الإنسان يستعمل في صالح الإنسانية أو في أضرارها ، يملك الإنسان قدرة ارتكاب الذنوب ، وذلك ليعلم الله أنه يجتنب السيئات أم لا ، رغم أن الله يعلم جيداً : من هو المهتدي ومن هو الضال ، لذلك قال الله لنبيه : إذا كان الله يعلم حقيقة الإنسان ، وهي ثابتة عنده ، فلما يكون قلقاً ؟