الجنين الإنساني وسفر تكوين الإنسان
يناير 9, 2023فلسفة النظافة لوقاية الإنسان من الأوبئة والأسقام
فبراير 7, 2023الدعوة الإسلامية :
العلم أساس الاستخلاف وسبيل السيادة
بقلم : الأستاذ عبد القادر دغوتي *
المقدمة :
إن الإسلام يُمجد العلم والمعرفة ، ويحث على التعلم والتعليم ، ويدعو إلى نشر العلم بين الناس بكل الطرق والوسائل المتاحة ، وينبه إلى أهمية العناية بالقلم ، واكتساب مهارات الكتابة ، لتقييد العلوم والمعارف النافعة في السطور ، بعد استيعابها وتثبيتها في العقول والصدور ، لتسهيل مراجعتها ومعاهدتها ، وتوريثها للأجيال على مر العصور والدهور . ومن ثم يتوافر للأمة ما يلزم من كفاية علمية لتحقيق مطلب الاستخلاف ، وبلوغ مقام السيادة والريادة .
أولاً : العلم أساس الاستخلاف في الأرض :
كرم الله تعالى الإنسان ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، وولاه منصب الخلافة في الأرض تكليفاً وتشريفاً ، ورفع قدره أمام الملائكة الكرام ، بما منَ عليه من علم خصه به دونهم ، وأمرهم بالسجود له تحيةً وإكراماً وتعظيماً . قال الله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ . قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لِآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 30 – 34 ] .
ومهمة الاستخلاف في الأرض التي اختار الله لها آدم عليه السلام وبنيه ، تقتضي توافر مقومات الكفاءة والاستحقاق ، للقيام بأعبائها وتكاليفها ، وإتمام وظائفها وأعمالها . ومن تلك المقومات : الكفاية العلمية .
لأجل ذلك هيأ الله تعالى آدم عليه السلام وأهَله لهذه المهمة العظيمة ، فعلَمه الأسماء كلها ( وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ) . أي : علَمه ” أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها ، كما قال ابن عباس ” [1] . فكان العلم أساس التفاضل بين مخلوقات الله .
ولذلك ؛ لما تساءل الملائكة الكرام – على سبيل الاستطلاع لا على سبيل الاعتراض – : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ ؟ ) ؛ اختبر الله تعالى علمهم ( فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ” في قولكم وظنكم أنكم أفضل من هذا الخليفة [2] ، فاعترفوا بقصور علمهم و ( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ) . وحينئذ أمر الله تعالى آدم عليه السلام ، بأن ينبئهم بما علَمه إياه من علم الأسماء مما غاب عنهم . ( فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ) ؛ تبين لهم فضل آدم عليهم بما علَمه ربه من علم . قال ابن كثير رحمه الله : ” وأن من كرمِه تعالى أنْ علَم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرَمه بالعلم ، وهو القدْر الذي امتاز به أبو البشر آدمُ على الملائكة ” [3] ، فكان جديراً بأن يُولى الخلافة في الأرض .
فالحاصل : إن العلم أساس الاستخلاف في الأرض ، وبه يتمكن الإنسان/الخليفة من رسم الخطط لإعمارها وإصلاحها والانتفاع بمواردها ، واستثمار خيراتها ، وتدبير شؤون الحياة فوقها ، طبقاً لمقتضيات السنن الشرعية والكونية ، واتباعاً للمنهج الأوفق لمقصود الخالق ، والأقرب لتحقيق مصالح الخلق .
ثانياً : العلم سبيل السيادة والريادة :
أراد الله تعالى للأمة المحمدية أن تكون خير الأمم ، ورائدتها ، وشاهدة عليها ؛ تثنيها وتصدها عن سُبل المنكر والجور والجاهلية والضلالة ، وترشدها وتقودها إلى الخير والعدل والفضيلة والاستقامة ، قال الله جل جلاله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] ، وقال : ( وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) [ البقرة : 143 ] .
وقد عبر عن هذا المقصد الجليل المنوطِ بالأمة المحمدية ، أحدُ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ربعي بن عامررضي الله عنه ، لمَا سأله رستم قائد الفرس : ما جاء بكم ؟ فقال : ” الله جاء بنا ، وهو بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ” [4] .
ولا يكون بمقدور الأمة القيام بهذا الدور الريادي ، إلا إذا امتلكت واستوفت مقومات الريادة والقيادة ، وأهمها : العلم . ومن لوازم العلم : القراءة والقلم .
فالأمة التي تتطلع إلى القيادة والريادة ، يجب أن تبوئ العلم المرتبة اللائقة به ضمن مراتب اهتماماتها وأولويات أعمالها وأهدافها ، وأن تمنحه ما يستحق من عناية ورعاية ، وأن تشتغل بالعلوم تنقيحاً وتحقيقاً ، وتحصيلاً وتقييداً ، وتعلماً وتعليماً ، وأن تعتني بوسائل العلم وأدواته ، المعينة على تحصيله وحفظه واستثماره .
وقد دل أول ما نزل من القرآن الكريم دلالةً واضحةً على وجوب الأخذ بزمام العلم للأمة التي يُرجى لها أن تتولى قيادة الأمم ، فكانت أول كلمة تلقتها من الوحي الرباني الذي هو منطلقها ومرجعها ودستورها ، هي : ” اقرأ ” .
وقد خاطبها الله تعالى بـ ( اقرأ ) ؛ لأن ” العلم تارةً يكون في الأذهان وتارةً يكون في اللسان وتارةً يكون في الكتابة بالبنان ؛ بطريق ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا أرشدها إلى أهمية الكتابة وإعمال القلم في تقييد العلوم ، فقال : ( ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ . ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) . وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة ” [5] .
ثم إنه سبحانه وتعالى أقسم بـ : ( نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، ” وفي القسم بالقلم والكتابة إشادة بفضل الكتابة والقراءة ، فالإنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله تعالى بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره ( الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) ، وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكاتبين ، ورفعاً من قدر أهل العلم ، ففي القلم البيان كما في اللسان ، وبه قوام العلوم والمعارف ” [6] .
قال سيد قطب رحمه الله : ” يقسم الله سبحانه بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف ( ن ) بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم والكتابة . . فأما القسم بها فهوتعظيم لقيمتها وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفةً ونادرةً ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في علم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى . . . ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ . خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ . ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ، منوِّها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون ” [7] .
فالحاصل : أنه لا سبيل إلى تحقيق الخلافة والريادة والقيادة بغير العلم ومستلزماته من كتابة وقراءة .
الخاتمة :
- اختار الله تعالى الإنسان لمقام الخلافة في الأرض ، وكلفه بإصلاحها وإعمارها . واختار الأمة المحمدية لمقام الريادة والقيادة ، وكلفها برعاية الأمم ودلالتها على ما يُصلح أمرها في معاشها ومعادها .
- ولا سبيل إلى تحقيق الخلافة والريادة وإنجاز مطالبهما ، بغير العلم ومستلزماته من كتابة وقراءة .
- لذلك كان أول ما نزل من الوحي الرباني على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى العلم والعناية بلوازمه من قراءة وفنون الكتابة والقلم : ( ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ . خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ . ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [ العلق : 1 – 5 ] .
* باحث في الدراسات الإسلامية ، المغرب .
[1] تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير ، ج 1 ، ص 94 . مكتبة الصفا ، القاهرة ، ط 1 ، 1425هـ/2004م .
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان . الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، ج 1 ، ص 61 ، تح : محمد سيد عبد رب الرسول . دار أبوبكر الصديق ، القاهرة ، ط 1 : 1428هـ/2008م .
[3] تفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ج 8 ، ص 273 . مكتبة الصفا ، القاهرة ، ط 1 ، 1425هـ/2004م .
[4] إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء ، محمد الخضري بك ، ص 57 ، اعتنى به وليد الذكرى ، المكتبة العصرية ، صيدا بيروت ، ط 1 ، 1421 – 2000م .
[5] تفسير القرآن العظيم ، ج 4 ، ج 8 ، ص 273 – 274 بتصرف .
[6] صفوة التفاسير ، محمد علي الصابوني ، ج 3 ، ص 405 ، دار الجيل ، بيروت ، بدون تاريخ .
[7] في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ج 6 ، ص 3654 و 3655 ، بتصرف يسير . دار الشروق ، القاهرة ،ط 6 ، 1418هـ/1997م .