وسَطيَّة الإسلام في نشر اللغة العربيَّة
يناير 6, 2021الغرب المتكبر والشرق المتنكر
فبراير 21, 2021الدعوة الإسلامية :
الزهد الحقيقي
في ضوء جوامع الكلم الحكيمة ( صلى الله عليه وسلم )
الأستاذ كليم الله العمري المدني *
عن سهل بن سعد الساعدي قال : أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل فقال : يا رسول الله ! دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك ) [1] .
شرح المفردات :
الزهد في الشيئ قلَّة الرَّغبة فيه ، وإنْ شئت قلت : الرَّغبةُ عنه .
وفي اصطلاح أهل الحقيقة : بغض الدُّنيا والإعراض عنها .
وقيل : ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة .
وقيل : ترك الأسف على معدوم ونفي الفرج بمعلوم .
قول القائل ” دلني على عمل ” ، ” دلني ” : مأخوذ من الدلالة وهي الإرشاد إلى الشيئ .
شرح الحديث شرحاً وافياً مع دراسة تحليلية :
قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ازهد في الدنيا يحبك الله :
وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ” من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ” [2] .
وفي الحديث المرفوع : ” حب الدنيا رأس كل خطيئة ” [3] .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
وما هي إلا جـــيـــفـة مستحيلة عليها كلاب هَمُّهُن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت عنها سالماً وإن تجتذبها نازعتك كلابها [4]
وقال ابن القيم في ” شرح منازل السائرين ” : وقد أكثر الناس الكلام في ” الزهد ” وكل أشار إلى ذوقه ، ونطق عن حاله وشاهده ، ثم نقل أقوالاً في ذلك :
فقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا لبس ( العباء ) [5] .
وقد أوضح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المقصود الحقيقي من الزهد حين قال : ” الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة أن تكون بما في يد الله تعالى أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغبَ منك فيها لو أنها أُبقيتْ لك ” [6] .
تصحيح مفهوم الزهد :
قال الله عزّ وجلّ : ( وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ) ( سورة القصص : 77 ) وقوله تعالى ” ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى :11 ) .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : كلوا واشربوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة ، إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده [7] ، فالإسلام لا يُرغب عن الدنيا بل يرغب عن حرامها ولا يُرَغب فيها بل يرغب في العمل الصالح . الإسلام لا يُزهد الناس في الدنيا ليتركوها بالكلية وينقطعوا إلى الآخرة ، ولا يرغبهم في الآخرة ليقبلوا عليها بالكلية ويتركوا الدنيا ؛ بل يتخذ بين ذلك سبيلاً ، هو الجمع بين خيري الدنيا والآخرة . أما زهد النساك الذين انقطعوا عن الدنيا بالكلية ، ورغبوا في الآخرة فهذه نافلة فرضوها على أنفسهم ولم يفرضها الله عليهم .
فالزهد الحقيقي هو الكف عن المعصية وعما زاد عن الحاجة ولذلك فإن الزكاة في الإسلام لا تكون إلا فيما زاد عن الحاجة وحال عليه الحول . ومن يزهد فيما فاض عن حاجته ويتصدق به على من ليس عنده فهذا زهد مطلوب حث عليه الإسلام ، قال جلّ جلاله : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ) ( سورة الحشر : 9 ) .
وحضارة الإسلام لم تقم على الزهد في الدنيا والانقطاع للآخرة بل مزجت الدنيا بالآخرة فآتت أكلها طيباً .
من تعريفات الزهد السالفة الذكر وبيان مشروعيته يتضح أن الزهد مرتبة قلبية ؛ إذ هو إخراج حب الدنيا من القلب ، بحيث لا يلتفت الزاهد إليها بقلبه ، ولا ينشغل بها عن الغاية التي خلقه الله من أجلها .
وليس معنى الزهد أن يتخلى المؤمن عن الدنيا فيفرغ يده من المال ، ويترك الكسب الحلال ويكون عالة على غيره .
وهكذا فهم السادة الربانيين أن الزهد مرتبة قلبية . قال عمرو بن عثمان المكي : ( اعلم أن رأس الزهد وأصله في القلوب هو احتقار الدنيا واستصغارها ، والنظر إليها بعين القلة ، وهذا هو الأصل الذي يكون منه حقيقة الزهد ) وقد عبر شيخ الصوفية عبد القادر الجيلاني رحمه الله عن مفهوم الزهد الحقيقي تعبيراً واضحاً جامعاً حين قال : ( أخرج الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك ، فإنها لا تضرك ) [8] .
ومن أحسن ما قيل في الزهد : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك ، فهذا من أجمع كلام في الزهد وأحسنه ، وقد روي مرفوعاً [9] .
إن نظرة خاطفة متعمقة لحال المسلمين اليوم يمكن من خلالها إدراك مدى الحاجة العظيمة والماسَّة إلى إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا ، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان ، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت – وهي دوماً – أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء .
خلاصة القول :
الزهد لكل مسلم أمر مطلوب ، الاشتغال في الدنيا مرغوب عند كل إنسان ، وتزكية النفس أمر خطير وصعب جداً ، وهو من مداخل الشيطان ، وقد نهى الشارع الحكيم عنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بنفوسنا ، فقد قال الله تعالى: ( فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ ) ( النجم : 32 ) أي لا تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، هو أعلم بمن اتقى .
قال أبو عمر روينا عن أبي داود السجستاني رحمه الله أنه قال أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث :
أحدها حديث عمر بن الخطاب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى .
والثاني حديث النعمان بن بشير عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، الحديث .
والثالث حديث أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
والرابع حديث سهل بن سعد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس [10] .
يشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين فإذا عمل بهما أحبه الله وأحبه الناس .
والزهد :
هو القناعة بما أعطاك الله ، والتعفف عن أموال الناس ، وكان عمر يقول على المنبر : إنَّ الطمع فقر ، وإنَّ اليأس غنى . وقال أيوب السختياني : لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان ، العفة عما في أيدي الناس ، والتجاوز عما يكون منهم .
قلت : في هذا الحديث دليل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاستقامة والسؤال عن سبلها لأن الرجل سأل عن شيئ يكون فيه محبة الله ومحبة الخلق ، والصحابة قدوة لنا في اختيار الزهد الحقيقي .
الإعراب في الحديث الشريف :
” ازهد ” : فعل أمر مبني على السكون . والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنت ، والكلام فيه إنشاء طلبي .
” في ” : حرف جر . ” الدنيا ” : اسم مجرور علامة جره كسرة مقدرة منع من ظهورها التعذر . والجار والمجرور متعلقان بازهد .
” يحبك ” : فعل مضارع مجزوم لأنه وقع جواباً للطلب . والكاف ضمير مبني على الفتح في محل نصب مفعول به . ” الله ” : لفظ الجلالة فاعل مرفوع [11] .
تحليل الشواهد لأسلوب النهي في قول ابن عمر إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح :
الزهد في الدنيا وترك ملذاتها والاستعداد ليوم الرحيل أمر ندب إليه الشرع بل رغب فيه وما أدل على اختصار ذلك المعنى في قول ابن عمر رضي الله عنه إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح .
أسلوب النهي هنا جرى مجرى العتاب اللطيف ولم يكن أسلوبه عنيفاً حتى لا ترعوي أو تأخذ استعدادها بل جاء غرض النهي على معنى النصح والإرشاد .
من الحكم النبيلة المستفادة من الحديث الشريف :
- أن كلمات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلمات جامعة ” ازهد في الدنيا ” هذه كلمة موجزة يشمل الزهادة في المال والزهادة في الجاه ، والزهادة في المركوبات ، الزهادة في المسكن ، والزهادة في كل شيئ ، ولو أردنا أن نعدد ما يتعلق بالدنيا لتعبنا لكن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جمعها في كلمة واحدة .
- أن الزهد في الدنيا من أسباب محبة الله تعالى لعبده ، ومحبة الناس له .
- أنه لا بأس بالسعي فيما تكتسب به محبة العباد مما ليس بمحرم ، بل هو مندوب إليه ، كما يدل عليه الأمر بإفشاء السلام ، وغير ذلك من جوالب المحبة التي أمر بها الشارع .
- الحث على الزهد في الدنيا إذا كانت سبباً لمحبة الله فلا ينبغي للعاقل أن يفوت هذا .
* جامعة دارالسلام عمرآباد ، تامل نادو ، الهند .
[1] سنن ابن ماجة : 4102 ، قال النووي : حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة 1/226 ، وابن حبان في ( روضة العقلاء ) ( ص 141 ) ، والحاكم ( 4/313 ) ، والطبراني في ( الكبير ) ( ج 6 رقم 5972 ) ، والمحاملي في ( مجلسين من الأمالي ) ( 140/2 )قال الألباني : والأسانيد إنما هي من تحت الثوري وأشدها ضعفاً طريق ابن ماجة وإنما يتقوى الحديث بغير طريقه وبشواهد خرجتها في ( الصحيحة ) رقم ( 944 ) فلتراجع .
[2] تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب 1/30 .
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، المؤلف : أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ، 6/388 .
[4] ( تطريز رياض الصالحين : 1/323 ) ، 104 – إعراب الأربعين النووية .
[5] في ” مدارج السالكين ” ( 2/13 – 15 ) ، انظر : البيهقي في ” الزهد ” ( 466 ) ، وأبو نعيم كتاب ” الحلية ” ( 6/386 ) ، والذهبي في ” السير ” ( 7/243 ) ، وذكره القشيري في رسالته ( ص 115 ) .
[6] ( أخرجه الترمذي في كتاب الزهد عن أبي ذر رضي الله عنه ، وقال : حديث غريب ) .
[7] المستدرك للحاكم : 7188 ، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تعليق الذهبي قي التلخيص : صحيح .
[8] ” الفتح الرباني ” للشيخ عبد القادر الجيلاني .
[9] مدارج السالكين ( 2/12 ) .
[10] ( التمهيد : 9/201 ) .
[11] إعراب الأربعين النووية : 1/73 .