مهما ركزنا جميع الآليات الحديثة على التفتيش عن وسائل الأيدلوجيات المعاصرة التي تعيش في العالم اليوم لما استطعنا أن نتبين واقع الإنسان في الدول المادية بوجه خاص ، إنه يعايش كثيراً من الاتجاهات المضادة مما يباعد بينه وبين الطبيعة السليمة التي فطر عليها ، ويتنفس في جو قلق لا يسمح له بالطمأنينة التي لا غَناء عنها لأفضل الخلق في العالم البشري .
إنها حقيقة ملموسة مشاهدة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة بجميع أنواعها ، وهي تشمل الجهات السكانية كلها في الشرق والغرب والشمال والجنوب ، فقد أصبحت تظهر المخالفات التي لا يسمح بها القانون الطبيعي من وضع الله تعالى ، خالقِ النوع البشري ومانح الأفضلية له في كل مكان ، ولذلك لم يكن هناك مجال للحرية المعاشة اليوم بين المجتمعات والبيئات ، وهي لا تعني إلا محاربة ذلك القانون الطبيعي الذي يمنح البشر كلهم علواً وفضلاً ، ويطالب منهم أن يطبقوه على جميع شئونهم وأحوالهم ، ومعلوم أن الدول الصغيرة والحكومات الكبيرة العالمية كلها تعيش تحت القانون وإن كان من صنع الإنسان إلا أنه لا يستطيع أن يستغني عن قانون الطبيعة في أي حال ، ذلك لأن الإنسان ليس مادةً فحسب ، بل إنه جسم وروح ، ومادة ومعنى ، فإذا حاولت مجموعة بشرية أن تكتفي بالإعدادات المادية وحدها وتترك القوى المعنوية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الطبيعة البشرية لغواً ، دون الاستفادة منها في تعديل الجو الحيوي للعيش في هذه الكائنات ، كانت النتائج مضادةً وتتابعت مشكلات وتعقدت مسيرة الحياة من جميع النواحي كما هو الشأن في الدول المادية .
ومن هنا فقد الإنسان طريقه المنشود الذي يؤديه إلى سعادة وأمن ويوفر له الطمأنينة والهدوء في كل ناحية ، هذا الواقع ملموس اليوم على جميع المستويات الفردية والجماعية ، والناس كلهم يبحثون عن ملاجئ الأمن والعافية ويتطلعون إلى مواقع الازدهار والغنى والمناصب العالية في الحياة ، مهما كلف ذلك العمل بعض المتاعب من التضحية بالمال والنفس ، هذا ما يعلمنا الرجل المادي والحضارات المعاصرة التي يعيشها الناس ويعتقدون الحياة الدنيوية منتهى آمالهم وعاقبة أعمالهم ، وليس عندهم أي تصور للحق الذي يعود عليهم ممن خلقهم في صورة إنسان ، وميَّزهم عن الخلائق الكونية كلها ، ولا يعرفون معنى لما أكد لهم خالقهم الواحد الأوحد الأحد ، الله رب السماوات والأرض والكائنات كلها : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) .
فمن هو الأتقى عند الله ؟ وقد سبق ذلك التذكير من الله تعالى أن الناس كلهم أبناء آدم وحواء عليهما السلام ، فكان لا بد من وضع حدود للتعارف فيما بينهم فتوزعوا بين الشعوب والقبائل لمجرد التعارف والتعايش بعواطف الخير والنصح لا بالفخر بالآباء والأنساب ومفاخر الدم واللون ، فمن عاش في هذا العالم في الإقبال على الله تعالى وعواطف الشكر على نعمة الإنسانية التي لا تساويها نعمة أخرى ، فهو الأكرم الأعز عند ربه تبارك وتعالى الذي يعرف بكل دقة أن الانتماء إلى الأبوين الأولين إنما هو الأصل ، وموضع الفخر ، أما إذا كان هناك شيئ يفتخر به ، فلتكن قلوبنا مفعمةً بروح التقوى التي لا تتيسر إلا بالاتقاء الكامل من شهوة المال وشهوة النفس ، والتوكل الخالص على الله تعالى في الرزق من كل نوع ، فإنه يرزق الجميع كل ما يحتاج إليه ، وهو يتولى حياته ونموه وبقاءه على أحسن حال مهما كان من مخلوق ، إلا أن الإنسان فإنه يتوزع بين فطرة الله التي فطر الناس عليها وطبيعة النفس التي تغاير الفطرة السليمة فتبعثه على الخضوع أمام الشهوات من النفس والمال ، والحرمان عن الفوز العظيم الذي لا يتحقق إلا بالطاعة الكاملة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ثم كان النوع البشري كله مطلوباً منه أن يعيش كأفضل الخلق في كل حال من الشدة والرخاء ، ولا يحيد عن طريقه الذي قرره الله العظيم بغاية من الوضوح والتنوير ، وما هو إلا طريق الفطرة الإيمانية الربانية التي خصها الله سبحانه لأفضل خلقه الإنسان وقد هداه السبيل ، وأنعم عليه بنعم الإنسانية التي لا يأتي عليها الحصر ، فمن عرفها وعاش مغتبطاً بها وشاكراً لها ومفتخراً بها ، فذلك هو العبد المؤمن العارف بربه تعالى والعائش في الطاعة الكاملة له ، وقد صرح الله سبحانه بمثل هذا العبد المؤمن قائلاً في كتابه العظيم ( إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ) .
فالإيمان الصادق يتحقق بالإيمان واليقين بقدرة الله تعالى ، وبذل النفس والمال في سبيل الله وحده ، وقد مثل السابقون الأولون مثل هذه الحياة ، فكانت الحياة نموذجاً عالياً للأخلاق السامية من صالح الأعمال وسمو النفس والتمسك بالشريعة الإلهية في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية ، وتمثيل قول الله تعالى ( أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ) ، ورغم أن عالمنا الحديث قد تغيرت فيه المقاييس والموازين ، وحلَّت فيه قيم اصطناعية محل القيم الخلقية الإيمانية والتوجيهات الخالصة واتجهت نحو كسب المباهج المادية وحدها ، ولكن هناك نماذج كثيرة للحياة الصالحة والعيش مع الطبيعة الإنسانية الأصيلة التي هي مشروحة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بشيئ كثير من الوضوح والبيان ، وقد أخرج هذا الواقع العالم البشري كله من الحياة الزائفة ومن الظلمات التي ساقته إلى حياة البهائم والأنعام إلى حياة النور والإيمان ، وقد كان الناس يعيشون في ظلمات الجهل وعبودية الآلهة الباطلة من الأحجار والأشجار زاعمين أنها هي المعبود والمسجود ، وحسبنا أن نعرف قصة بني إسرائيل ، كيف رفضوا دعوة موسى عليه الصلاة والسلام وخرّوا أمام فرعون الطاغية ، فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف ، وأغرقهم فجاءةً في النيل وقضى عليهم من غير رحمة ، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا الإله المزيف الكذاب عبرة التاريخ إلى يوم القيامة .
ولمّا قال الملأ الذين كفروا من قوم نوح حين دعاهم إلى الإيمان بالله الواحد العظيم وعبادته ( يا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ) ، ولمّا سخروا منه حينما كان يصنع الفلك لمن آمن من قومه فاجأهم عذاب من الطوفان الهائل العظيم الذي فار تنوره ، فأغرقهم على حين غفلة ولم ينج منه إلا من آمن وركب الفلك الذي صنعه سيدنا نوح عليه السلام ، وكذلك كل من دعا قومه إلى الله تعالى فاستجاب دعوته من أراده الله سبحانه ، ولكن الكافرين رفضوها وواجهوا من العقاب الشديد ما قدر لهم ، والله غني عن العالمين .
وهكذا كان الناس يعيشون حتى بعث الله رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم برسالة إنسانية وسط ، فكانوا أمةً وسطاً للعالم جميعاً إلى آخر يوم البقاء ، وكانوا شهداء على الناس إلى يوم القيامة ( وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي