جدلية العقل والنقل الأحاديث النبوية نموذجاً

قانون الأوقاف الإسلامية في الهند : مضاره وسلبياته
يوليو 9, 2025
الطب النبوي : بين العلم والدين : دراسة تحليلية معاصرة ( الحلقة الأولى )
يوليو 9, 2025
قانون الأوقاف الإسلامية في الهند : مضاره وسلبياته
يوليو 9, 2025
الطب النبوي : بين العلم والدين : دراسة تحليلية معاصرة ( الحلقة الأولى )
يوليو 9, 2025

دراسات وأبحاث :

جدلية العقل والنقل

الأحاديث النبوية نموذجاً

الدكتور خورشيد أشرف إقبال الندوي *

موضوع الدمج بين العقل والنقل في النصوص الدينية :

إن جدلية العقل والنقل مسألة قديمة جديدة ومتجددة ، والناظر في هذه القضية يرى أن نشأة إشكالية التعارض بين العقل والنقل كانت بعد انفتاح المسلمين على الثقافات الأخرى ، وترجمة كتب المنطق والفلسفة اليونانية ؛ حيث تأثر بعض مفكري المسلمين وعلمائهم بتلك الفلسفة بتعظيمها للعقل وجعله معيار قبول الأشياء وردها ، فما عارضه من الشريعة يجب تأويله بما يتوافق مع دلائل العقل طبقاً للمقرر في تلك الفلسفة ، ويزداد الجدل حول هذه القضية كثيراً ، حينما تعلو أصوات الثقافات المتغلبة في تجلياتها الحداثية ، التي أقصت الوحي الإلهي عن واقع الحياة ، وأحلت محله عقل الإنسان ، فألَّهت العقل وجعلته معيار قبول الأشياء وردها ، ما أرخى بظلاله على منطق التفكير الديني في بعض الأوساط ، لتأويل عقائد الدين وأحكامه لتتوافق مع العقلانية المقررة في تلك الثقافات .

وقد تجسّدت العلاقة بين العقل والنقل في الإسلام مبدأً من مبادئ الاعتدال والتوازن ، فالعقل ، بما هو أداة للتفكير والتحليل والتأمل العميق في النصوص بشكل يتماشى مع الظروف المتغيرة ؛ فهو ملكة ربانية وهبها الله تعالى الإنسان ليميز بواسطتها الخطأ من الصواب .

والنقل ، بما هو مصدر المعلومات الدينية الثابتة الموثوقة ، يطلق على ما نُقل إلينا من كلام الله تعالى ( القرآن الكريم ) ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة ، هو مرجع أساسي يُعتمد عليه في التشريع الإسلامي وتوجيه الحياة اليومية للمسلمين ، وله دور محوري في استنباط الأحكام الشرعية وتحديد القوانين .

ولذا يُعَدُّ اختلاف العلماء في التعارض بين العقل والنقل في النصوص الدينية موضوعاً معقداً ؛ يعكس هذا الاختلاف تباين التوجهات الفقهية والفلسفية في تفسيرها وتطبيقها ، لكنها كثيراً ما تُوضع في غير وضعها الصحيح ، فتارةً يُسمى ما ليس عقلاً عقلاً ، مثل الظنون والأوهام والأهواء والشهوات والأغراض الشخصية ، وتارةً تعمم الأحكام الظنية على نصوص الشرع كلها مع الاعتراف بأن في الشرع ما هو ظني الثبوت وكثيراً مما هو من ظني الدلالة ، لكن خطر التعميم يوقع في إشكالات ، وتارةً يعتبر العقل مؤسساً للنقل وقاعدةً له ، وهذا قد يصح بوجه ، لكن المولعين بالدراسات الفلسفية ينسفون بهذه المسألة كثيراً من دلالات النصوص الشرعية وإن كانت قطعية الثبوت قطعية الدلالة .

وتُعَدُّ جدلية العقل والنقل في النصوص الدينية من القضايا الفكرية العميقة التي أثارت نقاشات مستفيضةً بين العلماء والمفكرين على مر الأزمان ، تعكس هذه المسألة كيفية تفاعل النصوص مع العقلانية والتفسير العقلاني في فهم الدين .

وتراوحت أقوال الاتجاهات الدينية بين من يرى تقديم النقل على العقل مطلقاً ، ومن يعاكسه بتقديم العقل على النقل مطلقاً ، ومن شق طريقاً بتحديد القطعي منهما وتقديمه على الآخر بصفته قطعيّاً ، وليس باعتبار جنسه سواء كان عقليّاً أم نقليّاً بحسب باحثين ، ولا تعارض في الواقع – من حيث الأصل – بين قطعيين من العقل والنقل ؛ لأن الذي خلق العقل هو الذي أنزل النقل ، فإن حصل تعارض فإنما هو من جهة الناظر في الأدلة ؛ وذلك لأن مرد كليهما إلى الله تعالى ، ولا يمكن أن يختلف كل من حكم الله وخلقه وسننه في كونه .

ومن الأمور التي تعين الأطراف المختلفة على تضييق هوة الخلاف بينها ، وتجعل اجتماعها أكثر سهولةً ويُسراً ، التذكير الدائم بأن عقول الناس تتفاوت في الفهم ، وأن كل زمان وبيئة يدرك أهلهما بعقولهم ما لم يدركه من سبقهم ولا من يأتي بعدهم ، وأن ما ينكره عقل البعض قد يستوعبه ويقبله عقل الآخرين .

وقد يتوهم الناظر في الأدلة وجود القطع في أحد الجانبين والأمر بخلافه ، أو قد يقلد غيره ، أو تشتبه عليه الأدلة ثبوتاً أو دلالةً ، فيقع الخطأ من جهة نظره ، وليس من جهة الأدلة القطعية ذاتها سواءً أكانت عقليةً أم نقليةً .

إذاً القانون الثابت الذي ينبغي إعماله دائماً هو التحقق من صحة النقل أولاً ، ومن ثم التحقق من دلالته ، ثم التحقق من عقلية العقل ، وألا تُقحم فيه الجهالات والأهواء ، ثم تُسمى عقلاً تمويهاً ومخادعةً ، ومتى أمكن الجمع بين النقل الصحيح الصريح ، والعقل الصريح بأي وجه من وجوهه وجب المصير إليه ، ولا شك في أن الجمع متاح دائماً ، وهو مطّرد لا يتخلف أبداً ، إلا إذا تخلفت صحة النقل ، أو اشتبهت دلالته ، أو ادُّعي ما ليس بعقل عقلاً ، وهذا هو الواقع في جميع حالات التعارض والاختلاف .

قال الإمام الشافعي : ” لا يصح عن النبي أبداً حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر ” ( الشوكاني ، 1419هـ 2/261 ) .

وقال الإمام ابن خزيمة : ” لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين ، متضادان ، فمن كان عنده فليأت به حتى أولف بينهما ” . ( الخطيب ، 1357هـ ، ص 432 ) .

ودفع التعارض ضروريٌّ لتحقيق التفسير الصحيح والتطبيق السليم للأحاديث النبوية ؛ وذلك لأنه من المناسب إمعان النظر في معرفة الحقيقة والصواب ، لا الطرد والإبعاد وعدم الاعتماد ؛ لأن التعارض والخلاف يمكن إزالته بمراعاة مقاصد الشريعة في ضوء أصول علمية وضوابط فنية . فهذا الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يُقبِّل الحجر الأسود ، ثم يُحكِّم عقله في صنيعه ، فيخرج بنتيجة مفادها ” إني لأعلم أنك حجر ، لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتُك ” ( البخاري 1435هـ ، برقم 1520 ) .

وعلى هذا فالعقل بمنطقه الواعي هدى عمرَ رضي الله عنه إلى الصواب ؛ وهو أن الحجر الأسود حجر ليس منه ضرر ولا نفع ، لكن هل توقف عمر عند استنتاج العقل ، واكتفى به ؟ لا ، بل وازن بينه وبين النقل ( السنة النبوية ) ، فقدَّم ما نص عليه النقل ( السنة ) على ما توصل إليه العقل .

قال الحافظ ابن حجر : ” وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لا يكشف عن معانيها ، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة ” ( ابن حجر ، 1429هـ 3/475 ) .

وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن جبير في خمسين من الصحابة رضي الله عنهم يأمرهم الرسول أن يبقوا على جبل الرماة ليحموا ظهور المسلمين في غزوة أُحد ، ويأمرهم بألا يبرحوا مكانهم سواءً انتصر المسلمون أو غُلِبوا ، لكنهم عندما رأوا النصر تحقق للمسلمين حكَّموا العقل وخالفوا النقل – الذي كان حيّاً بينهم – فحصل في المسلمين ما حصل من القتل .

ومع المكانة العالية للنقل إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعله فاصلاً في كل شيئ خصوصاً في بعض أمور الدنيا ؛ فقد قال لأصحابه في حديث ( تأبير النخل ) ” أنتم أعلمُ بأمر دنياكم ” ( مسلم ، 1435هـ ، برقم 2363 ) .

فلعل لنا اليوم في هذه الوقائع الثلاث التي وقعت في الصدر الأول للإسلام – ومثيلاتها – مَخرجاً من الجدلية القائمة حول أحقيَّة ( النقل والعقل ) ؛ فقد اتضح أن النقل والعقل لا ينفكان عن بعضهما ، وأن بينهما الكثير من التقاطعات ، لكن للنقل ( الصحيح ) مجاله الأوسع في أمور الدِّين والغيب ، وللعقل ( الواعي ) مجاله الأرحب في أمور          الدنيا ، وتستقيم المعادلة بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم : ” إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيئ من دينكم فخذوا به [ النقل ] ، وإذا أمرتكم بشيئ من رأي ، فإنما أنا بشر [ العقل ] ” ( مسلم ، 1435هـ ، برقم 2362 ) .

وتدل هذه الوقائع بكل وضوح على أنه لا تعارض أصلاً بين عقل صريح ونقل صحيح ؛ فإذا ثبت النص لم يمكن أن يكون بينه وبين صريح العقل معارضة البتة ، وذلك بدهي ، فإن منزل الشرع وخالق العقل هو الله وحده لا شريك له ، وغاية ما يكون في هذا الباب أن تأتي النصوص بما تعجز العقول عن إدراك كيفيته ، لكن لا سبيل لها إلى الجزم بانتفائه ، ولذلك قيل : إن الشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالات العقول .

مناقشة القول بوجوب تقديم العقل على النقل :

اعتنى كثير من المتكلمين – قديماً وحديثاً – بالعلوم العقلية ، معتبرين أن ” العقول طرق المعلومات ” ( الزركشي ، 1421هـ 1/30 ) وأن  ” العقل هو الحجة ” ( الجاحظ ، 1416هـ 1/207 ) وأن ” أحكامه يقينية لا كذب فيها ” ( ابن خلدون ، 1984م ، ص : 460 ) .

يقول عمرو بن بحر الجاحظ : ” ما الحكم القاطع إلا للذهن ، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل ؛ إذ كان زماماً على الأعضاء وعياراً على الحواس ” ( الجاحظ ، 1982م 3/45 ) .

وبناءً على هذه النظرة التبجيلية تجاه العقل رأوا إمكانية وجود تعارض حقيقي بين أحكام العقل ومدلولات النقل .

وقد جنحت المدرسة العقلية إلى اعتبار أن أحكامه قطعية ، وهو ما لا يتوافر في النص ابتداءً ، ولهذا اشترطوا في صحة الاستدلال بالدليل السمعي ( الدليل السمعي في عرف المتكلمين يشمل الكتاب والسنة والإجماع لا غير ( انظر : الزركشي ، 1421هـ 1/27 ) شروطاً من أهمها دفع المُعارض العقلي أو العلم بعدم المعارض العقلي ، كما قال الفخر الرازي : ” الدليل السمع لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره ” ( الرازي ، 2015م 1/143 ) .

وقال أيضاً : ” الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية ، وهي عدم دليل عقلي يوجب تأويل ذلك النقل ، وكلما يَبتَنِي صحته على ما لا يكون يقينيّاً لم يكن هو أيضاً يقينيّاً ” ( الرازي ، 2015م 1/144 ) .

أما أهل الحديث فقد منعوا من إمكانية وقوع تعارض حقيقي بين منقول صحيح ومعقول صريح ، منطلقين من إحدى المسلمات عندهم ، وهي أن من خلق العقل وأمر بإعماله هو من أنزل النقل وحض على اتباعه ، ومن ثم فإنه ” إن وجد ما يوهم التعارض بين العقل والنقل ، فإما أن يكون النقل غير صحيح ، أو يكون صحيحاً ( لكن ) ليس فيه دلالة صحيحة على المدعي ، وإما أن يكون العقل فاسداً بفساد مُقدِّماته ” ( المطرفي ، 2014م ص : 49 ، وانظر أيضاً ابن تيمية ، 1417هـ 1/172 ) .

وقصارى القول في هذا الصدد أنه من أهم الفروق الجوهرية بين هاتين المدرستين أن الإيمان بشيئ ما لا يتوقف عند أهل الحديث على حكم العقل ، وإنما يتحصل بمجرد ثبوت النص به ، فالنص معصوم من الخطأ ، وهذه ” العصمة بقدر ما هي في حقائق الشريعة فهي في ألفاظها ودوالها ” كذلك ( أبو زيد 1416هـ 1/153 ) .

أما أهل العقل والنظر فلا يرون أن هذا الثبوت كاف ما لم يجاوز قنطرة المحكمات العقلية ، فالنظر العقلي في نهاية المطاف هو صاحب الكلمة الفصل فيه قبولاً أو رداً ، وهو المقدم عند وجود تعارض .

ولكن الإنسان العاقل المسلم يعلم أنه مخاطب بوحي من الله تعالى ، خالق العقل ومشرع الشرع ، لذا كان منهج الأوائل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة ، أنهم يقدمون الرواية على الرأي ، ويفضلون التركيز على النصوص النبوية كمصدر أساسي للشريعة ، ويُقلِّلون من أهمية التفسير العقلاني عندما يبدو أن هناك تعارضاً بين النص والعقل ، ويعتقد هؤلاء العلماء أن النصوص النبوية يجب أن تُفهم كما هي ، وأن العقل لا ينبغي أن يتجاوز النصوص أو يتدخل في تفسيرها إلا في حدود ضيقة .

ورأوا أن القول بوجوب تقديم العقل على النقل لا يخلو من نظر ، وذلك من وجوه :

الأول : ما جُبل عليه العقلُ الإنساني من قصور يجعله في أحايين كثيرة عُرضةً للتباين في التقدير ، والتناقض في الأحكام والاستجابة الواعية وغير الواعية لكثير من المؤثر ، و ” كما أنَّ للحواس أغلاطاً معروفةً كرؤية الواحد اثنين والصغير كبيراً وعكسه ، وتوهُّمِ بعض الناس أنه يسمع كلاماً في حال أن الذين بجنبه لا يسمعون شيئاً ، واستطابةِ الروائح الكريهة في بعض الأمراض ، وطعمِ الماء العذب مُرّاً في بعضها . . ، فكذلك للعقل أغلاط أدق وأخفى ” ( اليماني ، 1434هـ 2/307 ) ، وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ناصحاً أحدهم :    ” كما جُعل لطرفك حد ينتهي إليه كذلك جعل لعقلك حد ينتهي إليه ”   ( أبو نعيم 1405هـ 9/141 ) .

الثاني : أنه قد علم أن السنن ووجوه الحق قد تأتي على خلاف بادي الرّأي ( ابن حجر ، 1405هـ 3/189 ) كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه : ” لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه ” ( أبو داود 1434هـ برقم 162 ) .

الثالث : أن من المقطوع به أن العقول تتفاوت تفاوتاً عظيماً في سعة قدراتها وفي مدى إدراكاتها فما يستحسنه عقل قد يقبح عقل ، وما يتقبله عقل قد ينفر منه غيره ، وما يستصوبه عقل قد يخطّؤه سواه ، بل إن العقل الواحد قد يقبل الشيئ في زمن أو مكان ثم يرده في زمن أو مكان آخر كما هو مشاهد ، وهذا بخلاف النص الذي يمتاز بالثبات والعصمة ، ومن هنا قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رحمه الله : ” أوَ كُلَّما جاءنا رجل أجدلُ من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء ؟ ” ( أحمد ، 1408هـ 2/72 ) .

فللعقل – عند أهل الحديث – وظيفة لا ينبغي أن تتجاوز ، فهو شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها ، وبه يكمل العلم والعمل ، لكنه ليس مستقلاً بذلك ، بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين ، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار . وإنا نفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها . وانعزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانيةً ، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما قد يحصل للبهيمة . فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة ، والأقوال المخالفة للعقل باطلة ” ( ابن تيمية ، مجموع فتاوى بدون تاريخ 3/338 ) .

” وإذا انقاد العقل العادي للشرع وامتثل هُداه واستضاء بنوره فقد أمن ما يخُشى من قصوره ” ، ( اليماني ، 1434هـ 11/329 ) ، وأهل الحديث ” لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية ولا فيما علم العقل صحته ، وإنما يطعنون فيما يدَّعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة ” ( ابن تيمية ، 1417هـ 1/194 ) .

أما أهل العقل والنظر فقد ذهبوا إلى اعتماد النظر كأول واجب على المكلف ، وأنه لا تعارض بين العقل القطعي والنقل القطعي ، وفصَّلوا فيما سوى ذلك ؛ حيث قال أبو حامد الغزالي : ” وعلى كل ، فقد ذهب الأشاعرة إلى وجوب تقديم العقل القاطع على النقل عند التعارض ، وقال الغزالي أيضاً : ” إن ورد دليل سمعي على خلاف العقل ، فإما أن لا يكون متواتراً في علم أنه غير صحيح ، وإما أن يكون متواتراً في كون مؤوَّلاً . . . ” ( الغزالي ،1413هـ ، ص : 252 ) .

وأما ( أن يوجد ) نصٌّ متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل فذلك مُحال ؛ لأن دليل العقل لا يقبل النسخ والبطلان ” ( الغزالي ،1413هـ ، ص : 252 ) .

وقال فخر الدين الرازي : ” القواطع العقلية لا تُعارضها الظواهر النقلية ، بل تُعلَم أن تلك الظواهر مؤولةٌ ولا حاجة إلى تعيين تأويلها ”         ( الرازي 1400هـ 2/377 ) ، وقال أيضاً : ” آيات التشبيه كثيرة ، لكنها لما كانت معارضةً بالدلائل العقلية القطعية لا جَرَم أَوجِبنا صرفَها عن ظواهرها ” ( الرازي ، 1407هـ 9/116 ) .

وقد استدلوا على ذلك بأدلة عديدة ، منها :

الدليل الأول : قولهم إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين ؛ لأنها مبنية على أصول ظنية ، والمبني على الظن يظني ، وأما الدلائل العقلية فتفيد اليقين ، والمظنون لا يعارض المقطوع ( انظر : الرازي ، 1404هـ ، ص : 25 ، الرازي 1400هـ 1/547 ) .

ونُوقش هذا الاستدلال بما يلي :

أن القول بأن ( الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين ) ، ليس بمسلَّم على إطلاقه ، فقد اتفق العقلاء على كون كثير من الدلائل العقلية لا تبلغ رتبة القطع ، كما أن من الأدلة النقلية غير المتواترة ما قد يفيد اليقين إذا احتفت به بعض القرائن ( الإيجي ، 1417هـ 1/209 ، الرازي 1400هـ 1/575 ) وما بطلت مقدمته بطلت نتيجته ضرورةً .

قال الشهاب القرافي : ” الألفاظ اللغوية قد تفيد القطع ، وإنكار ذلك قدح في قواطع الكتاب والسنة وهو بين كفر وبدعة ” ( القرافي 1416هـ 6/2595 ) .

وقال الدكتور أحمد حجازي السقا تعليقاً على منع الفخر الرازي من التمسك بالدلائل اللفظية في المطالب اليقينية ” المؤلف قد جانبه الصوابُ في هذا الحكم ، فإنه بقوله : ( إن القرآن يفيد الظن ولذلك يجب الاعتماد على الأدلة العقلية ) يهدم أصول الدين بالكلية ” ( الرازي 1407هـ 9/118 ، هامش رقم 1 ) .

الدليل الثاني : أن العقل يقضي بوجوب تقديم القواطع العقلية على الظواهر النقلية عند التعارض ، ووجه ذلك أن الجمع بين تصديقهما مُحال للزوم اجتماع النقيضين ، والجمع بين تكذيبهما محال للزوم الخلو عن النقيضين ، والقول بترجيه الظواهر النقلية على القوطع العقلية محال ، لأن النقل فرع على العقل ، فالقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح في الأصل والفرع معاً وهو باطل ، فلم يبق إلا الإقرار بمقتضى الدلائل العقلية القطعية وحمل الظواهر النقلية إما على التأويل ، وإما على تفويض علمها إلى الله سبحانه وتعالى ” ( الرازي 1415هـ ، ص : 130 ، الرازي 1404هـ ، ص : 48 بتصرف يسير ) .

وقد أجاب ابن تيمية ” عن هذا الدليل بقوله ” إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع النقيضين .

وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل ؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيئ من الأشياء ، فكان قديم العقل موجباً عدم تقديمه فلا يجوز تقديمه .

ثم أطال الكلام على هذا ابن تيمية ” إن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيّاً دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء ، سواء كان هو السمعي أو العقلي ؛ وذلك لأن الظن لا يرفع اليقين . وأما إن كانا جميعاً ظنيين فإنه يُصار إلى طلب ترجيح أحدهما ، فأيهما ترجّح كان هو المقدم سواء كان سمعيّاً أو عقليّاً ، منبهاً إلى أنه إذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيّاً لا لكونه عقليّاً ” ( انظر : ابن تيمية 1417هـ 1/78 – 79 بتصرف ) .

وهكذا عارض ابن تيمية منطق العقليين بذات السلاح الذي استخدموه ، وهو العقل ، فكانت ردوده عليهم متشعبةً ؛ إلا أنه يبدو أن ابن تيمية يريد أن يؤكد بأن الأدلة العقلية الصحيحة وكذا العلوم الفطرية الضرورية ، كلها توافق ما جاء به الخطاب الديني ؛ حيث المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط ، وكذا هو العكس ، أي أن العقل الصريح لا يخالفه النقل القطعي .

* الجامعة المحمدية ، ماليغاؤن ، مهاراشتر ( الهند ) .