الرزق في وحي الله وما يجب فيه من الحقوق ( الحلقة الثانية الأخيرة )

الصحوة الإسلامية بحاجة إلى جهود علمية وإعلامية
فبراير 23, 2025
الصحوة الإسلامية بحاجة إلى جهود علمية وإعلامية
فبراير 23, 2025

التوجيه الإسلامي :

الرزق في وحي الله وما يجب فيه من الحقوق

( الحلقة الثانية الأخيرة )

بقلم : الدكتور غريب جمعة *

كان ختام الحلقة السابقة هو :

أن المنفق في إرضاء ربه وإعلاء دينه كمثل أبرك بذر زُرع في أخصب أرض ، فنما نمواً حسناً ، فجاءت غلته سبع مائة ضعف .

ويؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الزيادة والمضاعفة من الله الواسع العليم ، فيقول : ” من أرسل بنفقة في سبيل الله ، وأقام في بيته فله بكل درهم يوم القيامة سبع مائة درهم ، ومن غزا في سبيل الله ، وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبع مائة ألف درهم ” ثم تلا هذه الآية . [ أخرجه ابن ماجه عن علي وأبي الدرداء ] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إنَّ اللهَ يقبلُ الصدقةَ ويأخذها بيمينِهِ فيُرَبِّيها لأحدكم كما يُرَبِّي أحدكم مهرَهُ أو فَلُوَّه أو فصيله ( المهر والفلو والفصيل ولد الفرس ) حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد ” ، قال وكيع وتصديق ذلك في كتاب الله :  ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُو يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُو التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) [ التوبة : 104 ] ، ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) [ البقرة : 276 ] .

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن الغزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد [1] .

وبما أن هذه الأموال التي تملأ رحب الأرض هي لله خالقها ومعطيها لمن يشاء ، فلا ريب أن الله جل جلاله ما خلقها عبثاً ولا خلقها لكي يحجرها بعض الناس عن بعض ، وإنما خلقها لكي يتعاونوا بها على البر والتقوى ويستعينوا بها على الإحسان ، ومن العظمة الهائلة أن هذا المال الذي هو لله أصالةً يعتبره الله إذا أنفق منه العبدالذي وصل إليه إنما هو قرض لله عز وجل يضاعف أجره أضعافاً كثيرةً . قال تعالى : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 245 ] .

والله جل جلاله هو المعطي على كل حال ، ولكن علم عباده – حينما يقدمون ما قدمه إليهم سلفاً لإخوانهم – علمهم الأدب والصدق والمحبة والتواضع ، وأن يكون هذا العطاء خالصاً لوجهه الكريم دون غاية من الغايات أو علة من العلل ودون تسخير أو إذلال .

أنعم نظرك فيما سوف يأتيك من آيات تجد أدباً عالياً وخلقاً كريماً وإنسانيةً فذةً ورحمةً واسعةً لا تجد مثل ذلك إلا في وحي الله .

وما حصر الله عز وجل الإنفاق أن يكون في سبيله فقط إلا ليخرج الناس من أنانيتهم وحزازاتهم وكبرياء بعضهم على بعض ، وإلا ليخرج الناس من انحطاط نفوسهم وزعمهم أنهم هم المعطون ، جاهلين أو متجاهلين حقوق الله عليهم وإسباغ نعمه وبركاته عليهم . فالزكاة لا تخرج إلا لله فقط لا لكسب ولا لتخير ولا لمنفعة ولا لشيئ مما يعود على المعطى بالنفع الخاص .

ألا ترى إلى أم المؤمنين السيدة عائشة رضوان الله عليها حين كانت ترسل الصدقات إلى المستحقين توصي المرسل بأن يسمع ما يقولون من دعاء وثناء وشكر . فإذا عاد المرسل إليها وذكر ما قالوا . رفعت يدها إلى الله وقالت مثل قولهم وقالت ما معناه : هذه بتلك ، وإنما العطاء في سبيل الله ، لأنه هو المعطي أولاً وآخراً .

عن عائشة رضي الله عنها قالت : أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة ، قال : ” أقسميها ” ، فكانت عائشة رضي الله عنها إذا رجعت الخادم تقول : ما قالوا ؟ تقول الخادم : قالوا : بارك الله فيكم ، فتقول عائشة : وفيهم بارك الله ، نرد عليهم مثل ما قالوا ويبقى أجرنا لنا [2] .

وحسب المؤمن أن يسمع قول الله جل وعز بأذنين واعيتين وقلب خاشع ونفس راضية : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) [ البقرة : 263 ] .

وويل للذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى والتفاخر والتباهي وانتفاخ الصدور الكاذب ورفع الرءوس الفارغة إلا من العجب والرياء وعد الإحسان على من أحسنوا إليه وإيذائه بالتطاول عليه . أجل يا ويلهم ولم لا يكون ذلك الويل معدلهم والله عز وجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 264 ] .

وما ينفعك الناس حين تنفق لفتاً لأنظارهم لك ولإكبارك وتترك من بيده الأمر كله خالق السموات والأرض ؟

لا شك أن من يفعل ذلك إنما هو مرتاب أثيم يحفه الصَّغَار من كل مكان ، ولو فطن هذا المفاخر المباهي المرائي للناس أن عمله في نظر الله لا شيئ ، بل هو كحجر أملس عليه تراب يحسبه صالحاً للإنبات فنزل عليه من المطر ما أزال التراب وبقي الحجر الصلد على طبيعته حجراً صلداً . وهل ينتظر من الحجر الصلد إنبات ولو حبة شعير ؟

ولو نظر المؤمن بمنظار الحق والوعي واليقين إلى الصورة المشرقة الوضاءة التي وصف الله بها الذين يتصدقون لوجهه وحده وفي سبيله وحده ولطلب رضاه وحده . لو نظر إلى هذه الصورة في قوله تعالى : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [ البقرة : 265 ] ، لو نظرإلى هذه الصورة لما وسعه إلا أن يخر ساجد قائلاً : سبحانك ربي سبحانك .

ألا ترى الروعة التي تأخذ بالقلوب حينما ترى جنةً عاليةً في ربوة زاهية نضرة ، بعيدة عن تراكم المياه الجوفية وجوائح الغرق ، فإنها تنضر بالأمطار وتزهو وتزهر ، ومع ذلك لا تجف إن لم يصبها المطر الكثير ، إذ المطر القليل ( الطل ) يكفيها لكي تظل ناضرةً مشرقةً مثمرةً ، وكل ذلك إنما يكون لإخلاص المخلصين من عباد الله المكرمين الذين يقدمون أموالاً بتواضع وانكسار وشكر لمولاهم الذي مكنهم من ذلك ، ومن أحق من الله بالشكر جل جلاله ؟

ولا يحسبن الذين يملكون الأموال الطائلة والقصور الشاهقة والحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار . لا يحسبن هؤلاء أن هذا دائم ومرعي برعاية الله ومحفوظ بحفظ الله إن لم يكونوا من المؤمنين الشاكرين الصادقين .

وكم وكم رأينا ممن يملكون الأموال الطائلة والقصور الشاهقة والحدائق الغناء ، لقد ذهب كل ذلك كما يذهب الأمس الدابر ولا تبقى إلا الغُصص والآهات وضرب الأكف بعضها ببعض . هذا حق وكثير في الدنيا وكم رأينا في هذه الدنيا مصداق قوله تعالى : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) [ البقرة : 266 ] .

وإن كنت أيها المؤمن حريصاً على ألا تفلت من يديك نعم الله وعطاياه وما أسبغ عليك من نعم ظاهرة وباطنة فحافظ عليها بالأدب الرفيع والسخاء العظيم الذي أمرك الله به بكل أدب وتواضع وثقة ، فأنت حينئذ حصنت أعمالك جميعاً بالحصون والصياصي وحفظتها للبقاء والاستمرار .

وما أكرم المؤمنين الصادقين الذين يخرجون من حر أموالهم وأكرمها وأحسنها وأجودها في سبيل الله ، ذلك لأنهم يعلمون يقيناً أنهم لو كانوا هم الآخذين ما قبلوا الخبيث أبداً ، والحقيقة أن المؤمن الصادق لا يرضى لسواه إلا ما يرضاه لنفسه . هذا هو الإيمان والنور والهدى والرضوان تجاوباً مع قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) [ البقرة : 267 ] .

ألا يعلم أرباب الأموال أن الأبالسة ترقص بين أيديهم وتقف في وجوههم وتوحي إليهم بالآثام ، وتحذرهم الفقر إن هم أنفقوا في سبيل الله . ولو علموا أن هذه لمات من الشيطان ووسوسة منه لما فعلوا ذلك أبداً . يقول الله تعالى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ البقرة : 269 ] .

والحق أن المؤمن الصادق يعلم يقين العلم أن وعد الله حق ، وأن قول الله حق ، وأن الإتمار بأمره والسير على منهاجه فيه السعادة الكبرى والطمأنينة والخير والبركة .

والحقيقة أن الحكمة في أمر الصدقات وسواها أمرها خطير وشأنها عظيم ومقامها عند الله كبير ، ولماذا لا تكون كذلك والله جل جلاله وصفها بأنها خير كثير . والخير الكثير لا يقدر ولا يحاط به لأنه خير يليق بكرم أكرم الأكرمين وإحسانه على عباده الصالحين . يقول الله تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ البقرة : 269 ] .

والله سبحانه وتعالى أعقب الحكمة بأن النفقة والنذر وسوى ذلك من وسائل البر إنما هي محفوظة المكانة عنده عز وجل ، وناهيك بذلك من إعزاز وناهيك بذلك من إكرام ، وناهيك بذلك من عطاء . اقرأ قوله تعالى : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَو نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ )   [ البقرة : 270 ] .

وخير الصدقات صدقات السر التي لا يطلع عليها سوى المولى الكريم الذي أخرجت من أجله وفي سبيله ، ومع ذلك فإن الله جل جلاله ، إن تصدق المتصدق بصدقة علنية ويريد بها حث الغير ودفعه إلى العمل بالمثل فإن في ذلك مرضاةً لله ولا حرج فيه . يقول الله تعالى : ( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوخَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [ البقرة : 271 ] .

والنهاية أن الله هو الخبير العليم بأعمال عباده السرية والعلنية وهو يعلم دوافعها وحوافزها من أجلها وكل ما يتصل بهذا الباب .

ولكل حسابه عند ربه دون بخس أو عنت أو نقصان : ( فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَه . وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) [ الزلزلة : 7 – 8 ] . وكل أدرى بنفسه من غيره .

ولا ينبغي في هذا المقام أن يحسد أحد أحداً على الرزق ما دام الرزق قسمة في السماء . يعطي الله ما شاء لمن شاءه .

فلنحذر دواعي الهلاك ، لأن الحسد داء دفين مهلك حتماً . ولا ينبغي أن يحسد أحد أحداً على الرزق مادام الله سبحانه وتعالى هو الرزاق الأوحد ، وبابه أبداً يظل مفتوحاً للطالبين المخبتين المخلصين ، فليطرق الطارقون هذا الباب ، فإنه يسع أهل الدنيا والآخرة وقد وسعهم فعلاً .

فالطائر في السماء يرزق ، والحوت في أعماق البحار يرزق ، والحشرة في جحورها ترزق . مصداقاً لقوله تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّة فِي ٱلأَرضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزقُهَا وَيَعلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُستَودَعَهَا كُلّ فِي كِتَاب مُّبِين ) [ هود : 6 ] .

ومن أحسن ما قيل في هذا المقام قول الشاعر السعودي محمد حسن فقي :

أكـــــــرمـــــنـــــي الله فـــما حيلتي فيمن يرانــي غــيـر أهل لذاك

ويـــــحــــــك لا تــــــجـــــهــر بما قلته ولا تــــدعــه ناهشاً في حشاك

سبــحانــه يمنح من شاءه ما شاءه  فاحــــــذر دواعــــــي الـــهـــلاك

واطلب إلى ربـــــك مــــــن فـــــضــله عساه بالكوثر يروى صداك

( انتهت )

* جمهورية مصر العربية .

[1] تفسير المراغي ، للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ، طبعة دار الفكر ( لا يوجد تاريخ للطبعة ) ، المجلد الأول ، الجزء الثالث ، ص 30 .

[2] صحيح الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيميه ، ص 81 .