الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي ورحلته إلى سلطنة عمان

عن جعفر بن ” رشيدٍ ” أطيب الخبر
فبراير 23, 2025
دموع أسى الفراق على نجل الأستاذ العملاق
فبراير 23, 2025
عن جعفر بن ” رشيدٍ ” أطيب الخبر
فبراير 23, 2025
دموع أسى الفراق على نجل الأستاذ العملاق
فبراير 23, 2025

علم فقدناه :

الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي

ورحلته إلى سلطنة عمان

بقلم : الأستاذ السيد أزهر حسين الندوي *

كنا نسمع دائماً منذ زمن بعيد عن الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي وأخلاقه العالية وشمائله الحلوة ، وروحه الإنسانية الدافقة بحب الآخرين على اختلاف ألوانهم وأقدارهم ومعايشهم ، وسيرته العطرية المليئة بالإيمان بقيم الإخاء والعدالة والمساواة ، وكما كنا نسمع أن السيد الندوي يمضي في طريقه العلمي بخطوات ثابتة وأقدام راسخة وهدف واضح ، كأنه على يقين لتحقيق مشروعه العلمي من إنتاجات علمية راقية ، ومناهج مبتكرة ، وفي الآونة الأخيرة لمع اسمه في سماء ندوة العلماء كأحد فرسانها الذين كانوا أقماراً مضيئةً ، وشموساً ساطعةً في سماء ندوة العلماء ، وكان لهم دور فعال في نهضة المجتمع الهندي وإخراجه من كبوته وخموله ، عبر كتاباتهم الفكرية العميقة وأفكارهم النيرة ، وقد تركوا إرثاً فكرياً وعلمياً في مجال الثقافة الإسلامية إفادةً للفكر الإسلامي .

هذا : وقد نمت الأنباء في شهر سبتمبر المنصرم 2024م وتتواتر الأخبار عن قدومه إلى سلطنة عمان لزيارة مكتباتها ومساجدها وكلياتها وجامعاتها ، ولقاء مشايخها وعلمائها ، فشدَّنا الحنين إلى رؤيته ولقائه ، والجلوس معه ، وقضاء بضعة أيام في صحبته الصالحة ، وقد جاء الأستاذ المحترم في الثلث الأخير من شهر سبتمبر ، وبالتحديد 20 في الشهر التاسع 2024م ، وأقيمت له المجالس العلمية ، والجلسات الثقافية والمحافل الفكرية ، وطرحت فيها مشكلات الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم في شبه القارة الهندية ، ونوقشت العديد من القضايا المعاصرة سعياً للعمل على حلها ومعالجتها ، وكانت موضوعات هذه المجالس العلمية والليلية متنوعةً وخصبةً في قضايا متعددة تغطي قضايا الأمة الإسلامية المختلفة ، وكان للأستاذ مشاركات فعالة وآراء سديدة ونظرات ثاقبة في كل جلسة من الجلسات العلمية مع الاتصاف بالذكاء والحنكة وسرعة البديهة ، كما كان له اهتمام واضح بقضايا المسلمين في الهند ، وميزة هذه الجلسات الممتعة المؤنسة والحوارات الفكرية العميقة والأسئلة العويصة الشائكة أنها تبرز شخصية الأستاذ المحترم لدى أولئك الذين لم يلتقوا به من قبل ، ولم يجلسوا معه قليلاً ولا كثيراً ، فوجدنا فيها السيد الندوي الإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني المودة والرحمة والألفة والتعاطف البشري والمشاركة الوجدانية والأحاسيس الرقيقة ولين الجانب ، والتواضع مع الآخرين ، وحب الناس ، والدفء الاجتماعي ، وكلها معان إنسانية نبيلة وجدناها في سيرته الشخصية ، وكان في الحوار بعيداً عن لغة التعالي ، ومفردات الزهو ، ونبرة العنجهية ، ومنطق القوة وأسلوب التهديد والوعيد ، بل كان أسلوبه دائماً أفضل ، ولهجته أرأف ، ولغته ألين وألطف ، وكان يستمد مفرداته من قاموس التحضر ، واحترام الرأي الآخر ، والاستماع لوجهة نظر الآخرين .

وعلى كل حال ، لم نجد من شخصية السيد الندوي إثبات الذات دائماً ، وتهميش الطرف الآخر ، أو التقليل من جهودهم ، كأنه هو المركز والباقي أطراف ، هو المبتدأ وغيره الخبر ، هو موضوع القضية وغيره محمولها ، هو في الصف الأول وغيره في الصفوف الخلفية ، وأخيراً هو الحركة والنبض والنشاط ، وغيره الخمود والهمود والسكون ، كلا لم نجد فيه هذا وذاك ، ونستنتج مما سبق أنه كان صافي النفس كماء النبع ، لين الجانب كقطن الديباج ، محباً للآخرين كحب الصوفية الأتقياء ، فأبصرنا فيه نور المعرفة ، وفيض المحبة ، وإشراق الصفاء وبالجملة معالم الإنسان الكامل .

فهذا الأستاذ السيد الندوي الذي كنا نحبه ونحترمه ، بل وأكثر من ذلك كنا نجله ونعتز ، وينتابنا شعور بالجلال والجمال حينما نفكر في بعض جلساته العلمية ونتأمل في أفكارها .

وكان للسيد الندوي علاقات وصداقات واسعة طيبة مع كثير من الأشخاص والرجال الكبار المعنيين بالعلم والمعرفة من المسلمين وغيرهم من بلاد الشرق ، وكلها قائمة على أسس من التعاون العلمي والاجتماعي والتآلف الإنساني والمودة الكاملة والأخوة الإنسانية ، هذا من جهة . ومن جهة ثانية أن السيد الندوي كان مثل النجم الذي تدور حوله الكواكب ، والمعلم الذي يلتف حوله تلاميذه المخلصون ، والمدهش أن كل مريديه وتلاميذه وأصدقائه كانوا يشهدون أنهم مقربون له ، وأنهم جميعاً بلا استثناء يدينون بالولاء والمحبة لهذا الشيخ الجليل ، وأنهم كانوا ينتهزون كل مناسبة من المناسبات العلمية لإعلان هذا الحب والولاء والاعتراف بالجميل ، والهتاف به على رؤوس الأشهاد ، ولا شك أن كل من يقرأ شهادات هؤلاء التلاميذ والمحبين الذين أظهروها عبر التواصل الاجتماعي بعد وفاته سوف يأخذه العجب من هذه العاطفة الجياشة تجاه أستاذهم ، وهذا الشعور الغامر الذي ملأ قلوبهم حباً واحتراماً لأستاذهم .

ومن الواضح أنه كان محباً لعلمه مغرماً به ، يتفانى في أدائه ويبتكر في عناصره ، ويثير الحياة والنشاط في العمل الذي يسند إليه ، وقد أهداني في هذه الرحلة المباركة كتابه ” أخي العزيز ” الصادر قريباً ، وكتابه هذا بلغة محترمة راقية ، وأسلوب علمي ، إذ كان يتخير الألفاظ الرصينة التي تحمل مضموناً أخلاقياً ، وتحمل في جوفها علاقات اجتماعيةً ساميةً ، وتعمل على صون المحبة بين المجتمع ، وتقيم أواصر التواصل ، وجسر التفاهم بين التلميذ والأستاذ ، والمتعلم والمعلم ، والقارئ والمقروء والدارس والمدروس ، إذ لا تعارض بين منطوق النقل الصريح ، وصريح العقل السليم ، وتحافظ دوماً على مسافة الاحترام ، وعلائق المودة ، ومبادئ التفاهم التي يجب أن تكون قائمة بين التلميذ والأستاذ ، والمريد والشيخ ، وتوقظ الروح النائمة ، وتشحذ العزيمة الخامدة ، وتبعث الإقدام في النفوس ، وتتفق مع روح الشباب المتعلمين وطموحه في الحياة .

والدارس لكتاب الأستاذ المحترم يلمس أنه صاغ قضايا الطلاب العلمية بأسلوب عربي فصيح ، ولغة سليمة وتعبير بليغ يجذب النفس ، ويستهوي العقل ، ويحرضه على الوقوف أمامها والتفكير فيها ، ويرى الدرر الكامن في أعماقها ، والكتاب يستحق الإشادة والقراءة والدراسة من طلاب اللغة العربية في المدارس الإسلامية الهندية ، والتأملَ في أسلوبه العربي المبين ، ومفرداته اللغوية الفصيحة ، واغترافه من نبع العربية الصافي ، ولا داعي للجري وراء الألفاظ المنحوتة من اللغات الأجنبية ، والمفردات الغريبة التي هبطت علينا بسبب الترجمة الخاطئة ، والاستفادةَ منه حتى نعيد الهيبة إلى لغتنا العربية المظلومة من جهل أبنائها ، وكيد أعدائها ، ونعيدها للصدارة في شؤون حياتنا اليومية والدينية والفكرية .

مكث معنا أربعة أيام ، ثم سافر بالسيارة من عمان إلى دبي ، ورأى من المناظر الجميلة والبحار والأودية التي تكسوها الخضرة والجبال ، ما أسعد نفسه ، وأثلج صدره ، وملأه راحةً وطمأنينةً ، وقرر في نفسه زيارة أهم معالمها بطريقة منظمة ، بحيث يركز على المدن الهامة المحببة إلى نفسه ، وكذلك البحيرات الساحرة ، وكان من أهم المدن التي زارها في هذه الرحلة العلمية مسقط وصحار وعبري وغيرها من المدن الإسلامية المليئة بالعادات العربية الأصيلة والثقافات العربية القديمة ، والحقيقة أن الرحلة تمثل نقلة نوعية للباحث الطلعة ، وتزيد من خبراته ، وتساعد على تقدمه في المعرفة والفهم والإدراك ، ونافذة رحبة لرؤية العالم الخارجي بكل تموجاته ، وقد أشار كثير من المفكرين إلى أهمية الرحلة في إثراء البعد المعرفي ، وما زال الناس يعرفون للأسفار فائدتها في تكميل المعارف وتزكية الفكر ، فهذه اللقاءات الفكرية والرحلات الممتعة قد زودته بطاقة فكرية هائلة ، ومثلت رافداً ثرياً من روافد المعرفة الإنسانية ، ومصدراً غزيراً للفكر العربي الإسلامي نهل منه ما وسعته طاقته .

فإذا بنا في مساء يوم الأربعاء 16 يناير 2025م تلقينا ببالغ الحزن والآسى خبر وفاة السيد الندوي ، وما كنا نريد أن نعترف بهذا الواقع المرير الذي ذقنا منه طعم الحنظل في الحلوق ، وحد السكين الذي ينغرس في القلب النابض مباشرة ، فيزهق الروح ويترك الجسم ما بين الحياة والموت .

رحم الله أستاذنا السيد الندوي رحمةً واسعةً ، وغفر له زلاته ، وتجاوز عن سيئاته ، وأسكنه فسيح جناته ، لما قدمه للأمة الإسلامية من جهود مثمرة ، وأفكار نيرة ، وإنتاج علمي راق ، وما بذله للفكر الإسلامي والإنساني من خدمات تجل عن الوصف ، ومنافع عمت الشرق والغرب ، وأصبح اسمه دليلاً على الجد والمثابرة والعظمة والتحدي والمجد والخلود ، وملأ القلوب بالعلم والإيمان والعرفان ، لقد أمضى حياة خصبة يستفيد منها كل من يريد أن يبحث عن نموذج للطموح ، ويبغي الوصول إلى القمة العالية السامقة ، من العلم والفكر والأخلاق ، وتجارب حية تحدت الإرادة الإنسانية ، وكادت أن تعد ضمن الأفعال الخارقة التي تفوق الطاقة البشرية والملكات الإنسانية ، وهو الذي يستحق أن نقول عنه :

وما كان ” سيدي ” هلكه هلك واحد    ولكنه بنيان قوم تهدما

ولله الأمر من قبل ومن بعد ، إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير .

* مسقط ، عمان .