صنائع فاق صانعها ففاقت

كادت عليه تصدع الأكباد
فبراير 23, 2025
كادت عليه تصدع الأكباد
فبراير 23, 2025

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

صنائع فاق صانعها ففاقت

استأثرت رحمة الله تعالى بالأخ العزيز الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي في الرابع عشر من شهر رجب سنة 1446هـ ، المصادف 15/ يناير عام 2025م ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . كان هذا الحادث مبعث حزن كبير لنفسي ولندوة العلماء ، وللأسرة الحسنية التي كان من أجدادها الشيخ قطب الدين المدني الذي هاجر من المدينة المنورة إلى الهند ، فظل يقوم بالدعوة والإصلاح في أرجاء الهند ، وكان ينشر عقيدة التوحيد ، ويصحح الأفكار الزائغة ، والنظرات الباطلة ، وخلف وراءه أسرةً حافلةً اشتغلت طول حياتها بهذه المناهج التربوية والإصلاحية ، واستوطن بلدة     ” كرا ” في رائي بريلي ، وانتقل إلى رحمة الله تعالى عام 677هـ .

عرف التاريخ الإسلامي في الهند الشيخ السيد علم الله الرائي بريلوي الحسني في هذه الأسرة ، فقد عاش في الفترة ما بين 1033هـ – 1096هـ ، وكانت له صلة روحية بالشيخ الرباني السيد آدم البنوري ، إنه حضر في خدمته في عمره الخامس عشر ، وقد ربّاه تربيةً حسنةً ، وجعله نائباً في أعماله ونشاطاته التربوية ، وقد نشأ الشيخ علم الله على اتباع السنة النبوية وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان يشتاق إلى الهجرة إلى المدينة المنورة ، حيث هاجر منها أحد أجداده الشيخ قطب الدين المدني ، وقد استشار في هذا الأمر من شيخه السيد آدم البنوري ، فإنه وافق على ذلك ، لكنه قال : إذا لقيك أحد من العلماء ، وأشار عليك بالإقامة في هذه الديار الهندية ، فامتثِل قوله ومشورته ، وقد ترك الشيخ علم الله وطنه نصير آباد ، حتى وصل إلى مدينة رائي بريلي ، وأقام عدة أيام فيها ، وقد جرى لقاؤه خلال هذه الإقامة مع أحد الربانيين الشيخ عبد الشكور رحمه الله ، وأبدى أمامه أمنيته لهجرته إلى المدينة المنورة ، لكنه أشار على أن يمكث قريباً منه ، ويشتغل بالدعوة والإصلاح إلى الله تعالى ، وتوافرت له أراض واسعة ، حيث بنى فيها مسجداً صغيراً ، وأسكنه زوجته وأولاده هناك ، فهذا هو الموضع الذي عُرف فيما بعد بزاوية الشيخ علم الله الحسني ، وقد تحققت أمنية شيخه السيد آدم البنوري رحمه الله تعالى بالإقامة في الهند ، ولا تزال هذه الزاوية منذ أربعة قرون مركزاً للدعوة إلى الله والإصلاح والتربية والإنابة والاشتغال بالذكر والدعاء .

كان الشيخ السيد علم الله الحسني ولياً من أولياء الله ، بعيداً عن زخارف الدنيا وبهجتها ، ومعرضاً عنها ، فلم تغره الأموال الطائلة ، ولم تخدعه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وقد كتب صديقنا الأعز الأستاذ السيد محمد الحسني مؤلفاً قيماً حول سيرته وأحوال أسرته باسم : ” سيرة الشيخ السيد علم الله الحسني ” ، إنه ذكر في كتابه قصتين باهرتين ، نذكرهما على سبيل الاختصار :

(1) كان الملك المغولي أورنغ زيب عالمغير معترفاً بشخصية الشيخ السيد علم الله ، ومعجباً به ، ولا يزال يذكره في مجالسه ، ويثني على إنجازاته وأعماله نحو إصلاح الناس وتربيتهم ، فمرةً أراد أن يرسل إليه هدايا للفلوس والنقود ، فأرسل أحد وزرائه إلى الشيخ علم الله ، وهو يحمل هذه الهدايا ، فوصل إلى مقره ، وقدمها إليه ، لكن الشيخ اعتذر إليه ، وامتنع عن قبول هذه الهدايا ، وقال : نحن فقراء إلى الله ، يكفي لنا الكفاف من الرزق ، وكان الوزير شاطراً ، فإنه ظن أن الشيخ علم الله قد قدم العذر عن قبول هذه الهدايا ، ولعل زوجته تقبلها ، وتدخرها في بيتها إنفاقاً على أولادها ، وأقاربها ، فلما أرسل الوزير الخبر إلى زوجته قالت من دون تردد ولا توقف : إن الله تعالى أوجب نفقتي على الشيخ علم الله الحسني ، ولم يوجب على الملك أورنغ زيب عالمغير ، فاعتذرت كذلك عن قبول هذه التحف النادرة .

(2) كان للشيخ علم الله الحسني أربعة أبناء ، وبنتان : فأما الأبناء فإنهم : السيد آية الله ، والسيد أبو حنيفة ، والسيد محمد هدى ، والسيد محمد جي ، وكان الشيخ آية الله الحسني كما يتحدث عنه العلامة عبد الحي الحسني : ” أحد الرجال المعروفين بالفضل والصلاح ، حفظ القرآن الكريم ، وتفقه على والده ، وكان رجلاً فاضلاً ، شهماً ، مقداماً ، صالحاً ذا قناعة ، وعفاف وسخاء ، أما السيد أبو حنيفة فإنه توفي في شرخ شبابه ، وعنفوان حياته ، ولما توفي هذا الفتى النابغ ، لم يتظاهر والده الشيخ علم الله بالبكاء ، والحزن ، ونهى زوجته عن رفع البكاء على فراقها ، فلم يسمع بعد وفاته صوت للبكاء والحداد ، بل صبر صبراً جميلاً ، وقد أعلن عن وفاته قائلاً : أيها الناس ! قد توفي ابني السيد أبو حنيفة ، وأحمد الله على أنه مات على الإيمان ، والإسلام ، فإنه فرح وسُر بمفارقته هذه الدنيا على الإيمان والإسلام ، ذلك لأن كل إنسان يولد في هذه الدنيا يفارقها إما عاجلاً أو آجلاً ، فهذا يكون من فضل الله تعالى عليه أن يفارق الدنيا وهو يؤمن بالله عز وجل ، وقد تقبل الله أعمال الشيخ علم الله الحسني قبولاً حسناً ، فوضع له التقدير والاحترام بين الناس ، فكان الناس يزورونه ويستفيدون منه ، وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ علم الله الحسني ، وقد بلغ من عمره 63/ عاماً ، ولما توفي رأى الملك المغولي أورنغ زيب عالمغير في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ، وكان أورنغ زيب بعيداً عن وطن الشيخ علم الله كل البعد ، ولم يصل إليه نعيه ، إلا بعد أيام ، وبعد أيام أخبره أحد العلماء بتأويل هذه الرؤيا أن الشيخ علم الله قد توفي في تلك الليلة ، فكان هذا تأويل رؤياه .

وكان في أحفاد السيد محمد هدى بن الشيخ علم الله الحسني إمام الهجرة والجهاد الشيخ السيد أحمد بن عرفان الشهيد رحمه الله ، الذي هبت بأعماله التجديدية ريح الإيمان ، وتجددت ذكريات القرون الأولى ، ورأى الناس روائع من الإيمان واليقين والتضحية والفداء في سبيل الله عز وجل ، فإنه أحيا فريضة الحج من جديد ، التي كانت مجهورةً نظراً إلى الأخطار المحدقة برحلتها ، وقد أفتى بعض العلماء بعدم فرضيتها بالنسبة إليها ، لكن الإمام الشهيد قاد هذه المسيرة الإيمانية والدينية إلى الأرض المقدسة ، وقد رافقه عدد لا بأس به من الناس ، واستغرقت هذه الرحلة سنتين ، فتاب خلالها آلاف مؤلفة من الناس على يديه ، كما أنه أنقذ المجتمع الهندي من التقاليد المجحفة والطقوس الجائرة التي كان يتأوه تحت أعبائها وأثقالها الناس خاصتهم وعامتهم ، وقد نادى بالجهاد في سبيل الله ، فاجتمع عنه عدد وجيه من أتباعه والمعجبين به ، حتى وصل مع هذا العدد إلى بشاور ، وجاهد في سبيل الله حتى استشهد مع زملائه المخلصين في ساحة بالاكوت عام 1830م .

وقد ورث شيخنا الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي هذه المزايا والخصائص البارزة عن آبائه وأجداده ، فكان سراً لهم ، وصورةً صادقةً لمآثرهم ، وقد قام بإنجازات وأعمال سجلها التاريخ الإنساني بماء من الذهب ، وقد جمع الله فيه من العلوم والفنون والآداب ما يندر وجوده في أي شخصية أخرى ، فحق لنا أن ننشد بهذه المناسبة قول الفرزدق الذي خاطب به الإمام علي زين العابدين بن الحسين رضي الله عنه :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأتـه  والـــبــيت يـعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كـــلـــهـــم  هــذا النقي التقي الطاهر العلم

يُــنمـى إلى ذروة العز التي قصرت  عن نيلها عرب الاسلام والعجم

كان الأخ العزيز الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي مطبوعاً على هذه السمات الطيبة للأسرة الحسنية ، وقد رباه الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ووالده الأستاذ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي ، فكان يجمع بين خصائصهما من العلم  والحكمة ، والتأمل والتفكر في أوضاع المسلمين وخصائص الأسرة الحسنية ، وقد نهج منهج هذين العلمين مدرساً ، وصحافياً ، وداعياً ومصلحاً ، وكاتباً قديراً ، وقد وفقه الله تعالى في آخر حياته بتأليف كتابين مهمين : أخي العزيز ، ودعوة للتفكر والتأمل ، وقد طلب مني أن أقدم لهذين الكتابين ، فقدمت لكتابه : أخي العزيز ، وإليكم قطعة منها :

” فقد كنت أقرأ مقالات تربويةً وكلمات توجيهيةً في صحيفة الرائد الصادرة من ندوة العلماء ، وهي كلمات للأستاذ السيد جعفر مسعود الندوي ، يتزين بها كل عدد من صحيفة الرائد ، بعناوين ذات مغزى علمي ومعنوي ، وتشير إلى افتتاح موضوع مهم ، مما يحتاج إليه القراء وأصحاب القلم والعلم في الشئون الحاضرة ، وتتميز هذه المقالات بميزتين مهمتين : القصد والاتزان ، وتحقيق مهمة الدعوة إلى الله في العالم البشري ، فكان هذا الكتاب مبعثاً نحو حياة الإيمان والتقوى ، وكان حافزاً على بناء الحياة نموذجاً عالياً للإيمان الخالص ، وطريقاً واضحاً في سبيل الدعوة إلى الله ، مع ما يحمل من قيمة لغوية وأدبية وتعبير مشرق ” .

رحم الله تعالى أخانا السيد جعفر مسعود الحسني الندوي وأغدق عليه شآبيب رحمته ، وأكرم نزله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .

سعيد الأعظمي الندوي

18/7/1446هـ

19/1/2025م