رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

إعلان الاستقلال وانعكاساته على سلامة العالم
نوفمبر 22, 2024
إعلان الاستقلال وانعكاساته على سلامة العالم
نوفمبر 22, 2024

صور وأوضاع :

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

محمد فرمان الندوي

اخضرَّت أرض فلسطين بدماء الشهداء ، والمجاهدين في سبيل الله عزوجل من جديد ، وقد سُقيت ، ولا تزال تُسقى بالدماء المهراقة منذ أكثر من خمس وسبعين سنةً ، وذلك لحرمة المسجد الأقصى ، وصيانته وإنقاذه من الأيدي الآثمة ، والسيطرة النجسة ، ونحن على يقين بأن الله سيطهر هذه الأرض المقدسة من أوضار الظلم والاعتداء ، ونجاسات الكبر والغطرسة بقوته القاهرة ، وتضحيات الطائفة المنصورة وأبطال الإسلام والمسلمين الذين لا يضرهم من خذلهم .

إن قضية فلسطين أصبحت قضيةً شائكةً منذ أقيمت دولة إسرائيل على أرض فلسطين ، ونالت القضية اهتمام وعناية العالمين العربي والإسلامي حينما جثم العدو على هذه المنطقة ، وقد وقعت خلال هذه الفترة ثلاث معارك حاسمة بين العرب وإسرائيل ، مرةً نكبة 1948م ، وأخرى عام 1967م ، وثالثة عام 1973م ، لكن العدو الغاشم مازال ولم يزل يغصب الأراضي الفلسطينية بدعم من القوى المادية الكبرى ، وقد ضحى في هذه المعارك المجاهدون المغاوير بنفوسهم ، ونذروا حياتهم ابتغاءً لوجه الله تعالى ، وقبل هذه المعارك الثلاث ناضل لتحرير المسجد الأقصى المجاهد الكبير الشيخ عز الدين القسام الذي كان ينتمي إلى اللاذقية ، وقد نال شهادتي العالية والعليا من جامعة الأزهر بالقاهرة ، وكان يلقب بأمير المجاهدين وداعية الجهاد في فلسطين ، وقد نفخ روح الجهاد في العالم الإسلامي ، وقام بإعداد أجيال متفانية لأجل المسجد الأقصى ، فسميت كتائب عز الدين القسام باسمه ، نظراً إلى جهوده الجسام ، وظل شعارها في معركة فلسطين : إنه جهاد : نصر أو استشهاد .

شيخ الانتفاضة أحمد يسين :

رغم التضحيات الجبارة ، وبذل الأرواح والنفائس في سبيل المسجد الأقصى ازداد الأمر تعقداً ، وصارت القضية ملتويةً ، ودخلت في منعطف حاسم ، فقامت شخصية أسطورية ، وهي شخصية شيخ الانتفاضة ، وأبي المقاومة الشيخ أحمد يسين إسماعيل رحمه الله ( 1936م – 2004م ) ، وكان قلبه يعتصر حزناً وألماً على فوات المسجد الأقصى ، فشارك في جهاد فلسطين وهو ابن عشرين سنةً ، ومازال يُلهب مشاعر المسلمين بلسانه وقلمه وكيانه ، وكان من خريجي جامعة الأزهر ، والمعجبين بفكرة الإمام حسن البنا ، فلم يدخر وسعاً في توسعة نطاق حركته على أرض فلسطين ، وكان قعيداً أشل ، جالساً على الكرسي ، لا يستطيع أن يتحرك إلا بالعربية ، لكنه كان صابراً ومرابطاً طول حياته في سبيل الله ، وأدخل في السجن في الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي لسنتين ، ولما أفرج عن السجن بدأ يسعى لإفشال جهود الاحتلال ، وكان يعتقد أن الاحتلال لا يفهم إلا منطق القوة والأسلحة ، ولا يتكلم إلا بلسان النار ، فلا بد من إعداد القوة ، وجمع الوسائل المادية مع الثقة بالله ، لأنه كان يعتقد أن الشيئ الذي أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة ، فلم يرض بالمفاوضات المزعومة ، فأنشأ حركة حماس عام 1987م ، فهذه الحركة منذ أول يومها مستمرة بخيلها ورجلها ، ومعداتها ووسائلها لإنقاذ أرض فلسطين من سيطرة الاحتلال ، واستشهد الشيخ أحمد يسين في غارة جوية – وهو يرجع جالساً على كرسيه المتحرك من المسجد بعد صلاة الفجر إلى منزله – رحمه الله رحمةً واسعةً ، وأغدق عليه شآبيب رضوانه .

بعد شهادة الشيخ أحمد يسين لم تضعف طموحات حماس ، ولم تنطفئ شعلة مقاومتها ، بل الواقع أن نارها قد ازدادت اشتعالاً وحرقةً ، ذلك لأن الشيخ أحمد يسين كان مربي الأجيال ، وصانع الرجال ، ترك خلفه عدداً كبيراً من الأبطال الشجعان الذين يتمنون الشهادة في سبيل المسجد الأقصى ، وكانوا لا يخافون الموت ، بل يستقبلونه بثغور باسمة ووجوه ضاحكة مستبشرة ، فالموت في سبيل الله عندهم أرخص متاع ، لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، فإن جميع الفصائل الفلسطينية من كتائب القسام وسرايا القدس ، والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى وكتاب الشهيد أبي علي مصطفى ومناضلي الجبهة الشعبية كانت غيضاً من حسناته ، فهذه هي الكتائب الإيمانية التي جهزها الشيخ أحمد يسين ونفخ فيها روح الجهاد الإسلامي ، فإنها مازالت ولا تزال تلعب دوراً قيادياً في استعادة الأراضي المقدسة ، فإن شهادة يحيى عياش ، وفتحي الشقاقي وأبي علي مصطفى وصلاح شحادة وإسماعيل أبي شنب لم توقف المقاومة ، ولم تُسكِّن الجهاد ، بل حمي الوطيس أكثر مما كان ، وكان من أبرز قادة حماس : عبد الفتاح دخان من المنطقة الوسطى ، ومحمد شمعة من مخيم الشاطئ ، وإبراهيم اليازوري من غزة ، وعيسى النشار من رفح ، وموسى مرزوق ، وخالد مشعل وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية ، ويحيى السنوار ومحمد الضيف وغيرهم .

ثلاثة من قادة حماس :

(1) وقد عين الشيخ عبد العزيز الرنتيسي خلفاً للشيخ أحمد يسين ، ورئيساً لحركة حماس ، وهو من مؤسسيها ، وكان من مواليد 1947م في الضفة الغربية ، وكان خطيباً مفوهاً ، وشاعراً مفلقاً ، وأديباً حاذقاً ، وقد اشتغل بالتدريس في الجامعة الإسلامية بغزة محاضراً وأستاذاً ، لكنه لم يتغافل عن مهمته الجهادية ، فأدخل في السجن عام 1983م ، لكنه خرج منه على عجل ، وظل نشيطاً في الحركة ، حتى انتخب خليفةً للشيخ أحمد يسين ، وما إن مرَّ على تعيينه رئيساً شهر كامل ، حتى اغتالته قوات الاحتلال بقصف جوي أدى إلى شهادته ، ولبى نداء ربه في 17/ أبريل 2004م .

(2) إن الأستاذ خالد مشعل يعد من مؤسسي حركة حماس ، ولد عام 1956م في الضفة الغربية ، هاجر مع أسرته إلى الكويت ، فدرس في جامعة الكويت ، ونال شهادتي البكالوريس والفيزياء ، وانضم إلى حماس عام 1971م ، وظل يقود الحركة بحكمة وبصيرة ، وشغل منصب رئاسة حماس إلى مدة ، في فترتين ، وقد استهدفه الموساد للاغتيال في الأردن ، لكن الله عز وجل نجَّاه ، ووقاه من كل سوء ، وقد زار غزة عام 2012م ، ويعيش الآن في الدوحة ، أبقاه الله ذخراً للإسلام والمسلمين .

(3) تقلد رئاسة حماس عام 2017م الدكتور الشهيد إسماعيل هنية ، وكان شخصيةً نابغةً ببطولاتها النادرة ، وتضحياتها الجبارة ، كان من مواليد 1962م ، في مدينة غزة ، حفظ القرآن الكريم وأتقنه ، وواصل دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة ، وحصل منها على شهادتي الليسانس والماجستير والدكتوراه ، بدأ حياته الجهادية من شبابه ، واعتقل وسجن ، لكن الله تعالى فك أسره ، وأصبح رئيساً لحركة حماس ، ولعب دوراً ريادياً في تنشيط حركة حماس وإحداث طوفان الأقصى واستمراريته إلى سنة كاملة ، حتى استشهد في أحد فنادق إيران في 31/ يوليو عام 2024م ، وكان من جمله السائرة أنه قال يقول : لن نعترف بإسرائيل ، لن نعترف بإسرائيل ، وكان يقول : نحن قوم نعشق الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة ، ونعشق الشهادة على ما مات عليه القادة .

عاش سعيداً ومات شهيداً :

إن بطلنا المغوار يحيى السنوار عاش سعيداً ومات شهيداً ، وقد لبى نداء الله عز وجل كما كان يتمنى الشهادة في سبيل الله ، وكان في معترك الحياة وأتون الجهاد ، يحارب ويناضل ويقاوم الاحتلال حتى الرمق الأخير من حياته مقبلاً غير مدبر ، وكانت يده مجروحةً ، ورجله مبتورةً ، لكنه لم ييأس من رحمة الله تعالى ، بل رمى بعصاه كاميرا الدرون رغم جروحه وقروحه ، فأصبح عمله هذا مضرب المثل ، وقد جرى على لسان الناس : رميته بعصا السنوار ، وأدخلت هذه الجملة السائرة الذكر في الأمثال العربية المعاصرة ، وقد سماه العالم الإسلامي قائداً عبقرياً ومجاهداً أسطورياً ، وأصبح يحيى السنوار بعد شهادته في السابع عشر من شهر أكتوبر 2024م رمزاً للبطولة والإباء والجهاد والكفاح ، وقد جمع في شخصيته معاني الفتوة والشجاعة والبساالة ، إنه كما قال رئيس حماس الدكتور خليل الحية : ” إنه مات موت الشرفاء الكرام ، موت الأبطال الأحرار ، موتا يحيى آلاف القلوب الميتة ، رخص بنفسه ودمه في سبيل أمته ، لم يبال بأسلحة العدو المدمرة ، وصواريخه الفتاكة وقنابله المهلكة في سبيل الدفاع عن الدين والعزة والعرض والوطن والأمة ، لقد استخف بدمه لحقن دماء شعبه ، واستهان بحياته ، ليحيى أمته حراً كريماً ، إنه مات ليحيى كما كان قبل موته : يحيى ليموت ، نعم هو القائد الذي مات ليحيى في قلوب الملايين من أمته ” .

قضى يحيى السنوار عشرين سنةً من حياته في السجن ، بدءاً من 1988م إلى 2011م ، وكان من مواليد 1962م ، وقد وفقه الله لإعداد كتب علمية وأدبية ، منها الشوك والقرنفل ، وهو قصة جهد وجهاد في سبيل الله ، وكان يقول : ” إن أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالوني ، هي أن أقضي إلى الله سبحانه وتعالى شهيداً ، أنا حقيقة أفضل أن أستشهد بـ ” إيف 16 ، أو بالصواريخ ، من أن أموت بكورونا أو أموت جلطةً أو سكتةً أو بحادث طريق ” ، وقد حقق أمنيته هذه ، وكتب له الشهادة الحقيقية ، وحشره مع الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .

هذه نبذه من سيرة رؤساء الشهداء في سبيل تحرير فلسطين ، وهناك قائمة طويلة للشهداء في طوفان الأقصى من الرجال والشباب والنساء والصبيان والأرامل والثكالى والمحرومين ، فهؤلاء الشهداء كلهم يعيشون في جنات الخلد عند مليك مقتدر بإذن الله ، ولا شك أن ذكر بطولاتهم وتضحياتهم ينفخ في الأجيال المعاصرة روح الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى ، وهذه الغاية التي يسعى لها المؤمن الحقيقي ، قال الله تعالى : ( مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) [ الأحزاب : 23 ] .