مكتبة شبلي النعماني العامة لندوة العلماء تاريخها ، وذخايرها العلمية ( الحلقة الأولى )
ديسمبر 23, 2024أثر القرآن الكريم في تطوير النقد العربي القديم
ديسمبر 23, 2024دراسات وأبحاث :
موقف الزمخشري في البلاغة القرآنية :
دراسة تحليلية
إعداد : الدكتور محمد نعمان حسن المدني *
إن الهدف الأسمى من دراسة بلاغة القرآن الكريم إثبات المصدر الرباني للقرآن الكريم على أنه أشرف الكتب السماوية ، وقد أنزله الله تعالى على نبيه محمد – عليه الصلاة والسلام – ليكون خاتمة كتب الديانات السماوية ومعجزة الإسلام .
كذلك لا شك أن علم البيان في القرآن الكريم من أدقّ العلوم التي تكشف عن أسرار معاني الآيات الكريمة ما لا يحصى عدداً ولا ينقضي عجباً . وقد أجمع الباحثون على القول بالإعجاز البياني وأن القرآن معجز ببلاغته وأسلوبه وبيانه وتعبيره ، وأنه بهذا يقدّم شهادة عظيمة على مسألة إعجاز القرآن ، وعلى أنه كلام الله عز وجل .
ولذا اهتم المفسرون باستنباط علم البيان القرآني في تفسيرهم بكل اهتمام بالغ . فبهذا الصدد نحاول أن نركز موقف الزمخشري في علم البيان القرآني في تفسيره : دراسة تحليلية حتى تتضح أقوال العلماء عن علم البيان والمعاني في تفسيره الكشاف : ” إنه قد ملأ الدنيا وشغل الناس منذ ألّفه مؤلّفه وحتى يومنا هذا ” .
(أ) موقفه بعلم البيان القرآني :
التعريف بــ ” علم البيان ” بمعناه العام :
ذكر الشيخ عودة خليل أبو عودة في كتابه [1] : علم البيان – بمعناه العام – هو ” التعبير عما في النفس ، أو عما لدى المتكلم أو الكاتب من أفكار ومشاعر بدرجة عالية من الإفهام والتأثير ” . وهذا هو المراد بالبيان في قول النبي صلى الله عليه وسلّم : ( إن من البيان لسحراً ) .
التعريف بــ “علم البيان” بمعناه الخاص :
قال الشيخ البدوي في كتابه [2] : ” علم البيان هو علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة ، في وضوح الدلالة على المعنى المراد بأن تكون دلالةً بعضها أجلى من بعض ” .
ذكر الدكتور مصطفى الجويني – رحمه الله – بعض الموضوعات لعلم البيان – كما ذكر لعلم المعاني – التي تكلّم عنها الزمخشري في تفسيره دليلاً على نظم القرآن وبياناً على أسرار الجمال القرآنية ؛ سألخّص هذه المواضيع فيما يأتي :
المجاز :
قول الله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) [ البقرة : 16 ] .
قال الزمخشري – رحمه الله – : ” فإن قلت : كيف أسند الخسران إلى التجارة ، وهو لأصحابها ؟ قلت : هو من الإسناد المجازى ، وهو أن يسند الفعل إلى شيئ يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ، كما تلبست التجارة بالمشترين . فإن قلت : هل يصح : ربح عبدك وخسرت جاريتك ، على الإسناد المجازى ؟ قلت : نعم إذا دلت الحال . وكذلك الشرط في صحة : رأيت أسداً ، وأنت تريد المقدام إن لم تقم حال دالة لم يصح . فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح والتجارة ؟ كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة . قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات ، إذا تلاحقن لم تر كلاماً أحسن منه ديباجة وأكثر ماءً ورونقاً ، وهو المجاز المرشح . وذلك نحو قول العرب في البليد : كأن أذنى قلبه خطلا ، وإن جعلوه كالحمار ، ثم رشحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة ، فادعوا لقلبه أذنين ، وادعوا لهما الخطل ، ليمثلوا البلادة تمثيلاً يلحقها ببلادة الحمار مشاهدةً معاينةً ” [3] .
الكناية والتعريض :
قول الله تعالى : ( وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ) [ البقرة : 235 ] .
قال الزمخشري رحمه الله مفرقاً بين الكناية والتعريض : ” فإن قلت : أي فرق بين الكناية والتعريض ؟ قلت : الكناية أن تذكر الشيئ بغير لفظه الموضوع له ، كقولك : طويل النجاد والحمائل لطول القامة وكثير الرماد للمضياف . والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيئ لم تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم ” [4] .
قول الله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) [ البقرة : 28 ] .
قال الزمخشري رحمه الله معرضاً فلسفياً لأسلوب الكناية في الآية : ” فما تقول في ” كيف ” حيث كان إنكاراً للحال التي يقع عليها كفرهم ؟ قلت : حال الشيئ تابعة لذاته ، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكاراً لذات الكفر ، وثباتها على طريق الكناية ، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ . وتحريره : أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها . وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده . ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني ” [5] .
قول الله تعالى : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ْ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ْ . . . ) [ ص : 21 – 23 ] .
قال الزمخشري رحمه الله مبيّناً لأسلوب التعريض في الآي : ” فإن قلت : لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح ؟ قلت : لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به ، كان أوقع في نفسه ، أشد تمكناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، وأجلب لاحتشامه وحيائه ، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحاً ، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة ” [6] .
التمثيل والتخييل :
قول الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) [ الأعراف : 172 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” وقوله ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قالُوا : بَلى شَهِدْنا ) من باب التمثيل والتخييل “1” ! ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم ، وجعلها مميزةً بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم ؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا ، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك . وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام ، وفي كلام العرب . ونظيره قوله تعالى : ( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ،( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً . . . ) . . ” [7] .
التعبيرات النفسية :
قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) [ الأنعام : 114 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” قوله ( فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) من باب التهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أو فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به ” [8] .
قوله تعالى : ( وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) [ النور : 2 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” وقوله ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه ” [9] .
البيان القرآني وأسلوب الشعر :
قول الله تعالى : ( وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) [ الأحزاب : 67 ] .
يقول الزمخشري رحمه الله مبيّناً البيان القرآني على أسلوب الشعر في الفاصلة : ” يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت : جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف ” [10] .
هذه بعض النماذج الذي ذكرها الزمخشري في هذا العلم ؛ وهذا لا يعني أنه لم يذكر ولم يهتمّ المواضيع غيرها في هذا العلم .
(ب) موقفه بعلم البديع القرآني :
التعريف بــ ” علم البديع ” :
عرّف الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن علم البديع في كتابه ” التلخيص ” بأنه : ” علم يُعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة ” .
ويعرفه ابن خلدون بأنه : ” هو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق : إما بسجع يفصله ، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه ، أو ترصيع يقطع أوزانه ، أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه ، لاشتراك اللفظ بينهما ، أو طباق بالتقابل بين الأضداد وأمثال ذلك ” .
ذكر الدكتور مصطفى الجويني بعض الموضوعات لعلم البديع – كما ذكر لعلم المعاني والبيان – التي تكلّم عنها الزمخشري في تفسيره دليلاً على نظم القرآن وبياناً على أسرار الجمال القرآنية ؛ سألخّص هذه المواضيع بقدر الاستطاعة – بتوفيق الله – فيما يأتي :
الجناس :
قوله تعالى : ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) [ النمل : 22 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” وقوله ( سَبَإٍ بِنَبَإٍ ) من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق “3” باللفظ ، بشرط أن يجيئ مطبوعاً . أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء هاهنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنىً . ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبأ بخبر ، لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ ، من الزيادة التي يطابقها وصف الحال ” [11] .
المشاكلة :
قوله تعالى : ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ) [ البقرة : 138 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” والمعنى : تطهير اللَّه ، لأن الإيمان يطهر النفوس . والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم ، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : قولوا آمنا باللَّه ، وصبغنا اللَّه بالإيمان صبغةً لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا . أو يقول المسلمون . صبغنا اللَّه بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم . وإنما جيئ بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة ، كما تقول لمن يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلاً يصطنع الكرم ” [12] .
أسلوب اللف والطباق :
قوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) [ الروم : 23 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” هذا من باب اللفّ وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين . لأنهما زمانان . والزمان والواقع فيه كشيئ واحد ، مع إعانة اللفّ على الاتحاد ” [13] .
قوله تعالى : ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) [ هود : 24 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم ، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع وهو من اللف والطباق ” [14] .
بلاغة القرآن :
يرى الزمخشري أن في القرآن بليغاً وأبلغ . ونرى تطبيقه العملي لرأيه هذا فيما يأتي :
قوله تعالى : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) [ يونس : 107 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” وهو أبلغ من قوله : ( إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ) ” [15] .
قوله تعالى : ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) [ غافر : 31 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” وهو أبلغ من قوله تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) حيث جعل المنفي إرادة الظلم ، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيداً ، كان عن الظلم أبعد ” [16] .
هذه بعض النماذج الذي ذكرها الزمخشري في هذا العلم ؛ وهذا لا يعني أنه لم يذكر ، ولم يهتمّ المواضيع غيرها في هذا العلم .
التنبيه : هذه المواضيع في علم النظم التي ذكرها الزمخشري ليست مقتصرةً ومحدّدةً على هذه فقط ؛ بل من باب الاختصار ومن باب ذكر بعض النماذج في هذا العلم ، وكذلك من باب بيان اهتمام الزمخشري في هذا العلم .
الدكتور محمد حسنين أبو موسى – حفظه الله – ذكر في كتابه غير هذه المواضيع في هذا العلم ، واستطرد الكلام في ذلك ؛ لكن لم أذكر هذه المواضيع كلها من باب الاختصار ومن باب خشية طول البحث الذي هو غير مطلوب .
انبهار الزمخشري بالإعجاز :
قول الله تعالى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ْ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ْ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ النمل : 88 – 91 ] .
قال الزمخشري رحمه الله : ” فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ، ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق ” [17] .
الرد على القول بالصرفة :
الإمام الزمخشري رحمه الله ردّ على القول بالصرفة على الرغم من أنه معتزليّ المعتقد ؛ لأنّ بعض الأئمة المعتزلية لم يوافقوا في هذه المسألة ، بل ذهبوا إلى القول بالصرفة . فردّ الزمخشري على هذا . والدليل على ذلك كما يأتي :
قول الله تعالى : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) [ الإسراء : 88 ] .
قال الزمخشري رحمه الله في تفسير هذه الآية : ” ( لا يَأْتُونَ ) جواب قسم محذوف ، ولولا اللام الموطئة ، لجاز أن يكون جواباً للشرط ، كقوله : يقول لا غائب مالي ولا حرم ؛ لأن الشرط وقع ماضياً ، أى : لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه ، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله ، والعجب من النوابت ، ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز ، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة ، فيقال : الله قادر على خلق الأجسام ، والعباد عاجزون عنه . وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه كثاني القديم ، فلا يقال للفاعل : قد عجز عنه ، ولا هو معجز . ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز ، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال ، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال ، فإن رأس ما لهم المكابرة وقلب الحقائق ” [18] .
من مهمات الإعجاز ” التحدي ” :
يرى الزمخشري رحمه الله أن التحدي هو شرط أساس للإعجاز القرآني .
قول الله تعالى : ( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) [ مريم : 73 ] .
قال الزمخشري رحمه الله في تفسير كلمة ” بينات ” : ” بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ ، ملخصات المعاني ، مبينات المقاصد : إما محكمات أو متشابهات ، قد تبعها البيان بالمحكمات . أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً . أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها . أو حججاً وبراهين ” [19] .
الخاتمة :
أبرز نتائج هذه المقالة كما يأتي :
إنّ تفسير الكشاف للزمخشري هو أول تفسير – كما رأينا ذلك في هذا البحث – يكشف عن سر بلاغة القرآن ووجوه إعجازه ودقة معانيه في ألفاظه مما كان له الأثر الكبير في عجز العرب عن معارضته والإتيان بمثله .
إن الكشاف للزمخشري – في الحقيقة – تفسير جليل رائد ، وهو الممثل الرسمي الواضح لتفاسير فرقة المعتزلة ، والذي نصر فيه المؤلف مذهبَ الاعتزال وخالف فيه مذهب أهل السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد التي وقع الخلاف فيها . ولذلك فإننا نرى كثيراً يمدحون هذا الكتاب وأيضاً مثلهم يقدحون ويغضون ويعترضون على هذا الكتاب .
إن التنوع في القراءات القرآنية وتعددها لم يكن لمجرد تيسير وتسهيل النطق بها ، وإنما للبلاغة نصيبها من ذلك التعدد ، وهذا من أبواب الإعجاز .
أعمل العلامة الزمخشري في تفسيره جانب البلاغة في التفسير ، مما أدى إلى إثراء المعنى وتوسيعه ، وأعطى قوة في فهم القرآن .
ذكر الإمام الزمخشري أغلب جوانب البلاغة في توجيه القراءات في تفسيره ” الكشاف ” .
أبرز الإمام الزمخشري جوانب البلاغة في القراءات بنوعيتها المتواترة ، والشاذة ، وشكلت القراءات الشاذة الجزء الأكبر من حجم القراءات في تفسيره ، لأنها أكثر ما أعمل فيه النحاة أقلامهم .
كما أكد لنا الزمخشري في توجيه معنى الآيات صحة الافتراض أن كل قراءة بمثابة آية برأسها ، ولو جعلت كل قراءة آية على حدة لأفضى إلى التطويل ، فدل ذلك أن تنوع القراءات ضرب من ضروب البلاغة يجمع بين جمال الإيجاز وكمال الإعجاز .
* أستاذ مساعد ، قسم علوم القرآن والدراسات الإسلامية ، الجامعة الإسلامية العالمية شيتاغونغ ، البريد الإلكتروني :numanhasan2000@gmail.com
[1] ” البيان القرآني : مفهومه وأسلوبه لــ عودة خليل أبو عودة ، ص 50 ” .
[2] ” معجم البلاغة العربية ” .
[3] تفسير الزمخشري (1/70) .
[4] المرجع السابق (1/282) .
[5] المرجع السابق (1/121) .
[6] المرجع السابق (4/81) .
[7] المرجع السابق (2/176 (.
[8] المرجع السابق (2/60) .
[9] المرجع السابق (3/209) .
[10] المرجع السابق (3/562) .
[11] المرجع السابق (3/360) .
[12] المرجع السابق (1/196) .
[13] المرجع السابق (3/473) .
[14] المرجع السابق (2/387) .
[15] المرجع السابق (2/375) .
[16] المرجع السابق (4/165) .
[17] المرجع السابق (3/387) .
[18] المرجع السابق (2/691) .
[19] المرجع السابق (3/36) .