صانع التاريخ ، وليس من صنع التاريخ

 أيُنقص الدين و أنا حي ؟
ديسمبر 23, 2024
 أيُنقص الدين و أنا حي ؟
ديسمبر 23, 2024

التوجيه الإسلامي :

صانع التاريخ ، وليس من صنع التاريخ

فقيد الدعوة الإسلامية الشيخ السيد محمد الحسني رحمه الله

يقولون : إن البعث العربي هو البعث الإسلامي ، ولا تعارض بينهما ، وأن البعث العربي هو قبول أقدار وقيم ، وتجارب وحوادث مرت بها الأمة العربية من بينها – الإسلام – خلال رحلتها الفكرية والاجتماعية عبر القرون والأجيال ، ويقولون : إن الإسلام أقوى تجربة عرفها الشعب العربي ، وأعظم رصيد حضاري في تاريخه ، وأكبر عامل في تكوينه بلا شك ، ولكنه على كل حال تجربة . . . اجتماعية تاريخية هامة لا تعني إبطال غيرها من القيم والأقدار والفضائل ، وهدم ما بناه الأوائل ، بل إن الإسلام هو في الواقع امتداد طبعي للعوامل الاجتماعية في الأمة العربية ، وإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإنتاج الطبعي والثمرة اليافعة للحضارة العربية والتجربة العربية و ” العمل العربي التاريخي ” ، ولذلك فإن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مفخرة كل عربي ، ونموذج رائع لحيوية الشعب العربي ، واكتماله ونضوجه وتطوراته ، ومظهر للروح العربية الثورية ، المتحفزة المقدمة ، المنطلقة دائماً للأمام .

إنها فكرة نادى بها زعماء البعث العربي ، وقد يبدو أنها فكرة بريئة تقدمية لا تمس مبادئ العقيدة ، ولا تغير وضع الدين ، ولا تجرح روح الإسلام ، وواضحة سهلة يسيغها العقل المتجرر والروح العربية الثائرة ، وقد وقع في هذه الشبكة عدد وجيه من الشباب الذكي ورجال الفكر في العالم العربي .

أما الرأي بأنها فكرة ثورية لا تمس روح الإسلام ، فإنه لا يصح مطلقاً ، لأنها لا تقطع الصلة بالنبوة والوحي والغيب . وتعطي أساساً آخر هو أساس التجربة العربية والواقع العربي فهو عندها الأم التي خلقت عدة بنات وبنين يحملون طبائع مختلفة ، ولكنهم على كل حال أولاد وأفلاذ أكبادها وعصارتها وانعكاسها ، وأما القول بأنها واضحة صريحة منطقية ، فإنها أبعد من الوضوح والصراحة أكثر من أي شيئ آخر ، لأنها تجاهلت التاريخ الإسلامي المبني على النبوة والوحي والغيب والرسالة السماوية الأخيرة ، ولم تميز بين فضائل الإسلام وفضائل ما قبل الإسلام ، وأقامت نظريةً كاملةً ، ودستوراً مسطوراً ، وأنشأت حزباً على ” افتراض ” وخيال لا صلة له بالواقع ، وفي هذه المناسبة أكتفى بنقطتين هامتين .

أولاً : الزعم بأن ” الواقع العربي ” هو أم الحوادث ، والتجربة العربية هو الأساس الذي يدور حوله القيم والأقدار ، والأهداف والغايات والمصاير والمعالم ، يقضي على ضرورة النبوة والوحي ، والرسالة والهدي السماوي ، والدستور الإلهي ، والتشريع الإسلامي ، ويجعله ” تابعاً ” يدور في فلك التجربة العربية ، ورحلتها الاجتماعية الفكرية ، وتقدمها الطبيعي ، كما يتقدم الولد في السن ، ويدخل من دور إلى دور ، ويكتمل نموه وتنضج عقليته على مر الأيام .

إنه يعني أن الإسلام مرحلة من مراحل الحياة العربية ، ولكنها مرحلة هامة تستحق الإعجاب ، ولها دور كبير في تكوين العقلية العربية ، إنه إن ينظر إليه ويعامل ، فيعامل على أساس أنه جزء من أجزاء الفكر العربي ، وتجربة من تجاربها ، لا على أساس أنه وحي منزل من الله ، ودستور سماوي خالد للبشر لا يقبل التغير والتعديل ، ولا يحتاج إلى ” زيادات ” وملحقات لتساير الزمن فإنه يسبق الزمن ، وينظر بنور الله العليم البصير القدير العزيز الحكيم الواسع ، لا بنظرة الإنسان المحدودة القاصرة .

إن معناه محاولة قطع صلة الشعب العربي عن معين النبوة الصافي الفياض ، وقطع صلته عن السماء ، لأن الإسلام الذي لا يكيف الحياة بل تكيفه الحياة ، والإسلام الذي لا يوجه الأحداث ، بل توجهه الأحداث ، والإسلام الذي لا يكوّن الشعور والعقلية ونظرة الشعب إلى الحياة والأشياء ، يكونه شعور الشعب الأصيل المتزايد ، ونظرته إلى الحياة والأشياء هو الإسلام الذي لا حاجة لنا به ، وهو ليس الإسلام المقصود ، المطلوب من البشر ، وهو ليس الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فغير به اتجاه العالم ونفسيته وعقليته ، ووضع له أساساً خالداً واضحاً معلوماً لا حاجة له إلى غيره ولا نجاة له في غيره .

ألا إنه لا قيمة للإسلام في كونه مجرد تجربة هامة ، أو كونه سهماً كبيراً رائعاً من السهام الكثيرة في تشييد الحضارة العربية واكتمالها الطبيعي ونضوجها العقلي ، إن قيمته أنه منزل من الله ودستور إلهي للبشر على اختلاف قومياته وأزمانه ، فإذا هدم هذا الأساس الأبدي الخالد الوحيد وقطعت هذه الصلة الحقيقية ، أو اضمحلت فتحت ثغرة واسعة ، بل فتح الباب على مصراعيه للإلحاد والمادية ، وحكم الإنسان للإنسان ، ولم تقف في وجه قوة تدفع بها إلى الوراء ، وتقاومها مقاومةً فعالةً ، وظهرت في العالم العربي – مهبط الرسالة السماوية الحارس الأمين للرسالة الإلهية الأخيرة والإسلام – فتنة عمياء يذهب لها لب الرجل الحازم ويصعب فيه أخيراً على باحث الحق التمييز بين الحق والباطل ، والنور والظلام .

ثانياً : إنها فكرة لم تقم على دراسة ” الإسلام ” ودراسة أدواره وتاريخه ، فحكم التاريخ شاهد عدل على أن العرب لم ترفع لهم راية إلا في ظل الإسلام ، وأنهم لم يحققوا كل هذه المعجزات والانتصارات إلا بقوة الإسلام ودافعه بعد ظهور الإسلام وانتشاره واستيلائه وتمكنه في العقول والقلوب والضمائر والأرواح .

الفضائل الإنسانية العامة مثل الجود والسخاء والشجاعة والمروءة ، والكرم ورجاحة العقل ، والشهامة والطموح وغيرها هي ليست أساس انتعاش الأمه العربية ، بل أساس انتعاشها وظهورها على مسرح القيادة العالمية ، هو دعوتها ورسالتها التي حملتها وتفانت في سبيلها وتقدمت بها إلى غيرها من الشعوب ، لأنها فضائل تشترك فيها جميع الشعوب في العالم ، وهي طبائع يولد بها الإنسان ، الإسلام بصفته ديناً إلهياً وتشريعاً سماوياً ، وبصفته دين الفطرة ، أبقى على هذه الفضائل ، لكنه غير اتجاهها ، ووضعها في خدمة الإسلام والرسالة السماوية ، فالكرم والشجاعة والمروءة والحرية لا تحمل معنىً ، بل تصبح عذاباً وتصبح وبالاً ، إذا لم تستوح الإسلام ، ولم تقتبس من نوره ، ولم تضطلع بروحه وأهدافه ومراميه ، إذن فالإسلام هو الأساس الوحيد لكل فضيلة ، وهو الذي جعل الفضيلة فضيلةً والرذيلة رذيلةً ، أو بتعبير آخر منحها معنىً وهدفاً وقيمةً واتجاهاً خاصاً .

الرذائل والفضائل لا تحمل قيمةً بنفسها ، وهي ليست محمودةً أو مذمومةً بذاتها ، بل إن الرضا الإلهي والسخط الإلهي هو الذي يمنحها الحسن ، أو يصمها بالعار ، ويكتب لها الخزي في الدنيا والآخرة ، وتلك نقطة يجب أن لا تفوتنا للحظة واحدة .

فالفضائل التي حملها العرب ، والحوادث التي مروا بها في تاريخهم ، والتجارب التي كونت شخصيتهم ، أو ساعدت في اكتمال الشخصية ، كانت فضائل ضائعةً ، أو فضائل ” هدامةً ” ولا مؤاخذة على هذا التعبير ، أو فضائل غير مقبولة عند الإسلام ، والرسالة المحمدية هي التي منحتها الهدف ، وهيأت لها الميدان ، وصقلتها ، وهذبتها ، وأنارتها بنور الله .

وهنا نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها في هذه السطور السريعة ، الدين – في كل زمان ومكان – لا يخلق الفضائل ، بل إنه يوجه الفضائل ، إنه لا يخلق الصفات ولا يأتي بها من العدم إلى الوجود ، بل إنه يستخدمها في سبيله ، ويصرف فيها حسب رغباته ، إنه لا يقطع شأفة الرذائل مثل الغضب والانتقام والشهوة والتنافس والحسد ولا يزيلها ، بل يميلها ويوجهها من الشر إلى الخير ، فيصبح الغضب محموداً في وجه الباطل ، ويصبح الانتقام محموداً في سبيل الحق ، والشهوة مباحةً في أوجه الحلال ، ويكون التنافس مرحباً به في مواضع الخير ، ويصبح الحسد غبطةً في الخيرات ، وسباقاً في الحسنات .

فالمسألة ليست مسألة فضائل ، أو مسألة صفات ، أو مسألة مقومات ، إنما المسألة مسألة عقيدة ورسالة ، ودعوة وهدف ، والإسلام هو الأساس الذي قامت عليه هذه العقيدة والرسالة ، وظهرت منه هذه الدعوة ، وهو الذي وضع للعرب خاصةً وللعالم الإنساني عامةً أهدافاً محدودةً معلومةً خالدةً ودستوراً كاملاً لجميع نواحي الحياة الإنسانية على اختلاف ظروفها وأوضاعها ، وعلى تباين أقطارها وبلادها ، وعلى تعدد مطالبها وحاجاتها .

فالبحث عن أسس جديدة لنهضة العرب واعتبار الإسلام عاملاً من العوامل التاريخية ، وتجربة من التجارب القومية ، ومرحلة ضرورية هامة من مراحل النمو الشعبي الطبيعي ورغبته في تحقيق الذات ، ليس إلا إحباطاً للجهود، وقتلاً للمواهب ، وإضاعةً للوقت ، إذا كان عن حسن نية ، ومؤامرة ضد الإسلام وتبييتاً لاغتياله في الظلام ، إذا كان عن خبث في النية ومكر في الصدر .

وعرض شخصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كنموذج للحضارة العربية العامة الغارقة في القرون ، وإنتاج رائع من إنتاجها ، ليس إلا محاولةً كريهةً متعفنةً لإدخاله – صلى الله عليه وسلم – في صف الأبطال والزعماء ، وتجريده من النبوة والكرامة التي أشرق بها الكون ، واستنارت بها الإنسانية ، ودعوة العالم العربي إلى أن يعود إلى عهد الظلام ، ويؤثر هذا التخبط والفوضى الفكرية على ذلك النور الذي جاء به الرسول ، فكان صبحاً صادقاً للإنسانية ودستوراً خالداً للبشرية ، ( قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [ المائدة : 15 – 16 ] .