سبعون سنة في مجال البعث الإسلامي

أخي القارئ الكريم !
ديسمبر 23, 2024
أخي القارئ الكريم !
ديسمبر 23, 2024

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

سبعون سنة في مجال البعث الإسلامي

مضت سبعون سنة على صدور مجلة البعث الإسلامي ، وهذه الفترة طويلة في مجال الصحافة العربية الإيجابية ، ولم يكن إصدار هذه المجلة خلال هذه الفترة مجرد مجلة فقط ، بل كان الهدف وراءها نشر الفكر الإسلامي إزاء الفكر المادي ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام ، وإعادة الثقة بالإسلام إلى الشباب المسلم ، وذلك بالتركيز على اللغة العربية لئلا يتخلف الجيل الجديد عن قافلة الحياة ، فقد تركت المجلة آثاراً رائعةً ، وملامح طيبةً على الأجيال الحديثة ، ونفخت فيها روح الإيمان واليقين ، وملأت قلوبها بالعواطف الإسلامية ، وبذرت فيها بذور الفكر الإسلامي ، حتى آتت ثمارها ، وانتفع بها كل قاص ودان ، وقريب وبعيد ، ولا تزال تستمر هذه السلسلة ، ونرجو أن الله عز وجل يقدر لها البقاء والخلود إلى يوم الدين بإذنه .

سبعون سنةً في تاريخ الأجيال مدة طويلة ، تأتي فيها ثلاث مراحل : فالأطفال يكونون شباباً ، والشباب يكونون كهولاً ، والكهول يكونون شيوخاً ، أضف إلى ذلك الشيوخ والمسنين ، فإنهم يفارقون الدنيا ، ويلبون نداء ربهم ، هكذا تتداول الأيام والليالي ، فسبعون سنة لها أهمية تاريخية في التاريخ الإنساني ، وقد رأت المجلة في هذه المدة كثيراً من التطورات والتحولات ، وتغير الحكام والأمراء ، وشاهدت أنواعاً من النظريات والأيدلوجيات ، وسياسات البلاد ، وسجلت الشعارات الزائفة من القومية والوطنية والتقدمية والرأسمالية والشيوعية ، فقامت بحل كثير من القضايا الشائكة ، والمشاكل العالمية ، وكشفت عن زيف النظريات الخداعة ، ورفعت اللثام عن الحركات الهدامة ، ولا تزال المجلة تقدم حلولاً ناجعةً ، وردوداً مقنعةً للنوازل والكوارث في ضوء الكتاب والسنة ، والفقه الإسلامي ، والأولى والأهم أن المجلة لا تزال تنشر المواد والدراسات التي تغذي كل الطبقات من الشباب والكهول والشيوخ ، والمثقفين والعقلانيين رجالاً ونساءً ، وتسدِّد خطاهم ، وتعطيهم نظرةً إسلاميةً صحيحةً نحو الأوضاع المعاصرة والظروف المتجددة .

سبقت مجلة الضياء مجلة البعث الإسلامي ، وقد أنشأ هذه المجلة الرائدة الأستاذ مسعود عالم الندوي بتعاون من زميليه الكريمين الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي والشيخ محمد ناظم الندوي رحمهما الله ، وقد أشرف على المجلة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي المراكشي ، والعلامة السيد سليمان الندوي رحمهما الله تعالى ، ويصور العلامة السيد سليمان الندوي وضع اللغة العربية في الهند إبان صدور مجلة الضياء : ” ما يؤلمنا ويشوكنا نشره أن هؤلاء الجم الغفير والعدد الوفير أكثرهم بُكم عن التكلم باللغة العربية ، ولهم عي عن الكتابة البديعة السلسة المنسجمة ، فضلاً عن الخطابة فيها مرتجلين ، وليست كتابتهم إلا في أمور طفيفة من الفقه ، أو أبحاث سمجة في المنطق تمجُّها الآذان ، ولا تسمن ولا تغني من جوع العلم ، وتنبو طباعهم عما تنشره الصحف والمجلات الأردوية ، فلا يقرؤنها فيحرمون من حظ وافر من العلم الذي يتزايد أمره كل يوم ، وينمو شأنه كل صباح ومساء ، وزادك أسفاً لو رأيت مناهج دروسهم العقيمة وما فيها من الكتب القيمة ذات الأساليب الرميمة ، وأول من تنبه لسد هذا الخلل وملافاة هذا الخطأ دار العلوم التي أسسها ندوة العلماء ، فأفرغت جهدها في تعليم اللغة العربية قديمها وحديثها ، كتابةً وخطابةً ، وزادت في قائمة درسها كتب الأدباء المجيدين من السلف الكرام ، الذين كتبهم ينبوع الأدب ، ومادة لغة العرب ” ( افتتاحية مجلة الضياء عام 1932م ) .

هكذا كان الوضع في الثلاثينيات من القرن العشرين الميلادي ، فظهرت مجلة الضياء على منصة الظهور عام 1932م ، وقد حازت المجلة ثقة الأدباء والمفكرين في العالم العربي ، ونالت حظوةً طيبةً في الأوساط العلمية والدينية ، وهي التي نفت عن قلوب العرب ظنهم الخاطئ عن مسلمي الهند في اللغة العربيه وآدابها ، حتى اضطر علماء العرب وأدباؤهم إلى مدح علماء الهند والثناء على اطلاعهم الواسع على اللغة العربية أدباً وفناً ، واعترفوا بفضلهم في هذه الناحية ، واستمر صدور مجلة الضياء أربع سنوات فقط ، ثم احتجبت وانقطعت عن الصدور ، ولم يكن لدى ندوة العلماء ترجمان أو لسان حال لها باللغة العربية ، ثم قدر الله تعالى أن تطلع شمس مجلة البعث الإسلامي من أفق ندوة العلماء عام 1955م ، فجعلت تنير البيئات العجمية والعربية بأضوائها ، وتنفض الغبار الكثيف عن أجواء العالم الإسلامي ، لا شك أن إصدار هذه المجلة كان مغامرةً كبيرةً ، واقتحاماً عظيماً في مجال الصحافة الهادفة ، لكن الله تعالى ذلل الصعاب ووفر الإمكانيات والوسائل لإصدار هذه المجلة .

صدرت مجلة البعث الإسلامي ، وهي تحمل عنواناً مثيراً يتفق والهدف المتوخى من إصدارها بإزاء البعث العربي ، الذي حصر الأمة العربية في نطاق العنصرية والعرقية بقيادة ميشيل عفلق ، مؤسس حزب البعث يوم ذاك ، إلا أنه لم ينجح في تحقيق الأهداف التي توقعها من خلال البعث العربي ، وسرعان ما نالت الجماعات الإسلامية في الدول العربية ضالَّتها المنشودة في اسم البعث الإسلامي ، وجعلته عنواناً لدعوة الناس إلى الإسلام من جديد ، فكان سماحة العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي قد تنبأ بحزمه وبصيرته النافذة حاجة الأمة الإسلامية إلى البعث الإسلامي ، ودعوتها إلى منصبها الدعوي القديم ، وسمَّى المجلة بهذا الاسم الجامع الذي يمثل رسالة الإسلام وحاجة الدعوة المعاصرة .

وتعتبر فترة الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله فترةً ذهبيةً للمجلة ، فإنه وقف كل شيئ لرفع مستوى المجلة ، فسرعان ما أصبحت المجلة من أشهر المجلات العربية ، وقد أدت المجلة واجبها نحو البعث الإسلامي واليقظة الدينية في العالمين العربي والإسلامي ، وقد وضعت على الوتر الحساس ، فشعرت بآلام النقد اللاذع القوى المعادية للإسلام ، يتحدث الإمام الندوي عن هذا الوضع : ” لما جاءت الفترة الحالكة التي هبَّت فيها عاصفة القومية العربية الهوجاء في الخمسينيات الأولى ، وسحر بها أكثر أبناء العرب وشبابهم ، وكثير من كهولهم وعلمائهم ، يقودها الرئيس المصري جمال عبد الناصر بشخصيته القوية وبراعته في فن الدعارة والمناورة ، وكانت فتنةً عمياء ، أعمت وأصمت ، وموجةً عارمةً اكتسحت الصحافة والأدب ، برزت مجلة البعث الإسلامي في الميدان ، وعلى رأسها محررها الشاب يحمل راية النقد الجريئ ، والحسبة القوية ، والهجوم العنيف ، حسبت له القيادة المصرية وصديقاتها حسباناً لم تحسبه لمجلة أخرى ، وطلب تحريرها في الجهات المختصة في بلاده ، ونوقش الموضوع ، فلم يلن ، ولم يستكن ، واستمر في كتاباته ، حتى انقشع الضباب ، وتبين الصبح لذي عينين ، وتلك مأثرة تنير تاريخه في الدنيا ، وتبيض صحيفته في الآخرة بإذن الله تعالى ” ( تقديم للإسلام الممتحن ) .

فمجلة البعث الإسلامي جامعة عالمية فكرية ، ومدرسة توجيهية تربوية ، ومؤسسة علمية وأدبية يتعلم فيها الصغار والكبار ، والرجال والنساء ، والعلماء والمثقفون ، وقد حلم بهذه الجامعة مؤسسها الأستاذ السيد محمد الحسني رحمه الله قبل وفاته بسنوات ، وظل رئيساً لهذه الجامعة خلال أربعة وعشرين عاماً ، وكانت أقسام هذه الجامعة تشتمل على التفسير والحديث والفقة الإسلامي ، والفكر الإسلامي والأدب والبلاغة ، والنحو والصرف وعلم الاقتصاد والغزو الفكري ، وقضايا العالم الإسلامي ، فكان الطلاب الملتحقون بهذه الجامعة يواصلون دراساتهم خلال هذه المجلة ، ولا تزال تستمر هذه السلسلة ، فكم من خاملي الذكر نالوا بها شهرةً وصيتاً حسناً ، وكم من ضعاف العقيدة والإيمان رسخت عقائدهم في أذهانهم ، وكم من أغلوطات وشبهات أزيلت ودفنت في عقر دارها ، وكم من نظريات وأفكار هدامة كشفت زيوفها ، وقد خرَّجت جامعة البعث الإسلامي آلافاً مؤلفةً من الدعاة والمفكرين والكتاب والمؤلفين ، والمثقفين ، وهم منتشرون في أنحاء العالم الإسلامي ، يسبحون بحمد ربهم – فلله الحمد والشكر – .

فنتفاءل بمرور سبعين سنة على المجلة بأن الله تعالى تقبل جهود المسئولين ، وكلل مساعيهم بالنجاح ، وتوج أفعالهم بتاج الكرامة والشرف ، بحيث بلغت المجلة إلى سبعين سنة ، وقد استعملت كلمة سبعين في الحديث النبوي للكثرة والزيادة ، أما سبعون ألفاً من الملائكة يطوفون البيت المعمور أو يدخل الجنة سبعون ألفاً من الرجال الذين لا يرقون ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ( صحيح البخاري : 5705 ) فحدث عن البحر ولا حرج ، فمجلة البعث الإسلامي شجرة وارفة الظلال ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون .

والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .

سعيد الأعظمي الندوي

25/4/1446هـ

29/10/2024م