مُقَارنَة فِكريّة ومُقَاربة في العطاء بين إمامَيْن مشهورين : الحارث المُحاسبي ومحمد الغزالي

بعض علماء اللغة العربية في الهند كما عرفتهم
أغسطس 3, 2024
الشيخ أبو بكر الصديقي الفرفروي : حياته وأعماله الدينية
سبتمبر 2, 2024
بعض علماء اللغة العربية في الهند كما عرفتهم
أغسطس 3, 2024
الشيخ أبو بكر الصديقي الفرفروي : حياته وأعماله الدينية
سبتمبر 2, 2024

رجال من التاريخ :

مُقَارنَة فِكريّة ومُقَاربة في العطاء

بين إمامَيْن مشهورين : الحارث المُحاسبي ومحمد الغزالي

بقلم : الدكتور صالح العَوْد

باحث وكاتب

كِلاهمَا في نظري – والله تعالى أعلى وأعلم – وبعد تتبّعي ، أنّهما شخصيتان ممتازتان من الطِّراز الرفيع ، ذاعَتا حتى اشتهرتْا في العالم كله : فالإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبِي من علماء القْرن الثالث الهجري ، بينما الإمام أبو حامد الغزالي من علماء القرن السادِس الهجري .

ومن هنا نعلم أنّ المحاسبي سابِق على الغزالي بِقُرون ، وأنه فِعْلاً ممّن بَدَرَ فبَذَرَ شجرة التربية والسلوك ، حتى بَسَقَتْ أغْصانُها ، وتفرّعتْ منها : مكارم الأخلاق ؛ وتتلْمذ عليه أخيار أبرار ، صاروا قُدْوةً صالحةً في المجتمع .

عُرف منهم : السّرّاج ، والجنيد ، وأبو نعيم ، وأبو طالب المكّي ، والحكيم الترمذي ، وأبو سعيد الخّراز ، ممَن ظهروا فيما بعْد .

ولما جاء الغزالي بعد عصور ودهور طويلة ، وجد سبيل التربية معبّدة ، فسار على خطاه ، واهتَدَى بهُداه ، وتحقق بما أرساه ، بل زاد عليه ، وأصبح يُشار إليه بالبَنَان في كل الأوطان ؛ حتى نُسيَ الإمام المُحاسبي ، بعد وفاتِه سنة ( 243هـ – 857م ) وغدا كأنه أصل مدرسة التربية والسلوك ، وواضِع قواعد رياضة النفس ؛ وتهذيب الأخْلاق ، وهداية السلوك .

ويقول في هذا ، الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في تقديم رسالته الدكتوراه بجامعة السوربون ، حول كتاب : ” الرعايَة لحقوق الله لأبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ” ص 38 : ” من الواضح أن تلميذه  الأكبر – ويلتقي به – كان الإمام الغزالي ؛ وهو يعترف بأنه قرأ كتب الحارث المحاسبي ، وقد قال ذلك في كتابه : ” المُنْقِذ من الضلال ” ؛ ولقد قرأ أيضاً سيرة الحارث المُحاسِبي . . . ثم إنه نقل عنه في كتابه ” الإحياء ” كثيراً من الآراء والنصوص . . . ثم يقول عنه – دون تحفُّظ ولا استثناء – هذا التقدير الهائل : ” المحاسِبيّ خيْر الأمّة في علم المعاملة ، وله السبْق على جميع الباحثين : عن عيوب النفس ، وآفات الأعمال ، وأعوار العبادات ؛ وكلامه جدير بأن يُحْكَى على وجهه ” . اهـ

ويقول معاصرنا المحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة ، محقق وناشر كتاب ” رسالة المسترشدين/للمحاسبي ” في تقديمه لها والتعريف به : ” نهض في تدوين أحوال النفس وتزكيتها ، وبيان عيوبها في وقت مبكّر ، في ختام القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة ” . اهـ

وإذا توقفْنا عند مقاربة العطاء ، فإننا واجدون ” تُرَاث ” الإماميْن قريبَ الشّبَهِ بيْنهما مع تفاوت فيما خلّفاه : ” كمّاً ” ، و ” كَيْفاً ” ، و ” نعتاً ” .

فالإمام المُحاسِبي خلَّدتْهُ كتبُه ورسائلهُ التي قاربت مِائَتَيْ كتاب ، وأعلاها نَفَساً وحجْماً ، كتابُه : ” الرعاية لحقوق الله ” ، والذي اعتنى به غاية الاعتناء : نشْراً ، وتحْقِيقاً ، وتعْليقاً ، وتقديماً : الأستاذ الباحِث عبد القادر أحمد عَطَا والذي صدر عن مطبعة السعادة بالقاهرة في ( ستّ مائة صفحة من القطْع الكبير ) ؛ وأنا أملك منه نسخةَ الطبعة ( الثالثة ) سنة (1390هـ – 1970م ) .

وجاء في خِتَام التحقيق بقلمه : ” تمَّ تحقيق كتاب ” الرعاية لحقوق   الله ” ، وهو كما يرى القارئ ، شأنُه شأن كل تراث الإمام المحاسبي ، قِمَّة من الفكر الإسلامي في عِلْم النّفْس الإسلامي الخالص ، وبهذا الكتاب ، أكون قد استوعبْتُ تراث المحاسبي تحقيقاً ” .

أما الإمام الغزالي ، فله أيْضاً من الرسائل الرقيقة والدقيقة ما يشد الانتباه ، ويوقف الأوَّاه ، إلى أسرار ما أمْلاه لسانُه ، وخطّه بنانُه ، أدناها :     ” المنقذ من الضلال ” ، وأعلاها كتابه الموسوعَة ، المعروف بـ ” إحياء علوم الدين ” ، في أربعة أجزاء مطبوعَة .

وقد يخطر ببال قائِل : أليْس في هذه المُعادَلة ، مسألة ، مفادُها تحديداً : تلاقُح الأفكار عند الإماميْن : المحاسِبي والغزالي ؛ والجواب في ذلك ، قد يكون صحيحاً ، لكنّ المتعارَفَ عليه ، أو الجاري به العَمَل ، أن المتأخِّر غالباً ما يكون عالةً على السابِق ، واللاّحِق يأخذ عنه سواء بواسطة أو بدون واسطة ، من عيون الأخبار ، وجزالة الأفكار ، التي يجدها دانية القُطوف ، جاهزةً بيْن يديه .

وهو ما حصل بالفعل للإمام الغزالي ، وإليك الدليل :

  • قال العلاّمَة محمد زاهد الكَوْثَرِي – شيْخ الإسلام في الدولة العثمانية سابِقاً – : ” تبطّن الغزالي كتاب ” الرعاية ” في كتابه ” الإحياء ” . اهـ
  • وكتب الإمام المُناوِي عن المحاسبي في كتابه : ” الكواكب الدُّرِّيّة ” ، ما نصُّه : أبَرَع في عدة فنون ، وتكلّم على الناس ، فأراهم الجوهر المكنون ، وأحيا القلوب بوعظه ، وشنَّف الأسماع بِدُرَر لفظه ؛ تصانيفُه مدوَّنة مسطورة ، وأقواله محبوبَة مشهورة ” .

ومسك الختام ، نورِد من أقواله لجميع الأنام ، هذا الكلام :

  • خِيارُ هذه الأمّة ، الذين لا تَشغلهم آخرتُهم عن دنياهم ، ولا دنياهم عن آخرتهم .
  • الظالم نادم وإن مدحه الناس ، والمظلوم سالم وإن ذمَّه الناس .
  • حُسْن الخُلُق : اِحتمال الأذى ، وقلة الغضب ، وبسْط الوجه ، وطِيبُ الكلام .

رحم الله الإمامَيْن في الداريْن ، وأثابهما عما قدَّما للأمّة .