رحلة إلى الأردن : بين المقدسات والمعالم ( الحلقة الأولى )

عَلَى أَوْتَارِ الْحُزْنِ •
مايو 4, 2024
عَلَى أَوْتَارِ الْحُزْنِ •
مايو 4, 2024

أدب الرحلات :

رحلة إلى الأردن : بين المقدسات والمعالم

( الحلقة الأولى )

الأخ السيد عبد العلي الحسني الندوي [1]

وداعاً أيتها الأرض المباركة المقدسة الميمونة ، أرض المحبة والفداء والود والوفاء والعشق والولاء ، أرض التراحم والتوادد والتعاضد والتكاتف والمواخاة بين إخوان الصفاء ، وداعاً أيتها المدينة المنورة ( على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم ) غير مهجورة ولا مملولة .

ودعنا أرض الحرم النبوي الشريف ليلة السبت ١٢ من شهر أبريل 2024م ، متعهدين بالعودة السريعة إليها خلال بضعة أيام .

يصاحبني في هذه الرحلة الأخوان العزيزان أحمد صديق الندوي ومحمد عفان الندوي ، وقد كانا في الحجاز منذ أيام عديدة .

ففي ليلة هادئة ساكنة توجهت بنا السيارة السباقة إلى مدينة تبوك ، بل طارت بنا إليها بتعبير أصح ، قضينا طول الليل في السيارة بين نوم ويقظة ، وأصبحنا بسلامة وعافية في قرية من القرى من أطراف المدينة ، ونحن على وشك الوصول إليها ، صلينا الفجر من أول وقتها في مسجد على الطريق ، واشترينا بعض الحوائج من بقالة تقع بجانبه ودخلنا مدينة تبوك حامدين لله سبحانه وتعالى عند انفلاق الصبح المديد وبزوغ الشمس الزاهرة . وقبل أن نغادر إلى وجهة رحلتنا ألقينا نظرةً عابرةً على مدينة تبوك التي تتميز في البقعة الشمالية من جزيرة العرب بغزوة مرموقة خرج لها الرسول صلى الله عليه وسلم عام ٩ من الهجرة بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر ، وكانت تلك الغزوة آخر الغزوات التي خاضها الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – والتي حققت الأهداف العديدة المرتقبة منها والانتصارات البينة ذات الأهمية البالغة بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع جيوش الروم البيزنطية والعربية حيث أنجز المسلمون فيها الضغوط على الروم فسحبوهم من المواقع الشمالية في شبه الجزيرة العربية ، ومن ثم تمت سيطرة المسلمين على المناطق الحدودية في شمال جزيرة العرب ، وتحقق استيلاؤهم عليها كلياً واتخذت هناك الخطوة المهمة الأولى لبعث جيوش الإسلام إلى بلاد الشام في سنوات لاحقة .

نزلنا في قلب مدينة تبوك عند محطة الباصات الوطنية واستعلمنا عن الموقف الدولي لسيارات الأجرة للأردن ، فأعلمنا رجل أنه يقع خلف المحطة على مسافة قصيرة فتمشينا إليه مباشرةً ، ولم يكن البعد من محطة الباصات إلى موقف السيارات إلا خطوات يسيرة ، وكان الموقف حينذاك شاغراً تماماً للصباح الباكر ، فأجرينا جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ مراحل الرحلة عبر الحدود البرية من فحص جوازات السفر وتوثيق بعض التفاصيل الشخصية الضرورية على استعجال ، والآن نحن نتوجه إلى المملكة الأردنية الهاشمية ، ووجهتنا الأولى هي عاصمتها مدينة ” عمان ” .

الأردن قبل قرن وأكثر مع شقيقاتها من سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة كانت مجتمعةً موحدةً مسماةً ” بلاد الشام ” تحت مظلة العلم العثماني المرفرف المحيط على كثير من البقاع الإسلامية ، وكانت حينئذ من طولها وعرضها من البحر الأبيض المتوسط في غربها إلى جبال زاغروس في شرقها ومن جبال طوروس في شمالها إلى الصحراء العربية في جنوبها تعتبر كياناً مترابطاً واحداً ، جغرافياً وسياسياً ، دينياً وحضارياً . وكانت هذه البلاد الزاخرة العامرة بطبيعتها الخلابة المتدفقة ، المورثة للموارد الوفيرة والثروات الهائلة تحتل مكاناً مهماً قيماً للعالم العربي الإسلامي بوجه خاص ، وتتبوأ درجةً عاليةً رفيعةً وحبيبةً في القلوب المسلمة والنفوس المؤمنة بوجه عام بما تقع عليه هذه الأرض المرموقة قبلتنا الأولى ، وورد عديد من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها وشأنها وسمو مكانتها وعلو درجتها واحتوائها على الفتن والملاحم عبر العصور المختلفة والمقاومة المستدامة من عصابة مؤمنة مجاهدة في سبيل الله .

فكلما عانت هذه الأرض من أزمات حرجة ( ولا تزال في معاناة قاسية ) ، وواجهت تحديات وصراعات ساخنةً قام بصددها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وجماعات مؤمنة مجاهدة في سبيل الله إلى أن جاءت العقود الأخيرة ، وجعل المسلمون يُستضعفون صورةً وحقيقةً في مشارق الأرض ومغاربها وتدهورت حال العرب العرباء ودبت في شرايينهم الاستكانة والذل والخضوع لكل طاقة أجنبية والطمع والجشع للحصول على الملذات ، وتغلغل في أذهانهم حب امتلاك الثروات حتى ولو عن طريق التلاعب بقوانين اللّه ، وتجرؤوا لمجرد تحقيق الأغراض الشخصية والمنافع الذاتية على انتهاك الحرمات واستخفاف المقدسات وآثروا المصالح الحكومية الخاصة على مصالح الدين والشعب ، فهم في الحقيقة ضربوا أنفسهم من الداخل أكثر ماضربوا من الخارج ، فكان الوضع منذئذ ما ازداد إلا سوءاً وخراباً .

ومما زاد الطين بلةً وقوع الحرب العالمية الأولى عام 1914م التي استمرت في عدة جبهات لأربع سنوات متتالية ، وانتهت عام 1918م ، ومعها طوي بساط الخلافة العثمانية وتوزع تراثها في الدول المنتصرة في الحرب ، فاشتد الأمر على المسلمين وتفاقمت أوضاعهم الكارثية وازدادت عليهم الاعتداءات بشكل متزامن من أقصى العالم إلى أقصاه وتبددت وحدة الأمة الإسلامية وانهارت أسس بنيانها ونزلت صاعقة الاستعمار الإنكليزي والفرنسي المستبد الغاشم على جميع أنحاء بلاد الشام ، وكشر الاستعمار الفرنسي عن أنيابه ، فعض على أكثر مناطقها ، وابتلعت ما بقي منها سيطرة الاستعمار البريطاني من طرفها الجنوبي إلى المناطق المحتلة الفرنسية في شرقها ، وبعد سنوات قليلة احتل الاستعمار البريطاني بلاد الشام كافةً –  وتم كل ذلك من خلال اتفاقية   ” سايكس بيكو ” وهي معاهدة سرية بين فرنسا وبريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا – واستمر هذا العدوان الغاشم والاستعمار المستبد الفتاك في هذه البلاد المباركة إلى أوائل الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي ، ونهبت البلاد وقتلت الرجال وامتصت الأموال والثروات وانتهكت المقدسات خلال هذه الفترة القاسية الممتحنة ، وبعد ما قامت القوات المستعمرة المحتلة بأنواع من الفساد والخراب والدمار لسنين طوال قاموا إلى تجزئة هذه البلاد التاريخية المزدهرة وتقسيمها ، فنجحوا في خططهم الماكرة – وهي تمزيق قوة المسلمين المتبقية وخرق شملهم وكسر شوكتهم تماماً – لتوهن حكام العرب المتخاذلين وانتفاء شعور الاعتزاز بالنفس والقوة الإيمانية عند المسلمين ، فتحولت الشام إلى أربع دويلات صغيرة منها ” المملكة الأردنية الهاشمية التي تحيط بها ” المملكة العربية السعودية ” من الجنوب و ” الجمهورية السورية ” من الشمال و ” الجمهورية العراقية ” من الشرق والأراضي الفلسطينية المحتلة من الغرب .

فكنا متوجهين إلى المملكة الأردنية الهاشمية مستغرقين في تقلبات الزمان التي مر بها الإنسان ، فلم يستطع السير معها والتغلب عليها ، فأمسى هامداً خامداً لا روح فيها ولا حياة ، وصار في ذيل القافلة ، وقد كان منها في مأخذ الزمام ، فكنا نرتحل عبر حوادث الأيام ونقلق على انحطاط أهل الإسلام إذ وصلنا على منفذ ” حالة عمار ” .

” منفذ حالة عمار ” هو أحد من ثلاثة منافذ برية ، وهو يقع في وسط الحدود الشمالية من الجزيرة العربية بين المنفذ الشرقي قرب الجمهورية العراقية والغربي على ساحل خليج العقبة ، وهذا الحد السعودي تابع لمنطقة تبوك ، دخلنا في الجمارك ، وتمت مرحلة فحص الجوازات والتأشيرات الإلكترونية على الجانب السعودي بدون مشاكل كبيرة رغم  شيئ من الالتباس والتشوش من ضباط الجمارك لأول وهلة ، وسمحوا لنا بالدخول في الجمارك الأردنية التي تسمى ” حدود المدورة ” ، وهنالك واجهنا إجراءات صعبةً فبقينا منتظرين لمدة غير عادية ، وفي أثنائها استدعيت في مقصورة الضابط الرئيسي لبعض الاستفسارات ، فطرح علي أنواعاً من الأسئلة مما يتعلق بالدراسة والنشاطات العلمية والخلفية العائلية والانتماء إلى الحركات الدينية الفكرية ومقاصد الرحلة وغيرها واستغرق هذا الاستجواب والتحقيق الاستقصائي أكثر من ساعة ونصف ، الذي شعرت منه ببعض الملل والضجر والاستغراب في التعامل ، ولكن في النهاية سمح لنا بالمرور باحترام وتقدير . وعلى كل حمدنا الله وشكرناه لما يسَّر لنا الأمور من البداية حتى النهاية .

وخرجنا من الجمارك وأعربنا عن استغرابنا عند السائق الأردني في سلوك الضباط التمييزي معنا فقال : لعلكم اُستوجبتم بجد وشدة لتدينكم وارتدائكم الأزياء المحتشمة الدينية ، فالعجب كل العجب أن شعائر الدين أصبحت مواضع التهم في دولة إسلامية عريقة ، ومسنا بعض الحزن والقلق لما سمعنا من السائق هذا الاستيحاش من الدين وذويه في الهيئات الحكومية خاصةً ، ودخلنا في المملكة الأردنية الهاشمية على شيئ من التوتر والانزعاج قرب الساعة الحادية عشر ظهراً ، وكانت محطتنا الأولى في رحلتنا هذه مدينة ” عمان ” عاصمة المملكة التي تبعد حوالى ٢٠٠ كلو ميتر عن الحدود ، وكنا نمر بالطريق الرئيسي الذي يربط جنوب المملكة بشمالها ، وكنا مرهقين من شدة التعب لاستمرار السفر منذ يوم ونصف من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ومنها إلى تبوك ، والآن توجهنا مباشرةً إلى عمان دون توافر قسط من الاستراحة في منتصف الطريق ، ولكنني رغم التعب والعناء لم أتمكن من إغماض عيني لدقيقة واحدة ولم يأخذني النعاس طول السفر بل أسرني التاريخ الحجري المذهل القديم للأنباط والرومان ، وكانت المآثر التاريخية والمعالم الأثرية والمباني الضخمة المنحوتة صخورها تنتشر وتتراكم في محافظة ” معان ” التي نمر بها الآن وكانت أبرزها ” البطراء ” و – هي مدينة أثرية ذات جذور قديمة ضاربة في أعماق التاريخ الحجري القديم – التي تقع في غرب المنطقة على مسافة ثلاثين كلوميتر ، ولكننا لم نتمكن من سياحتها لوقت ضيق كما قررنا سابقاً للوصول إلى عمان في أسرع وقت ممكن ، فاستمررنا في التقدم إليها دون تلبث فيما بين الطريق من خلال صحار قاحلة جدباء وتلال جافة عوجاء .

قرب الساعة الثانية عشرة ظهيرة عند زوال الشمس المشرقة تطلع علينا مدينة ” عمان ” المبتكرة وخالطني حبها من أول نظرة ألقيت عليها لمناخها البارد الرائع والنسمات الممتعة اللطيفة التي تداعب الروح وتهف القلوب وتجلي المشاعر وتغذي الأفكار ، فكانت المدينة تقع على تلال متموجة بين الصحراء ووادي الأردن الخصب وتترصع بمعالم تاريخية وأطلال رومانية وآثار إسلامية ، وتتميز بتناقضات مدهشة مزيجة بين القديم والحديث من المباني الشامخة الضخمة والفنادق الإبداعية الفخمة على جانب ، والأحياء الصاخبة القديمة والمقاهي المزدحمة التقليدية على جانب آخر ، ونحن ننزل في وسط البلد بالقرب من المسرح الروماني التاريخي الشهير ، وشعرت في لحظة أولى حينما كنا نطوف في الحي للعثور على الفندق بأسعار ميسور التكلفة بأن الإسلام عاد غريباً ، فقد عرضت الحضارة الغربية ومعاييرها المادية المصطنعة المسمومة لشباب الإسلام في عسل التنور والتقدم ، وهم يتساقطون عليها كما يتساقط الفراش على النار ، فكانت المقاهي مزدحمةً مختلطةً بين الفتيان والفتيات والملابس والأزياء بين تقليد الغرب ومواكبة صرعات الموضة الأوروبية والأمريكية ، والاعتناء بقيم الإسلام النقية الفطرية وأقداره النبيلة الطاهرة قد ندر وقل ، والتمسك بمزاياه المتميزة الممتازة قد أفل واختفى ، والمجتمع يسلك دروباً تفضي إلى مركب النقص وعدم الثقة بمثله العريقة العليا والشعور بالإشمئزاز إزاء الدين الحنيف وشريعته الخالدة ولا يمثل المجتمع حقيقة الإسلام ولا صورتها كذلك .

( للحديث بقية )

[1] نجل الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي .